علاقة علوم اللغة العربية بعلوم القرآن:
أحمد ابرجيكي
تعتبر اللغة العربية ركنا أساسيا من أركان الشخصية العربية خصوصا، والإسلامية بشكل عام، وهي لغة القرءان، اصطفاها الله تعالى من بين سائر اللغات لتكون وعاء لكتابه العزيز، وجعلها لغة خاتم الأنبياء و المرسلين، لا يمكن أن تزول إلا بزوال القرءان، أي أنها لغة حية و خالدة وباقية إلى أن يرفع القرءان نفسه، تكفل الله بحفظها ظمنيا في قوله تعالى:{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[1]. أما علوم القرءان فهي مجموعة من العلوم التي تتناول الأبحاث المتعلقة بالقرءان، كالتفسير مثلا.
إذن، ماهي العلاقة بين علوم القرءان وبين اللغة العربية وعلومها ؟ بمعنى آخر إلى أي حد استطاعت علوم اللغة العربية أن تعين القارئ على التعامل الجيد مع النص القرءاني؟
1. علوم اللغة العربية وعلوم القرءان، أية علاقة ؟؟؟...
القران الكريم كلية الشريعة وينبوع الحكمة ودستورالحياة ونظام أمة أنزله الله تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين وأمره تعالى بتبليغه عنه -سبحانه وتعالى- بلسانه العربي. وتعتبر اللغة العربية وسيلة لفهم أشرف مقاصد النص القرءاني ومعانيه، أي أن اللغة العربية ليست من العلوم المقصودة لذاتها، بل هي موجهة ومسددة للإنسان في تعلم العلوم المقصودة في ذاتها، وهي فهم معاني النص القرءاني ومقاصده وغاياته الكبرى المتمثلة في تلقي الأحكام الشرعية منه. ولذلك استعان العلماء باللغة العربية وعلومها في فهم كلام الله وتحديد دلالاته. وقد جعل ابن تيمية رحمه الله اللغة العربية من الدين الاسلامي بقوله:" إنَّ نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب، فإنَّ فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"[2]، وهذا ما أكده ابن رشد الجد بقوله: " لايصح شيئ من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان العرب، يقول تعالى:{ بلسان عربي مبين}[3]"[4].
فإذا تقرر أن القرءان نزل بلسان العرب، والشريعة جاءت بلغة العرب، وأن اللغة العربية لغة إسلامية عالمية، وليست قومية، فإن العناية باللغة العربية عناية بالشريعة ومستقبل العلاقة بين القرءان الكريم واللغة العربية لايختلف عن مستقبل الإسلام ولغته الحية. لذلك ينبغي النظر في حكم من زعم انه لا يحتاج الى لسان العرب في فهم الشريعة وعلومها، ويضعون بذلك اقفاصا حديدية تحبس جدور العلاقة التلازمية بينهما بداخلها، لا سيما وأن علوم القرءان هي استمداد من علوم اللغة العربية.
فهذه باختصار شديد العلاقة بين علوم اللغة وعلوم القرءان، وهي علاقة تلازم وارتباط، بحيث لاغنى لأحدهما عن الآخر، باعتبار العربية لغة وسعت كتاب الله لفظا وغاية، قال تعالى:{إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون}[5]، وقوله عز من قائل:{إنا انزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون}[6] وقوله عز وجل:{قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون}[7]، فهذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن اللغة العربية مدينة للقرءان الكريم خصوصا، وللدين الإسلامي عموما، لأن فضل وجودها واستمرارها في الانتشار يرجع إلى كتاب الله عز وجل، يقول المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري:" والواقع أن العروبة ما كان لها أن تنتشر كل هذا الانتشار في أقطار الوطن العربي بامتداده الحالي وتنجح في ( تعريب ) كل هذه المناطق الشاسعة، لو لم تستلهم روح الإسلام، وتنضبط بضوابطه وتبتعد عن محاذير الاستعلاء العنصري"[8].
2. مكانة علوم اللغة العربية من علم التفسير:
يطلق علم التفسير على العلم الذي يبحث عن بيان معاني الفاظ القرءان وما يستفاد منها باختصار أو توسع[9]، وتعتبر اللغة العربية أهم الأدوات لفهم كتاب الله تعالى وتفسيره وادراك معانيه ومقاصده، لأن القرءان أنزل بلسان عربي مبين، لذلك فهو جار في الفاظه وإعرابه واشتقاقه وأساليبه على لسان العرب، قال سبحانه:{وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين}[10]، فالذي يتصدى لتفسير الكتاب يجب عليه ان يكون متمكنا في اللغة العربية وأصولها وقواعدها، وقد بين الامام الشاطبي مكانة اللغة اللغة العربية في فهم القرءان وتفسيره بقوله:" كل معنى مستنبط من القرءان غير جارعلى اللسان العربي، فليس من علوم القرءان في شيئ، لا مما يستفاذ منه، ولا مما يستفاد به، ومن ادعى فيه ذلك، فهو في دعواه مبطل"[11]، ويقول الشيخ خالد عبد الرحمان العك:" فكان حقا على من أراد فهم معانيه وإدراك مراميه أن يكون على جانب كبير من التمكن من اللغة العربية وإلا لا يقدر على شيئ من ذلك"[12]. وهذا لا يعني أن المفسر تكفيه مجرد معرفة اللغة العربية وعلومها، ليس هذا هو المقصود، لأنه "ليس كل ما ثبت في اللغة صح حمل آيات التنزيل عليه، بل يجب حمل كتاب الله على الأوجه اللغوية والإعرابية القوية المشهورة دون الضعيفة والشاذة والغريبة، اللائقة بالسياق والموافقة لأدلة الشرع"[13]. فالمفسر الذي يريد بيان معاني القرءان عليه تدوق أساليب اللغة العربية ويدرك كنهها وأسرارها، فهي- أي اللغة العربية- أساسية لفهم المفردات و الألفاظ القرءانية وما تحتمله من مدلولات،" وإن العلم اليسير من اللغة لا يكفي لتخويل أحد بالإضطلاع بمهمة التفسير فإن هذه مهمة لا تتيسر لغير الضالعين في لسان العرب المتبصرين في علوم البيان"[14].
3. مكانة علوم اللغة العربية من علوم القرءان:
علوم اللغة العربية هي العلوم التي يتوصل بها إلى عصمة اللسان والقلم عن الخطأ[15]. وهي اثنا عشر فنا مجموعة في قول الناظم:
نحوٌ وصرفٌ عَروضٌ ثمَّ قافيةٌ *** وبعدَها لُغَةٌ قَرْضٌ وإنْشَاء
خطٌّ بَيانُ معانٍ مع مُحاضَرةٍ *** والاشتقاقُ لها الآدابُ أَسماءُ
فهذه الفنون ساهمت في تسهيل العلم ونقله وحفظه، من خلال نقل المعرفة في شكل قصائد شعرية ونظم ومتون يتناولها الطلاب والعلماء فيما بينهم. "وليست اللغة، والنحو من العلوم الشرعية في أنفسيهما، ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع، إذ جاءت الشريعة بلغة العرب، وكل شريعة فلا تظهر إلا بلغة أهلها فيصير تعلم اللغة آلة"[16]. ويعد النحو أهم وسيلة لفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن تبحر في علم النحو أدرك أسرار الشريعة ودقائقها، يقول الشافعي:"من تبحر في النحو اهتدى إلى كل العلوم"[17]، يعني علوم الشريعة، وقال أيضا:" لا أسأل عن مسألة في الفقه إلّا أجبت عنها من قواعد النحو"[18]، فعلم النحو إذن من أجل هذه العلوم وأهمها. يروى أنَّ الكسائي وأبا يوسف اجتمعا لدى الرشيد، فأراد الكسائي أنْ يبيِّن لأبي يوسف أهمية النحو وفضله، فقال له: ما تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتلُ غلامِك،؟ وقال الآخر: أنا قاتلٌ غلامك، أيُّهما كنت تأخذه؟ قال أبو يوسف: أخذهما جميعاً، قال الرشيد ـ وكان له بصر بالعربية ـ : أخطأت. فاستحيا أبو يوسف. قال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتِلُ غلامِك، بالإضافة لأنَّه فعل ماض، أمَّا الذي قال: أنا قاتلٌ غلامَك، فلا يؤخذ به، لأنَّه مستقبل ولم يكن بعد، كما قال جلَّ شأنه: [19]"[20].
أما علم الصرف فهو علمٌ بأصولٍ تُعرَف بها صِيغُ الكلمات العربية وأحوالُها التي ليست بإعراب ولا بناء[21]، وهو علم مستنبط من القرءان الكريم وكلام العرب، غايته حفظ اللسان من اللحن و الخطأ. "والصرف من أهمّ العلوم العربية. لأن عليه المُعوّلَ فى ضَبط صِيَغ الكَلِم، ومعرفةِ تصغيرها والنسبةِ إليها والعلمِ بالجموع القياسيّة والسماعية والشاّة ومعرفةِ ما يعتري الكلماتِ من إعلالٍ أو إدغامٍ أو إبدال، وغيرِ ذلك من الأصول التي يجب على كل أديب وعالم أن يعرفها، خشيةَ الوقوع في أخطاء يقَعُ فيها كثيرٌ من المتأدبين، الذين لاحظَّ لهم من هذا العلم الجليل النافع فبالنحو تتضح الكلمات من حيث الإعراب والبناء وبالصرف تتضح الكلمات من حيث التحويل والتغيير"[22].
إذن، مما سبق يتضح أن القرآن الكريم والسنة النبوية منزلة بلسان عربي مبين و لذلك لا بد من التوقف لضبط ألفاظهما واستعمالاتها على المعاني وما تدل عليه هذه الألفاظ مفردة ومركبة وبالتالي من يريد فهم القرءان و علومه فهو بحاجة إلى علوم اللغة العربية، واللغة العربية بحاجة إلى القرءان من أجل البقاء والعالمية، وهذا ليس معناه الاستغناء عن باقي العلوم كعلوم الحديث وغيرها، لأن هناك الفاظا وضعت لمعان لم تكن موضوعة لها في اللغة نحو الربا في اللغة الزيادة يقال "أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالرَّابِيَةُ هِيَ الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى مَا يَلِيهَا. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لَمَعَانٍ أُخَرَ غَيْرَ مَا كَانَ اسْمًا لَهُ فِي اللُّغَةِ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ " يَعْنِي (فِي) الْحَيَوَانِ"[23]. لكن بالمقابل اللغة العربية مهمة جدا لأنه لا إسلام بدون قرءان ولا قرءان بغير اللغة العربية، فلا يفهم القرءان الا باللغة العربية ولا يفهم الشرع إلا باللغة العربية، ثم لا يمكن أن نقول إن الآية كذا تخالف قاعدة ما من قواعد اللغة العربية، لأن هذه القواعد محكومة بالقرءان وليس العكس. فهذه باختصار شديد العلاقة التبادلية بين علوم القرءان واللغة العربية وعلومها.
[1] - الحجر، الآية: 9.
[2] - اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية. ج1، ص: 470.
[3] - سورة الشعراء: الآية:.195
[4] - فتاوى ابن رشد الجد، ج1،ص: 545.
[5] - الزخرف. الآية: 2.
[6] - يوسف. الآية: 2.
[7] - الزمر. الآية: 27.
[8] - رؤية قرءانية للمتغيرات الدولية، محمد جابر الأنصاري، ص: 14.
[9] - التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، ج1، ص: 11.
[10] - الشعراء، الآية: 193-193.
[11] - الموافقات، الإمام أبو اسحاق الشاطبي، ج3، ص: 391.
[12] - أصول التفسير و قواعده، خالد عبد الرحمان العك، ص: 138.
[13] - قواعد الترجيح عند المفسرين، لحسين بن علي الحربي، ص: 363، تقديم: مناع القطان،ط1.
[14] - دراسات في علوم القرءان، أمير عبد العزيز، ص: 154-155. دار شهاب-بانتة-ط2.
[15] - جامع الدروس العربية، مصطفى بن محمد سليم الغلاييني، ج1، ص: 8. المكتبة العصرية-صيدا-، ط 28.
[16] - إحياء علوم الدين، أبو خامد الغزالي، ج1، ص: 17.
[17] - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد ، ج2، ص: 407. تح: محمود الأرناؤوط.
[18]- نفسه.
[19]- سورة مريم، الآية: 22 – 23.
[20] - معجم الأدباء، لشهاب الدين الرومي الحموي. ج4، ص:91- 92. ط: العلمية.
[21] - جامع الدروس العربية، ص: 8.
[22] - نفسه.
[23] - الفصول من تامحصول، للرازي الجصاص. ج1، ص: 65-66.