طرق جهنمية يتحايل بها الوزراء على البرلمان ، كيف تسرق الحكومة أموالنا ؟

طرق جهنمية يتحايل بها الوزراء على البرلمان ، كيف تسرق الحكومة أموالنا ؟

يبلغ عددها 76 حسابا في قانون مالية لسنة 2011 وتبلغ الاعتمادات المرصودة لها 5200 مليار سنتيم، وهو مبلغ يصعب على المرء تصوره. وتبقى وزارة الداخلية أكبر المستفيدين. "أوال" تفتح ملف الحسابات الخصوصية التي تتصرف في أموال ضرائب المغاربة ولا تخضع لأي رقابة من طرف المؤسسة التشريعية.

 

في خريف كل سنة يتابع المغاربة على شاشة التلفزيون نوابهم ومستشاريهم وهم يتصايحون بحماس ظاهري ويتبادلون الانتقادات بملء الصوت أثناء مناقشتهم لميزانية البلاد. بيد أن ما لا يدركه هؤلاء المغاربة هو أن المؤسسة التشريعية، التي يجب عليها مبدئيا مراقبة مالية البلاد لأن مصدرها من جيوب المواطنين، لا تتحكم بشكل كامل في خمس ميزانية البلاد. فالبرلمان لا يناقش البتة وثيقة مهمة جدا ملحقة بمشروع الميزانية تحمل اسم "الحسابات الخصوصية".

 

وبلغت قيمة هذه الحسابات، التي لا تخضع لأي مراقبة، 52 مليار درهم (5200 مليار سنتيم) في ميزانية هذه السنة مرتفعة بنسبة 13 في المائة عما كانت عليه في 2010.

 

والمثير حقا في الأمر أن هذه الحسابات والمبالغ الرهيبة المرصودة لها التي لا تخضع لأي رقابة، تقوم على سند قانوني! نعم سند قانوني يتمثل في المادة 19 من القانون التنظيمي لقانون المالية. فهذه المادة، التي تحمل رقما له دلالة عميقة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على إحداث الحسابات الخصوصية للخزينة، "لضمان استمرارية استغلال المال العام المخصص لعملية معينة خلال سنوات متتابعة. تضمن ترحيل المخصصات المالية من سنة إلى أخرى وتخصيص موارد معينة خلال سنوات".

 

 

يحدد نص القانون نفسه أصناف هذه الحسابات في الحسابات المرصودة لأمور خصوصية، وهي الأهم في بلادنا، عددا وميزانيات، حساب النفقات من المخصصات، حسابات الانخراط في المؤسسات الدولية، حسابا العملية النقدية، حسابات التسبيقات وحسابات القروض.

 

غير أن القانون لا يتيح للبرلمان مناقشتها، فبالأحرى تتبع طرق صرفها من أجل تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها.

 

وتعتبر هذه الحسابات في أعراف المالية العمومية آلية استثنائية يتم تفعيل العمل بها بهدف تحقيق أكبر مستوى من المرونة في التدبير المالي للمشاريع والبرامج الحكومية المهيكلة التي لا تتحمل التأخير، ويخشى أك يكون غياب المرونة في صرف ميزانياتها عائقا أمام إنجازها في الآجال المروجة، كالميزانيات التي ترصد مثلا لمواجهة الكوارث الطبيعية.

 

 

أهم "الصناديق" الخاصة

 

يتضمن قانون مالية سنة 2011، الذي دخل حيز التنفيذ في فاتح يناير الجاري، 76 صندوقا مصنفا في إطار الحسابات الخصوصية.


 

تم إحداث هذه الصناديق في تواريخ مختلفة وسياقات متباينة لتحقيق أهداف معينة في مجالات محددة.

 

وتكتسي معرفة مجالات تدخلها أهمية كبيرة في معرفة القطاعات التي تنعت ب"المحظوظة".

 

ورغم تعدد المجالات التي تهتم بها هذه الحسابات، التي توزع إلى صناديق، كل حسب الأهداف التي أنشئت له، فإن هناك تطابقا كبيرا في مصادر تمويلها. يتم تمويل هذه الصناديق، جميعها، بشكل مباشر عبر مصادر عمومية على شكل ضرائب ورسوم وإتاوات خاصة واقتطاعات جبائية وشبه ضريبية، بالإضافة إلى إعانات وإمدادات من الميزانية العامة للدولة. المبالغ المتحصلة من الضرائب غالبا ما تتأتى بطبيعة الحال من عائدات رسوم مفروضة على أنشطة تدخل ضمن المجال الذي يشمله الصندوق الذي تضخ فيه.

 

وزارة الاقتصاد والمالية لم تقدم في مشروع قانون المالية لسنة 2011 حصيلة الأعمال المنجزة والأهداف المحققة بميزانية 48 مليار سنتيم، التي رصدت للحسابات الخصوصية في قانون مالية السنة الماضية، وإنما اكتفت بحصيلة سنة 2009، وهو ما يعني فارق أكثر من سنة على رصد الميزانيات و"تقديم الحساب".

 

ففي سنة 2009، شملت هذه الصناديق مجالات عدة أهمها: التنمية المحلية، التنمية الاجتماعية والبشرية البنيات التحتية، الإنعاش الاقتصادي والمالي، الفلاحة، الإسكان والتعمير والتنمية المجالية، وهي تختلف من حيث الصناديق المرصودة لها والاعتمادات المالية المخصصة لكل صندوق.

 

ويعتبر الصندوق الخاص بحصة الجماعات المحلية من حصيلة الضريبة على القيمة المضافة أهم صندوق في الحسابات الخصوصية للخزينة في ميزانية الدولة. فالقانون المنظم للضريبة على القيمة المضافة ينص على تخصيص 30 في المائة من مداخيل هذه الضريبة لدعم تمويل الجماعات المحلية.

 

وللشركات نصيب


 

تستفيد شركات ومؤسسات عمومية بدورها من الحسابات الخصوصية، خصوصا ما يعرف بحسابات القروض.

 

إحصائيات سنة 2009، وهي الأكثر جدة، تفيد بحصول 16 مؤسسة عمومية على اعتمادات مالية بفضل هذه الآلية، مع التأكيد على استحواذ بعض المؤسسات البنكية ومجموعة "العمران"، على التوالي، على 50.34 و12.11 في المائة من جاري هذا النوع من القروض.

 

وثيقة الحسابات الخصوصية، ذكرت نموذجا وحيدا من الأبناك: القرض العقاري والسياحي الذي حصل، في هذا الإطار، على مليار درهم (100 مليار سنتيم) إعادة هيكلته مليا. ويجدر التذكير هنا بأن هذه المؤسسة البنكية عرفت اختلاسات شكلت بشأنها لجنة برلمانية لتقصي الحقائق، ووصل ملفها إلى القضاء، أما مجموعة "العمران"، التي عرفت في الأسابيع الأخيرة زلزالا أطاح بمديرها العام السابق، قبل أن يلتحق به بعض المديرين الجهويين بعد تولي بدر الكانوني قيادة المجموعة، فقد استفادت من قرضين من الصندوق السعودي للتنمية.


 

القرض الأول بلغت قيمته 30 مليون ريال سعودي (أكثر من 6 ملايير سنتيم) بهدف تنفيذ مشاريع السكن الاجتماعي بعين عودة بضواحي الرباط ومنطقة "سلوان" بالناظور، في حين وصل القرض الثاني، الذي يفترض أن يرصد لإنجاز مشاريع السكن الاجتماعي بحي بنسودة بفاس، إلى 45 مليون ريال سعودي (أكثر من 9 ملايير سنتيم).

 

 

وحصل المكتب الوطن للماء الصالح للشرب ووكالات توزيع الماء والكهرباء كذلك على تمويلات خارجية، طبعا على شكل قروض، من البنك الدولي.

 

كما استفادت من هذه الآلية هيئات مدنية، أبرزها العصبة الوطنية لمحاربة أمراض القلب والشرايين التي حصلت قبل 32 سنة على قرض ألماني بقيمة أكثر من 8 ملايين درهم (أكثر من 800 مليون سنتيم) من أجل اقتناء معدات معدات وتجهيزات طبية. غير أن هذه العصبة عجزت عن أداء أقساط هذا القرض بسبب صعوبات مالية، مما اضطر الدولة إلى إعادة جدولته سنة 2006.

 

 

الاستثناء القاعدة

 

إذا كانت هذه الحسابات تستمد قوتها ومبرر وجودها من القانون، فإن عددا من البرلمانيين المغاربة، يتفقون، أغلبية ومعارضة، على أن كثرة هذا النوع من الحسابات يطرح علامات استفهام حول طابعها الاستثنائي، بالإضافة إلى الانتقادات التي تهم كيفية إحداثها وعدم وضوح جدوى بعضها.

 

 

 

أكثر من ذلك، عبرة وزارة الاقتصاد والمالية عن موقف مماثل اعترفت من خلاله، وإن بشكل ضمني، بأن كثرة الحسابات الخصوصية مشكلة. الحكومة احتسبت في ميزان إنجازاتها انخفاض هذه الحسابات بنسبة 42.42 في المائة في ظرف ثمان سنوات. انتقلت من 132 حسابا سنة 2002، السنة التي تولى فيها إدريس جطو حقيبة الوزارة الأولى، إلى 76 حسابا فقط خلال السنة الماضية.

 

وحدها، الحسابات المرصودة لأمور خصوصية ظلت صامدة، وصارت تمثل 67 في المائة من مجموع هذه الحسابات مقابل 35 في المائة في 2002. وجاء في مشروع قانون مالية السنة الجارية: "يعزى الانخفاض إلى إجراءات الترشيد التي تم اتخاذها وتعززت خلال سنة 2010 بحذف مساهمة الدولة في الشركات".

 

وفي هذا السياق، شدد لحسن الداودي، رئيس فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب، الذي رفض وصف هذه الحسابات بالصناديق السوداء، على أن "كثرتها مصيبة"، وحمل، في اتصال أجرته معه "أوال" مسؤولية استمرار تناسلها للحكومة وأحزاب الأغلبية. ويتوجب على هذين الطرفين، حسب القيادي الإسلامي، أن يبادرا إلى التقليص من عدد هذه الحسابات ما أمكنهما ذلك. فوحدهما يستطيعان القيام بذلك، في رأي الداودي.

 

عبد الله البورقادي، عضو اللجنة المركزية لحزب الاستقلال، الحزب الذي كان ينادي قبل توليه الحكومة عقب انتخابات 2007 بإلغاء الحسابات الخصوصية، أكد أن كثرة هذه الأخيرة "إشكالية حقيقية"، وقال متحدثا باسم حزبه الذي يتزعم الحكومة "نطالب بتقليصها، وينبغي أن تكون تحت مراقبة البرلمان إذا اقتضت الضرورة ذلك".

 

أما محمد كريم، وهو أستاذ الاقتصاد بجامعة محمد الخامس بالرباط، فانتقد الإفراط في استغلال الطابع الاستثنائي لهذه الآلية، المعمول بها في الدول الديمقراطية، وقال إنه "إذا كان لهذه الاستثناءات مبرر، يبدو منطقيا، حسب كل حالة، وهو نظريا تحقيق المرونة في التدبير المالي لبعض التعليمات والبرامج، فإن كثرتها وتداخل مداخيلها ونفقاتها يفتح المجال لعمليات مشبوهة وغير قانونية".

