فاجعة محرقة الطفلة هبة !

فاجعة محرقة الطفلة هبة !

اسماعيل الحلوتي

مرة أخرى ولا نخالها ستكون الأخيرة مادام هناك إفلات من العقاب وعدم تفعيل المقتضى الدستوري "ربط المسؤولية بالمحاسبة"، وفي ظل شيوع الإهمال والتقصير في أداء الواجب الوطني والمهني والاستهتار بالأرواح لدى السؤولين والمواطنين ببلادنا، تأبى الظروف إلا أن تقودنا من جديد وقبل حتى أن تندمل جراح فاجعة إجوكاك بإقليم الحوز، التي ذهب ضحيتها 15 شخصا في سيارة نقل مزدوج طمرتها كميات هائلة من الأوحال والأتربة، إلى مأساة أخرى لا تقل عنها بشاعة من حيث حجم الألم الذي خلفته وراءها، تاركة قلوبنا تعتصر دما لهول الحادث الأليم، والذي لم تكن الشهيدة فيه سوى الطفلة هبة ذات السنوات الست، التي قضت احتراقا في بيت أسرتها، أمام مرأى ومسمع من بعض سكان الحي، الذين عجزوا عن انتشالها من تلك المحرقة الفظيعة.

 

ففي حوالي الساعة الخامسة عصرا من يوم الأحد 4 غشت 2019 وعلى بعد أسبوع واحد فقط من حلول عيد الأضحى، اهتز قلب أم الشهيدة هبة ومعه قلوب المغاربة عامة وسكان حي "النصر" خاصة بمدينة سيدي علال البحراوي التابعة لإقليم الخميسات ترابيا، لهول الواقعة الرهيبة، إثر اندلاع النيران بغتة في الشقة المتواجدة بالطابق الأول بإحدى العمارات السكنية. إذ ظهرت تلك الطفلة البريئة من وراء الدخان الكثيف محاصرة أمام نافذة مسيجة بشباك حديدي داخل غرفة تطل على الشارع، والنيران تلتهم بنهم جسدها البض في مشهد مروع، دون أن تكون قادرة على الفرار، حيث لم يتبق منها سوى الساقين كما هو موثق في شريط فيديو، تم تداوله بين الناس على نطاق واسع عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتجاوزت أصداؤه حدود البلاد.

 

والمثير للاستغراب والاستنكار، هو أنه عوض أن يهب بعض المتجمهرين إلى نجدة الطفلة ولو بأبسط الوسائل المتاحة، لاسيما أن وجودها بالطابق الأول من شأنه تيسير عملية تسلق الدرج أو السور والوصول إليها بسرعة، وفي غياب ثقافة التضامن ومكافحة أخطار الحرائق وغيرها، اكتفى البعض بالصراخ والعويل، والأخطر من ذلك هو انشغال البعض الآخر بتصوير المأساة بكاميرات هواتفهم ببرودة دم وقلوب من حجر، في صورة أبعد ما تكون عن أبسط مبادئ الإنسانية وتعاليم الدين.

 

ومما أجج نيران الغضب في أوساط الساكنة البحراوية، هو التأخر الكبير للوقاية المدنية في الاستجابة لطلب الإغاثة المتكرر، حيث أن شاحنة الوقاية المدنية لم تصل للأسف إلى مسرح "الجريمة" إلا بعد أن قضي الأمر. فما جدوى إخماد نيران الحريق وقد أخمد الموت روح طفلة في عمر الزهور، وحده الله يعلم مقدار الأمل الذي كان يعقده عليها أبواها، ليتحول في ومضة برق إلى ألم فظيع سيظل يلازمهما إلى آخر لحظات عمرهما، إن لم تفقد شدة الصدمة أحدهما عقله؟ ألا يعلم المسؤولون بالوقاية المدنية أكثر من غيرهم، ما يمكن لتعاظم النيران أن تحدثه من خسائر فادحة في العتاد والأرواح خلال ثوان معدودة، ما لم يتم التعجيل بتطويقها وإطفائها؟

 

وبصرف النظر عن مدى صحة ما ورد في البلاغ الصادر عن وزارة الداخلية بشأن الواقعة، الذي ينفي أي تأخر في استجابة فرقة الوقاية المدنية بثكنة سيدي علال البحراوي لطلب الإسعاف، ويؤكد على جهودها الجبارة واستماتتها في عملية إخماد النيران. وعما تناسل من روايات عن الأسباب الكامنة خلف وقوع الفاجعة، حيث هناك من توجه باللائمة إلى الأسرة ناعتا إياها بالإهمال والتقصير في مراقبة ابنتها، وهناك من اتهم رجال الإطفاء لاستهتارهم بالواجب وعدم اليقظة والسرعة في مثل هذه الفواجع...

 

وبغض النظر كذلك عن المظاهرة الاحتجاجية التي نظمتها الساكنة أمام مصلحة الوقاية المدنية بالمدينة ضد التقاعس والتلكؤ، وانتقال الموضوع إلى أروقة البرلمان في شكل سؤال كتابي موجه إلى

 

عبد الوافي لفتيت وزير الداخلية، عن محدودية الإمكانيات المتوفرة بمركز الوقاية المدنية والمطالبة بفتح تحقيق عاجل حول ظروف وملابسات الحادث الأليم... فإن الحقيقتين الأساسيتين التي لا يمكن طمسهما، هي أن المصدر الأول لهذا البلاء يعود إلى الترويج الحر لشواحن الهاتف المقلدة والرديئة، التي تسببت في عديد الحرائق بمختلف المدن المغربية، دون أن تجد من يتصدى لتجارها ويصادرها قبل وصولها إلى يد المستهلك. وأن ثاني الحقيقتين هي أن الطفلة هبة سلمت الروح إلى بارئها بطريقة بشعة، وستبقى صورتها وصمة عار في جبين الوطن ولعنة تطارد المسؤولين، الذين لا يملكون جرأة الإقرار بالمسؤولية والإعلان عن استقالتهم، في عديد القضايا التي تهز الرأي العام الوطني من حين لآخر.

 

فلو افترضنا جدلا أن التي علقت بنافذة بيت أسرتها وحاصرتها النيران هناك كانت تسمى "جاكلين" وليست "هبة"، هل كانت ستعامل بنفس الاستخفاف واللامبالاة وتلقى نفس المصير الموجع حد الانهيار، أم أن السلطات ستقوم باستنفار كل طاقاتها البشرية واللوجيستية، واستجلاب ما يلزم من مروحيات وطائرات صغيرة مجهزة بأحدث وسائل الإنقاذ المتطورة، حفاظا على العلاقات الدولية وصورة السياحة الوطنية؟ وهناك عدة أسئلة أخرى حارقة وعالقة، لن تجد الرد الأنسب عليها.

 

 

إن بلدنا مليء بالطاقات والكفاءات من ذوي الضمائر الحية والحس الوطني الصادق، القادرة على رفع التحديات وإحداث التغيير المنشود، يكفي فقط أن تمنح لها فرصة تحمل المسؤولية. فلا ينقصنا سوى القليل من الجرأة في الكشف عن مواطن الخلل والكثير من الحزم والصرامة في المراقبة والمحاسبة...

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات