الهجرة نحو المدينة: اهو الحل أم المصيبة؟

احمد اضصالح

 

 

 

     لعل الظاهرة المنتشرة حاليا بالجنوب المغربي بشكل لافت هجرة شباب القرى نحو المدن بحثا عن لقمة العيش أو حفاظا على ماء الوجوه أو هروبا من جحيم لا يطاق هنالك وراءهم. مما لا يدع مجالا للشك أن عنصر الشباب في العالم القروي يعاني في صمت دون أن يلتفت إليه من وكل به ولو مؤقتا بخلق فرص للشغل أو منح محفزات تبقي على الأمل للعيش في جو كريم كما هو الشأن بالنسبة لنظرائهم في المدن. لتصير بذلك هذه الظاهرة من تجليات الإشكالات التي يشكوها جسد المجتمع المغربي منهك القوى.

 

الهروب نحو بر الأمان:

    هجرة جنوب- شمال لم تكن وليدة القرن الواحد والعشرين الميلادي حاليا، بل نشأت مع استلام الغرب المشعل الحضاري من الشرق مما يفرض على الأرض ما قاله المرحوم العلامة ابن خلدون:"إن المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب". وهذه سنة الحياة، ترانا ننفذ تعليمات الغالبين حضاريا في أدق الأمور وأبسط جزئياتها. فلا عجب إن هاجرنا هنالك طلبا في تنفيذ ما أشارت إليه القولة السالفة الذكر.

    سألت المهاجرين غير ما مرة حول أسباب الهجرة نحو المدن.. فأجاب بعضهم بأن القرية لم تعد تضمن للمقيم بها لقمة العيش الكافية الكريمة. مصاريف الماء والكهرباء، رخص للبناء التي استغلها الكثيرون لزيادة غور الجرح الذي يعانيه الفقراء في صمت داخل مجتمع قال فيه الغني كذبا فصدق وقال الفقير صدقا فكذب:

  إِنَّ الـغَــنــيَّ إِذا تَـكَــلَّــمَ كَــاذِبـــاً *** قَالـوا  صَدَقْـتَ وَمـا نَطَقْـتَ مُحـالا

    وَإِذا الفقيرُ أَصابَ قالوا لَمْ تُصِبْ *** وَكَـذَبْـتَ يــا هــذا وَقُـلْـتَ ضــلالا

    أضف إلى هذا كله، ما ابتليت به بعض القرى من بدعة:"تحديد الملك الغابوي" الذي دوخ العباد وأفسد النيات حتى خفنا من الخيط معتقدين أنه ثعبانا. ومع هذا كله فقد بقي حال مصدر العيش لدى أغلبية ساكني القرى محصورا في فلاحة تقليدية أكل عليها الدهر وشرب.

   هذه وما جاورها إكراهات جعلت من حياة الشباب بالعالم القروي جحيما لا يطاق. فهربوا مستنجدين بالمدن علها تدفئهم حنينا لكنها زادت الطين بلة، ارتفعت تكلفة المصاريف.. قلت فرص الشغل.. فضاعت همة الشباب التي قيل عنها يوما:

كل صعب على الشباب يهون ***  هكذا همة الرجال تكون

   لقد استنجدوا بالرمضاء من النار، ذهبوا إلى المدينة كي يحسنوا من مستوى عيشهم ويحفظوا ماء وجوههم فلم يفلحوا، كثرت التحديات والصعوبات وقلت الحلول والعلاجات.

 

الماء والكهرباء (ضيوف الشقاء):

    طبعا لا يمكننا أن ننكر الجميل الذي صنعه الصانعون في القرى بجلب الكهرباء والماء ففضلهما جزيل علينا، لكني اللحظة لست في معرض الثناء. إنما في سياق يحمل آلام شباب من المفروض أن يتغلب عليها بلا تكلفة تذكر.

    عصبا الحياة في القرية والمدينة على حد سواء في مقدمة ما يعترض طريق الشباب القروي اليوم. مياه ضرورية للشرب والري وكهرباء للإضاءة والنور. مع كل نهاية شهر طارقان لا ينفكان يطرقان باب المنزل، أتترك مهمة إجابتهما لوالد بلغ من الكبر عتيا؟ ! أم لأم حنون نال الدهر منها منالا ؟!

    قد يكون لهذين العملاقين وقع طفيف على الكاهل مرة أو مرتين فيسهل التخلص منهما ابتداء. لكن المسألة ليست كذلك. إنهما يتكرران مع نهاية كل شهر وتكلفتهما شديدة الوقع على الآذان قبل الدفع.

 

رخص البناء (ورقة شراء الذمم):

   تبعد قريتي أنا عن طريق شبه معبدة خمسة عشر كيلومترا كم مرة سرت فيها على الأقدام حتى سال الدم فيها رغما عن أنفي، حفر وأحجار ودواوير هجرها أبناؤها بلا رجعة حتى استحيى البوم أن ينعب فوق أطلالها. في الآونة الأخيرة وصلنا شيء اسمه "رخصة البناء" ولم نكن ندري ما هي وما لونها؟ لم تسبقها توعية أو حملات تحسيسية بقيمتها او أهميتها. طبقت هكذا بدون سابق إنذار وبدون أرضية صالحة، على أغلبية أميين يعتقدون أن القادر على مجابهتها والإفلات من ويلاتها شخص "يحمل روث البقر لأسياده" أو من يتخذونه محل سخرية واستهزاء حتى يتوسطون له بين من يملك الأمر في هذه البقعة من الأرض. لا لأخويته بل حاجة في نفس يعقوب. أما الذي يتمنى العيش كريما فلا يحق له البناء إلا إذا حصل على هذا الشيء الذي يسمونه "رخصة" ينتظرها على أحر من الجمر شهرين متتابعين جيئة وذهابا.