 

بدورها، جددت هيئة حماية المال العام انتقادها ل"تنامي ظاهرة الصناديق والحسابات الخصوصية. وطالبت، في مراسلة "أوال"، ب"إعطاء البرلمان حقه كاملا في المراقبة المالية والسياسية لهذه الآلية الاستثنائية في تدبير المالية العمومية".

 

موقف شاطره إياها محمد كريم، الذي أكد ل"أوال" أن "تكاثر هذه الأرصدة يعني تكاثرا للنفقات التي يمكن إنجازها دون أي مراقبة من طرف البرلمان، لأن الأرصدة يتم صرفها بموجب مراسيم تفتح الاعتمادات في سقف الأرصدة المعينة، وهكذا يتم الإنفاق من هذه الحسابات دونما حاجة للحصول على موافقة البرلمان ودون أن تكون ملزمة بإخبار المؤسسة التشريعية بذلك", كل هذه المواقف لا تجمع فقط على انتقاد العدد الكبير لهذه الحسابات وتنامي الاعتمادات التي ترصد لها، بل تشدد كذلك على ضرورة إدخالها إلى دائرة المجالات المعنية بالرقابة البرلمانية.

 

مراقبة غائبة

 

كثرة هذه الحسابات وعزلها عن الميزانيات القطاعية أبرز العوامل التي تساهم في انفلاتها من المراقبة، وتعقد قراءتها بشكل مفصل ودقيق بالمؤسسة التشريعية.

 

 

 

وانتقدت هيئة حماية المال العام بشدة "عدم تفكير الحكومة في الضغط على هذه المؤسسات من أجل خلق تمويلات ذاتية"، مقترحة على الجهاز التنفيذي "التفكير مستقبلا في دمج الحسابات الخصوصية جميعها في ميزانيات القطاعات الوزارية بشكل عادي". وسيمكن إجراء من هذا القبيل البرلمانيين من مراقبة الحسابات الخصوصية ومساءلة الحكومة عن قنوات صرفها.


 

وإذا كان القانون يوكل مهمة مراقبة هذه الحسابات للخزينة العامة للمملكة والآمرين بصرفها والمسؤولين عن تدبير مجالات تدخلها، إضافة إلى الرقابة البعدية للمفتشية العامة للمالية والمجلس الأعلى للحسابات، فإن الهيئة لاحظت أن "الإدارة المكلفة بمراقبة الالتزامات بنفقات الدولة لا تراقب هذه الميزانيات"، فضلا عن البطء الذي يطبع عمل المفتشية العامة للمالية والمجلس الأعلى للحسابات، الشيء الذي يصعب مهمة التدقيق في طرق صرف تلك الاعتمادات، خصوصا وأنها مختومة بطابع "خاص".

 

شددت الهيئة الحقوقية كذلك على أن "صعوبة الولوج إلى المعلومة بالمغرب يجعل معرفة طرق الصرف غامضة ما لم تنفتح الإدارة المعنية بذبك وتقدم المعلومات الضرورية".

 

إذا كان البرلمان يفتقر إلى صلاحية مناقشة هذه الحسابات قبيل الشروع في صرفها وأثناء إنجاز المشاريع التي رصدت لأجلها، فإن المراقبة البعدية أصعب بكثير في بلد يحتل مرتبة جد متواضعة في مؤشر "الميزانية المفتوحة" الذي تعده منظمة "ترانسبرانسي" على رأس كل سنتين .

 

في التصنيف الأخير، الذي أعلن عنه متصف شهر أكتوبر الماضي، احتل المغرب الرتبة 69 من أصل 94 دولة بمعدل 28 نقطة. رصيد جعله من بين أضعف المغرب سوى على الجزائر والسعودية والعراق الذي تذيل الترتيب، علما أن الأردن تصدرت العرب برصيد 50 نقطة.

