خيار المواطن في وطنه
عبد الرحمن قريشي
دلف إلى المسجد لأداء الفريضة كعادته، وفي ذهنه صورة وخبر اطلع عليهما والمؤذن ينادي.
أما الخبر فهو ما تعودت وسائل الإعلام الحديث عنه بلا اكتراث، بل تتسابق إلى نشره، لأنها تملأ به الفراغ الذي أحدثه عدم الجدية والصدق، والبعد عن وظيفتها العتيدة: شباب يغامر ويقامر بحياته في خضم البحر بحثا عما افتقده هنا، وتوهم وجوده هناك من حياة كريمة تليق بإنسان القرن الواحد والعشرين.
وأما الصورة فلشاب لفظه البحر بعدما أراحه من الحياة الضنك التي يريد هو التخلص منها، كما حرمه من الحياة الرغيدة التي ينشدها.
ولما اقترب سمع واعظا غليظ الصوت يقول: اللهم لا تمتنا حتى نصلي في المسجد الأقصى!!
تساءل مبتسما: هل يحلم الخطيب أو يكذب على العوام المضيعين وقتهم أمامه، أو ينفذ تعليمات بلهاء، لا يؤمن بها ولكنها فرضت عليه فرضا؟!
أيا كان الأمر فمن يحرر الأقصى حتى يصلي فيه الخطيب الحالم الكذوب: الشباب الذي يخاطر بحياته في مغالبة أمواج البحر، هربا وهجرا لوطن لا يسعه، بحثا عن عيش كريم وحرية وعدالة في غير وطنه، وقد يتعرض للرصاص إذا تحدى الأمواج وغلبها أم الجيوش المتكلسة المعدة أصلا والمدربة على حماية الاستبداد السياسي والفساد الإداري والظلم الاجتماعي؟
لنا وطن، نعم، لنا علم، نعم، لنا حدود، نعم، ولكن لا كرامة لنا فيه، ولا عدالة ولا تنمية، وإن اتشحنا بوشاحهما!!
تناقض أي تناقض!
التفت يمينا، فرأى المسجد والماخور متلاصقين، يؤديان وظيفتيهما المتناقضتين في انسجام ووئام بل وتعاون في بلد العجائب!
التفت يسارا، فوجد صاحب الكوخ يمجد صاحب الفيلا، على جوده عليه بالفتات الذي هو سؤر كلبه! وكان الواجب أن يقاسمه خيرات الوطن.
تطلع أمامه، فشاهد صناديق الانتخابات تفرز الاستبداد السياسي!
أدار ظهره، فرأى الإخلال بالمسؤولية والحصانة ميزة لكل مسؤول! فقال بما يشبه السخرية: اللهم إني أعوذ بك أن أغتال من تحتي!
المؤسسات والمعاهد العلمية منتشرة في ربوع الوطن كالفطر، ولكن التخلف الحضاري يجثم على العقول ويخنق الأنفاس، وما لم يجد علينا عدونا بالغذاء والدواء فالموت في الطرقات كالكلاب الجرباء حتم أكيد!!
أي نكتة هذه الحياة التي تعيشها هذه الأمة؟!
ماض قاتم، لا تعدم من يمجده، ويرى أننا خير الأمم!
حاضر مر، كريه المخبر والمنظر، لا يستحي انتهازي متلون أن يقارن ويقول: ألسنا خيرا من هذه الدولة الفاشلة أو تلك؟!
مستقبل مجهول، لا يتورع سفيه القوم عن التبشير بخيره العميم، وآفاقه الواعدة!
سياسة موجهة من بعيد، لا يملك المتحكمون غير التنفيذ الحرفي!
إعلام مستأجر وظيفي، كالعاهرة تأكل بثدييها وفرجها!
اقتصاد ريعي، بشمت به البطون وتدلت الأغباب!
إدارة فاسدة، تسيرها ذئاب مسعورة تغير على كل شيء، أسود على الشعب، حملان وديعة تسترحم أعداءها!
برلمان يمارس الإقطاع في أعلى تجلياته، يسب نوامه المترفون الشعب المحروم، ويسرقون قوته عن طريق القانون!
حتى المنابر في المساجد لا يعتلي أعوادها إلا من يخدر وينوم!!
ظلمات بعضها فوق بعض، هل أستطيع الخروج منها أتبين مواقع قدمي؟ هل أضع كل تلك الطوام دبر أذني، ثم أنشر الصلاح وأغار على الوطن وأنشد له ولقاطنيه الخير؟
أما الضمير المعذب فيقول: نعم، فما أجمل الصلاح والعمل والأمل والخير! ولكن الواقع البائس يقول: هيهات، هيهات! وهل تصلح الأوطان بالأحلام والتمنيات؟ فإن استطعت أن تندل ندل الثعالب، وإلا فحري بك أن تغالب الأمواج للهرب والمغادرة!