   كم من الشباب في نظركم سيعيش هكذا؟ أتشجيع على السكن هذا أم تهجير نحو المدينة؟ أي مدينة دون قيد أو شرط. حيث تتستر فيه عن الذين تمرقك نظراتهم صباح مساء ويواجهونك بأسئلة ملؤها التشاؤم والسوداوية:"هل أنهيت تعليمك؟"، "هل وجدت لنفسك عملا؟"، " ألم أقل لك مرارا أن التعليم لا ينفع أهله؟"،  "انظر لحال فلان وعلان، ألم تذهب بعد نحو المدينة لتبتعد عن هذا الجحيم؟" ... . يعدونك جرذا داخل مجتمعهم أو أقل منه بكثير. ترى العداوة في أعينهم دون سبب. فقط لأنهم يملكون وأنت لا تملك. يملكون جهلا عشش وباض وفرخ في عقولهم. يعتقدون أنك ستموت يوما من الجوع لأنك لا تطلب منهم رغيفك. لكن هذا ما لم يكن ولن يكون. كل سيموت. كل بسبب والموت واحد:

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره  ***  تعددت الأسباب والموت واحد

 

تحديد الملك الغابوي (نادى الرحيل...):

    ما معناه وما دلالاته؟ لا أحد يفهمه من شباب القرى على الوجه المطلوب, أنا شخصيا سمعت به ولا أزال، في الآونة الأخيرة حيث أقدمت العديد من فعاليات المجتمع المدني وسكان قضهم وقضيضهم من:"آيت بها وآيت بعمران وأماكن كثيرة" على رفض هذا الدخيل. قيل لي يوما إن مسؤولين عن المياه والغابات هم من يبرمجون ويخططون وينفذون:"تربية الخنازير وإطلاقها على حقول الساكنة مع سن قوانين تجرم اعتراض طريقها، إضافة إلى زرع الصبار على ملكيات تركها الأجداد للأحفاد حتى يمنع الرعي على الشاكلة التي ألفها الرجل الحر بلا حد أو شرط. لا أحد تحرك ساكنا في العديد من القرى الأخرى لمجابهة الخنزير أو الصبار. لذلك رفعت قبعتي مرارا لهذين العنصرين لما لم أجد بدا من تجنبهما في طريقي حتى لا أتهم بأذيتهما.

 

الفلاحة التقليدية (أفيون القرى):

   عاش الآباء والأجداد على حراثة الأرض وجني خيراتها منذ أمد بعيد. نحن لم ندرك هذا الحال. لكننا سمعناه ممن أدركه. ترعرعوا على حب الخير للجميع، وارتبطوا ارتباطا وثيقا بالأرض التي منحتهم حبها بلا مقابل. حب حقيقي جمع الكل في جو مليء بالهناء والرخاء. لكن واأسفاه ! لم تعد تلك الأرض قادرة على العطاء وفق متطلبات الحياة.  لم تطور الفلاحة. تقنياتها وطرق ممارستها ما زالت هي هي. لم يتلقى الشباب تكوينا على مقاس التعامل مع الواقع الراهن كما تعامل الأجداد والآباء. كلهم يقولون: "لم تعد القرية ملاذا آمنا وملجئا حافظا للكرامة". فيضربون لك الأمثلة تلو الامثلة. ويوردون النماذج المتعددة. فلان بقي هنا ويوم السوق الأسبوعي تراه حاملا قفة لأجل شراء رزمة "نعناع" أو لفت أو جزر... ادعى الفلاحة في بطاقة الهوية فلم يسعفه ذلك من الاكتفاء بما تجود به الأرض. أفقر الناس في قريتي "الفلاحون".

   إن جيل اليوم لم يعد يهتم لهذا النمط من العيش فكان لزاما على المسؤولين أن يلتفتوا لمطالبه المشروعة التي ستجعله يقيم في القرية عزيزا كريما ضامنا لحقه في العيش كبقية البشر...

 

ما الحل؟

   "إن القرية قرية" و "الشباب شباب". هذا الاعتبار يجب أن يؤخذ على محمل الجد حتى يتسنى للدولة التفكير في مخطط واضح المعالم يجعل الشباب القروي باق في مسقط رأسه ضامنا للقمة العيش كريما بين أهله وجيرانه وأصدقائه، غير طامع في اجتياز البحار والمحيطات والصحاري نحو الشمال أو الشرق أو الغرب حافظا على نظافة المدينة من مدن الصفيح والاكتظاظ وغيرها. فمتى كان هذا فبها ونعمت. وإن لم يحصل فلينتظر المهتمون القرية خلاء وأطلالا كلما سنحت الفرصة للشاب مغادرتها. فكم مرة سألت نفسي منضما إلى صوت إخواني وأصدقائي من أبناء هذا الجيل: هل سيأتي علينا زمان نأخذ فيه حقائبنا وأمتعتنا اتجاه جحيم مدينة من المدن؟ أم سنبقى هنا والأفضل هو القادم؟ اتركوا الزمان يجيب لنا عن هذه الأسئلة فإن لقادم الأيام إجابة...