 

وثائق عدة ترفع نسب شفافية الميزانية، وتقوي المراقبة البعدية لها، لا يتوفر عليها المغرب، بعضها لم يسبق له أن أعدها من حصوله على الاستقلال قبل أزيد من خمسة عقود، وبعض آخر يظل حبيس رفوف القطاعات الحكومية، ولا يجد طريقه إلى أيدي الخبراء ووسائل الإعلام، فبالأحرى أن يطلع عليه المواطنون.

 

فباستثناء مشروع قانون المالية، الذي يتم تقديمه إلى البرلمان، لا تصدر الحكومة أي وثائق من شأنها تعزيز شفافية ميزانيتها، مثل التقرير الأولي للميزانية وتقرير منتصف السنة وتقرير المراقبة والافتحاص، ولا تنشر التقارير التي تنجزها في آخر كل سنة عن ميزانيتها السنوية، كما أن فهم مضامين مشروع قانون المالية ونصه النهائي المعتمد من لدن البرلمان، يستعصي على عموم المواطنين، ولا يستطيع فك شيفرات أرقامه الكثيرة سوى خبراء السياسة العمومية.

 

في جنوب إفريقيا، التي تصدرت التصنيف العالمي لمؤشر "الميزانية المفتوحة"، تصدر الحكومة، كل سنة، تقريرا أوليا للميزانية العامة للبلاد، قبل إعداد مشروع قانون المالية والاستعداد لإحالته على المؤسسة التشريعية، بالإضافة إلى نشر تقارير مفصلة عن نفقات ومداخيل الدولة في ختام كل سنة مالية.


 

وفي غياب هذه الآليات، يبقى تتبع طرق صرف الميزان العامة للدولة، وليس الحسابات الخصوصية فقط، محط تساؤلات كثيرة، خصوصا وأن قطاعات كثيرة تستفيد من اعتمادات إضافية يتم تمريرها أما نواب الأمة دون أن يستطيعوا النبس ببنت شفة بشأنها: تأييدا أو انتقادا.

 

قطاعات محظوظة

 

في خريف كل سنة، يأتي الوزراء تباعا إلى البرلمان للدفاع عن ميزانيات القطاعات التي يتولون تدبير شؤونها داخل لجن المؤسسة التشريعية.

 

الوزراء المحظوظين يفدون على قاعة مناقشة ميزانية قطاعهم بمعنويات مرتفعة، والسبب ضمانهم نصيبا من كعكة الحسابات الخصوصية التي لن تنقص من ملاييرها انتقادات المعارضة ولا حتى تصفيقات الأغلبية سنتيما واحدا. مبعث الاطمئنان: "فيتو" الاستثناء الذي تقتضيه الأوراش المفتوحة في القطاعات المستفيدة.

 

وإذا كانت التربية الوطنية والصحة تحتلان الصدارة بسبب المبالغ المهمة التي ترصد لهما من الميزانية العامة للدولة، فإن وزارة الداخلية تتصدر لائحة الوزارات على مستوى عدد الحسابات الخصوصية في سنة 2010، جاءت قائمة الوزارت المستفيدة، مرتبة حسب الأهمية، على الشكل التالي: الاقتصاد والمالية، الداخلية، الوزارة الأولى، إدارة الدفاع الوطني، الطاقة والمعادن، التجهيز والنقل، الفلاحة والصيد البحري، المياه والغابات والإسكان والتعمير والتنمية المجالية. ولم يلمس أثر لوزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن القانون التنظيمي لقانون المالية ينص على عدة أصناف من هذه الحسابات تبقى الحسابات المرصودة لأمور خصوصية أهمها، عددا وميزانيات، وإلى جانبها حسابات القروض، حسابات الانخراط في المؤسسات الدولية، حسابات العمليات النقدية، وحسابات الانخراط في المنظمات الدولية...

 

ثمة أيضا انتقادات تهم تمكين بعض القطاعات من اعتمادات مالية تفوق بكثير حاجياتها الحقيقية، وهو ما "يفتح المجال لنشوء معاملات مشبوهة كالتبذير واستعمال هذه الحسابات الخصوصية في منح امتيازات وصرف علاوات مغرية للموظفين والمسؤولين بدون وجه حق" على حد قول الخبير الاقتصادي محمد كريم.


 

ويفسر هذا المعطى، في حالات كثيرة، الفروق الحاصلة في الأجور والتعويضات بين الهام بين عدد من القطاعات. ففي المغرب، يمكن أ، يصل الفارق المالي بين أجرتي إطارين، من نفس المستوى الإداري، يعملان في قطاعين مختلفين إلى نحو مليوني سنتيم والسبب في أحايين كثيرة، حصول القطاع، الذي يعمل فيه الموظف ذي التعويضات المجزلة، على جانب من كعكة الحسابات الخصوصية الملتحفة بالسواد، وإن استمدت مسوغات وجودها من القانون.


 

 

الإفلات من المراقبة... إلى متى؟

 

إذا كانت تلك حال الميزانية العامة للدولة، فوضعية الحسابات الخصوصية أسوأ. ذلك أن وزارة الاقتصاد والمالية تكتفي ببيان مداخيلها دون جرد مجموع النفقات. "ففي التقييدات الموازناتية المتعارف عليها دوليا" يقول محمد كريم، "لا يتم عرض رصيد هذه الحسابات فقط، وإنما تفكك وتدرج مداخيلها مع المداخيل العادية، ونفقاتها مع مصاريف التسيير أو التجهيز حسب الحالة".

 

كان يفترض أن يقطع المغرب مع هذه الوضعية قبل ست سنوات على الأقل. فقد كانت الحكومة المغربية أعلنت انخراطها، رسميا، فيما يسمى المعيار الخاص بنشر المعطيات، الذي بلوره صندوق النقد الدولي في سنة 2005. في هذا الاتجاه، أعدت الخزينة العامة للمملكة الصيغة المغربية من هذا المشروع، وتتمثل أبرز مستجداته، حسب محمد كريم، في "إلزامية تسجيل جميع المعطيات، بما في ذلك الحسابات الخصوصية، على أساس الاستحقاق، وليس الأساس النقدي".


 

ويمني البرلمانيون النفس، كذلك، بأن يفتح لهم إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية منافذ لمراقبة هذه الحسابات، ومعها المؤسسات العمومية المستفيدة منها. غير أ، صلاح الدين مزوار، وزير الاقتصاد والمالية، أخلف موعده معهم بجعل 2010 سنة إصلاح هذا القانون. المعارضة، ممثلة في حزب العدالة والتنمية، أكدت أن الحكومة وأغلبيتها، وحدهما، تستطيعان القطع مع عهد الإفلات من الرقابة. في حين دعا عبد الله البورقادي إلى ربط هذه العملية بالضرورة بطلب من المؤسسة التشريعية. أما أحمد الزايدي، رئيس الفريق الاشتراكي للقوات الشعبية، فشدد على وجوب "إعمال الرقابة البرلمانية على المؤسسات العمومية، خاصة وأن استثمارها تفوق استثمارات القطاعات الوزارية". القيادي الاتحادي اعتبر أ،ه "من العبث أن تظل المؤسسات التي تتولى استثمار ثلثي المال العام خارج الرقابة البرلمانية".

 

وإذا كان لحسن الداودي انتقد الحسابات الخصوصية ووصفها ب"آلية تهريب الاعتمادات الملية"، فإن البورقادي اعترف باستحالة إلغائها جميعها، واستدل على ذلك بصندوق مواجهة الكوارث الطبيعية. وفي انتظار خروج الصيغة الجديدة من القانون التنظيمي لقانون المالية، الذي ينتظر أن يعمد إلى إقرار توزيع الميزانية العامة للدولة حسب الجهات، وليس تبعا للقطاعات، كما هو معمول به، وهو نافذة تحتمل إلغاء هذه الحسابات، فإن تجربة صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، الذي يضخ فيه نصف عائدات خوصصة المؤسسات العمومية، يبقى نموذجا لنقل الحسابات من مجرد صناديق تستفيد من اعتمادات بملايير السنتيمات تحت إمرة وزير إلى مؤسسة عمومية قائمة الذات ذات مجلس إطاري يضمن تسييرا مستقلا وفعالا لموارد المالية، التي فاقت 40 مليار درهم. فهل يمكن تحويل بعض الصناديق، خصوصا التي تتوفر على موارد مالية مهمة، إلى مؤسسات عمومية؟ وإلى متى سيظل هذا النوع من المؤسسات في منأى عن رقابة المؤسسة التشريعية؟

 

حسابات الخزينة... الغموض المضاعف

 

ليست الحسابات الخصوصية الآلية المالية الاستثنائية الوحيدة التي تفلت من رقابة البرلمان. ثمة أيضا حسابات الخزينة التي يلجأ إليها المحاسب العمومي من أجل تسوية تقييداته المحاسباتية وأداء متأخرات الأداء، ولا يكو نلها في معظم الحالات تأثير على العجز الموازناتي.

 

وتقوم الخزينة العامة بإعداد هذا النوع من الحسابات على رأس كل شهر، ورغم أنها تبين ذلك في وثيقة "الميزان العام للحسابات"، فإنه لا يحق للبرلمان مناقشتها، بل إنها لا تعرض عليه أصلا من أجل التصويت أو المصادقة.

 

وعكس الحسابات الخصوصية، التي تحدث بموجب القانون التنظيمي لقانون المالية لسنة 1998، فإن حسابات الخزينة ليست قانونية، لعدم التنصيص عليها في أي من النصوص التشريعية المنظمة للمالية العمومية ببلادنا كالمرسوم المنظم للمحاسبة العمومية الصادر في سنة 1967، والمرسوم التطبيقي للقانون التنظيمي لقانون المالية الذي تم اعتماده قبل 11 سنة.

 

وتشهد حسابات الخزينة، على غرار الحسابات الخصوصية، تباينا ملحوظا على مستوى القطاعات المستفيدة منها.

 

وأكثر من ذلك، يتم في بعض الحالات تحويل حصة من الحسابات الخصوصية نحو حسابات الخزينة، وتبرز من جديد أوصاف القطاعات المحظوظة التي تستفيد من الاعتمادات المالية التي تحصل عليها بناء على هذه الآلية ذات الطابع الاستثنائي، وتصرف جزءا منها على شكل تعويضات مجزلة لموظفيها ومسؤوليها.

 

وتطرح هذه الآلية بدورها علامات استفهام بخصوص الآمرين بصرفها. فهل يعقل أن يحصل موظفون وأطر عموميون بجرة قلم من وزير على علاوات وتعويضات أكثر مما يتقاضاه إطار من الدرجة الإدارية نفسها في قطاع أقل حظوة؟

 

شركات كبرى تتحول إلى صناديق سوداء

 

الحسابات الخصوصية وحسابات الخزينة ليست وحدها ما ينعت بالصناديق السوداء بالمغرب. ثمة صناديق أكثر قتامة. إنها الشركات، بما في ذلك العمومية، التي تتملص من أداء الضريبة، وتحرم بذلك الميزانية العامة للدولة من موارد مالية مهمة.

 

قبل نهاية السنة الماضية، تفجرت فضيحة من العيار الثقيل في هذا الباب، لعبت فيها "شركة الخطوط الجوية الملكية" دور البطولة.

 

وإذا كانت الضرائب تشكل المصدر التمويلي الرئيس للحسابات الخصوصية، فهذا يعني أنها تحرم بدورها، على علاتها، من موارد مالية مهمة، من شأن تراكمها وتزايد أهميتها أن يشجع على نقلها من صناديق خاصة إلى مؤسسات عمومية قائمة بذاتها على غرار تجربة "صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية".

 

فقد كشفت المراجعة الضريبية التي خضعت لها "لارام" وكشف عن تفاصيلها في آخر أسبوع من السنة الماضية أن هذه الشركة لم تؤد سنتيما واحدا كضرائب لخزينة الدولة منذ إحداثها سنة 1958،أي قبل ثلاث وخمسين سنة.

 

وعلق إدريس بنهيمة الرئيس المدير العام لهذه الشركة، قائلا: "كانت لإدارة "لارام" طيلة 53 سنة قراءتها الخاصة للضرائب، وكانت تؤديها وفقا لهذه القراءة". بنهيمة نفسه اضطر إلى الجلوس على طاولة التفاوض مع صلاح الدين مزوار، وزير الاقتصاد والمالية، من أجل حصر المبلغ الذي ستدفعه شركته نتيجة لتملصها من أداء واجباتها الجبائية لأزيد من خمسة عقود. وقد تم تحديد هذا المبلغ في 1.4 مليار درهم (140 مليار سنتيم)، ضمنها 120 مليون درهم عن كتلة الأجور. مبالغ هائلة حرمت منها ميزانية الدولة على مدى سنين عديدة، فعلى من سيأتي الدور؟ وهل سينضاف اسم آخر إلى لائحة الشركات التي تلزم بدفع ما بذمتها من واجبات ضريبية؟

 

فرنسا: حسابات خصوصية... ولكن تحت المراقبة التشريعية

 

نظريا، لا توجد فوارق كبيرة من حيث التصور العام للحسابات الخصوصية بين المغرب وفرنسا. لكن ثمة فرقا جوهريا يتمثل في اعتماد الحكومة الفرنسية منذ بضع سنوات على المعيار الخاص لنشر المعطيات مع إعمال مبدأ الاستحقاق في توزيع الاعتمادات المالية لهذه الحسابات على مختلف القطاعات.

 

فضلا عن الصلاحيات التي يتمتع بها أعضاء الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ في مراقبة مالية المؤسسات العمومية.

 

ترفع الحكومة الفرنسية، بدورها، شعار "الاستثناء" إحداث هذه الحسابات، ومع ذلك عرفت تراجعا كبيرا في عهد الجمهورية الخامسة. ففي سنة 1947، الجمهورية الرابعة وقتها، وصل عدد هذه الحسابات إلى 400 في بلد لا يزال يضمد جراح الحرب العالمية الثانية. وقد وعى الفرنسيون باكرا بأهمية عقلنة هذه الحسابات وترشيد آليات إحداثها. بداية، صدرت نصوص تشريعية تسحب البساط من أيدي القوانين التنظيمية وتخص قانون المالية، وحده، بصلاحية إنشاء الحسابات الخصوصية.

 

وبعد ذلك، تم التأكيد على ضرورة انتظام دوريتها، واختير لذلك أن تراجع كل سنة، وإن استلزم ذلك ترحيل بعض الاعتمادات إلى السنة الموالية، بالإضافة إلى إخضاعها لرقابة المؤسسة التشريعية، بمجلسيها الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ.

 

غير أن الممارسة، كشفت، حسب متتبعي السياسة المالية الفرنسية، عن "هوة بين الأهداف التي دفعت المشرع للسماح بإحداث هذه الحسابات ونسب تحقيق تلك الأهداف من لدن السلطات العمومية، رغم محاولات الترشيد".

 

ويتم في بعض الحالات تحويل جزء من الاعتمادات المالية من أجل إنجاز برامج أخرى غير تلك التي أحدثت من أجل تنفيذها. عموما، تمكنت فرنسا بفضل معيار نشر المعطيات واعتماد مبدأ الاستحقاق وتعزيز الرقابة البرلمانية، من ترشيد كثير من نفقات حسابات يمنحها طابعها الاستثنائي هامشا كبيرا للمناورة في أعرق الديمقراطيات.

 

 متابعة أوال : حسن الخباز

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة