مــلـِــك ونـــبــــــي

مــلـِــك ونـــبــــــي

عبد الغاني البوز

أي إنـسـان، كـيـفـمـا كــان، يـتـمتـع بـقـلـيـل مـن الفهـم والإدراك، لا محــالــة لـو سـردت عـلـيـه قصـة الـنـبـي يـوسـف عـلـيـه الســلام مـن أولـهـا إلــى آخـرهــا، كــمـا هــي مـرويــة فــي الـقـرءان الـكـريـم، سيـشعـر بـكـثـيـــر مـن الـدهشـة، لا لشــيء إلا لـروعـتـهـا وحسنـهـا. ولـم يـكن هـذا اعـتـبـاطـا، عـنـدمــا تـم وصـفـهـا فــي ذات الـكـتـاب كـأحسن القصص.

 

وبصــرف الـنـظـر عـن ظــاهــر هــذه الـقـصــة، والــدلالات والــمعـانــي الـتــي يـمكن اسـتـنـبـاطهــا مـنـهـا بسهـولــة تـامـة، فـإن هـنــاك دلالات أخـرى أعــمق وأرســخ، لا يـسـتـفـيـد الـمـرء مـنـهـا بشـكـل مـنـفــرد، ولـكن قــد تــسـتـفـيـد مـنـهـا أمــة بــأســرهــا؛ رغـم أن أسبـاب نـزولـهـا، كـمـا هـو مـذكــور عـنـد العـديـد مـن الـمفسـريـن، لــم يـكن إلا رهـان بـيـن الرسول محـمد عـلـيــه الصــلاة والســلام وبـيــن مـن شكك مــن قـومــه فــي صـدق نـبـوتــه، غـيـر أن بــاطــن الأمــر يـتـعـدى ذلــك بـكثـيــر.

 

فقـــد روى أكثــر من مـهـتــم وبــاحـث، فـيـمـا يـتـعـلـق بأسبـاب نــزول هـذه السـورة، علــى أن بـعـضـا من قــوم النبـي محـمـد عليــه الســلام، كــانــوا يـبـحـثـون عن أي شــيء مــن شــأنــه أن يـفـنــد نـبــوتــه؛ إذ أن أكـابـرهـم، وبـعـد أن أجـمـعـوا أمـرهـم، قـصــدوا أحبــار الـيـهـود، بـاعـتـبـارهــم أصحــاب كـتــاب، وطـلـبـوا منـهـم العــون والـمدد فــي بـلـوغ مـسـعـاهـم؛ ولأنـهــم كذلــك، أي أصحاب كتـــاب، فقد بـسـطـوا أمامـهــم مجـمـوعــة مــن الإخـتـبـارات، وسـألـوهــم أن يطــرحـوهـا علـيـه، فـــإن أجــاب عنـهـا فهــو لا محــالــة صـادق فـي آدعــائــه، وإن لـم يـجـب عـنـهـا فــهـو لـيـس بـنـبــي.

 

وكـان مــن جـملــة هــذه الاخـتـبـارات أو الـرهانــات، الإستفسار عــن أنـبـاء عـصـيــة عــن الإحـاطـة إلا بـوحــي مـنـزل أو مـعــرفـة مـســبـقــة، لـكـنـهـا تـبـقــى مـسـتـحـيـلــة لقـدمـهــا فــي الـزمـان؛ إذ سـألـوهـم أن يستـنـبـؤوه عـن رجـل لــفّ

 

مـغـارب الأرض ومشـارقـهـا، حـكـمهــا وأقــام العـدل فـيـهـا؛ وكـان هـذا، بحسـب مــا هــو مــذكـور فــي القرءان الكريــم ،ذا القرنيــن؛ وعـن الـفـتـيــة الــذيــن نــامــوا دهــرا مــن الــزمـن، وكـان هـؤلاء، حسـب مـا هـو مـروي فــي القرءان الكريــم، هـم فـتـيــة الكهـف، المخـصص لهـم ســورة قرءانيــة منفـردة بـهـذا الإسـم؛ وعــن الـرجــل الـذي بـكــى فـراق إبنـه سـنـيـن طـويـلـة، إلـى الـحـد الـذي ابـيـضـت فـيـه عـيـنـاه مـن شـدة الحـزن والـبـكـاء؛ وكــان هـذا، حسب مــا هـو مــروي فــي القـرءان الـكريــم، هـو يعقوب الـنـبـي، والابـن الـذي بـكـاه، كـان هـو يـوسـف الصـديـق؛ وأخيـرا عـن الــروح، التــي ردّ القــراءن علــى أنـهــا مــن أمــر الله.

 

وإذا كـان الــزمـان الــذي نـزلـت فـيـه هـذه الـسـورة وغـيـرهــا مــن السـور، زمــان يخـتـلــف عـمـا لحـقــه مـن أزمـنـة، وبخاصــة زمــنـنـا هــذا، ســواء مـن نــاحيـة سياسيــة أو اجتـمـاعـيـة أو اقتصــاديــة.. فـإنـه مــن الـطـبـيـعــي ألا يـتـم اسـتـنـبــاط أكــثــر مــمـا هو مــتــاح زمــانــيــا منـهـا؛ أو بصـيـغـة أخــرى، وكــمـا يـعـبـر عنــه دائـمـا، بـأن القرءان صــالح لكل زمـان و مـكــان.

 

وبـالـرغــم من أن هــذه الـقـصــة، كـانــت قــد حـدثـت قــرونــا طـويـلـــة قـبــل الـتـاريخ، إلا أن واقــع حـدوثـهـا لـم يـكن يخـتـلـف كـثـيـرا عــن واقعـنــا نحــن. فـقـد كـانـت مـصــر القـديـمـة، كـمســرح وقــوع هــذه الـقـصــة، كـانـت ولا زالـت لحــد الساعـة، تعـتـبــر مـهــدا للحضــارات؛ تـتـمـيــز بـنـظــام حــكــم مـتـطــور، وقضــاء عــادل، واقتصــاد قـوي مـنـحـهـا الحـق ليـلــوذ بـهـا كــل مــن لاقــى الـعـنـث مــن الـبـشــر؛ وأمــام هــذا، فقــد لا يـبـدو غـريـبـا تلـك الأوصــاف والألقــاب التــي كـان يـوصـف بـها حـكـامـهـا بصفــة خــاصــة، وسـكـانـهـا بصفــة عــامــة.

 

ومـا تـم الـتـنـبـؤ بــه، بـمـا كــان يـنـتـظـرهــا مــن محن والـتـي كـان مــن شـأنـهـا أن تـزحـزحها عــن صفـوتـها، وتـذهـب بـهـيـبـتـها، وتجعلها أهـون وأضعـف، فــي نـفـس الحـقـبـة الـزمـنـيـة التــي عــاش فيها النبـي يوسف عـلـيــه الــســلام، والطــريقــة التــي تــم بـواسـطـتـها تجــاوز هـذه الأزمــة، لـعـلـهـا تحـمـل فــي طيـاتـهـا عـبـرا ودروسـا كـثـيـرة، تـصـلـح لأن تــدرس كـنـظـريـات فــي الجــامـعـات، خاصـة فـي مـا يتعلق بالجـانـب السيـاسـي.

 

ابـتـدأ هــذا، وكـمـا هـو مـفصـل فــي القــرءان الــكـريـم، منــذ اللـحـظــة الـتــي بـيـع فـيـها الـنـبــي يوسف عـلـيـه السـلام وأخــذه كـعـبـد إلــى دولــة سيصـيـر فـيـمـا بـعـد مـنـقـذهـا وحــاكـمـهـا العـادل. فـالمحــن الـتـي لاقـاهـا، لــم تـكن فـي واقــع الأمــر محـن في حـد ذاتـها، بل كـانـت مجــرد اخـتـبـارات، وتــزكـيــة للـنـفـس، وصـقـلـهـا حتــى تسمــو عــالــيــا نحــو الأفــاق؛ فــأن لا يخضــع لهــوى النفس، رغـم مخـتـلـف الإغــراءات، وأن يـدفـع الثـمـن غـالـيـا مـقـابـل ذلـك، ومع ذلـك لا يستـسلــم، فــذاك ليــس بالســهــل أبــدا، وإنـمـا لــكــي يـكون فــي مـسـتـطــاعــه تحمـل مسؤوليـة كـبـرى، جنبـا إلــى جـنـب مـع مـلـك أمــة كـانـت أكـبـر وأقـوى أمــة فــي زمـانـهـا.

 

إن الـنـبـي يـوسـف عـلـيـه السـلام، تحـمـل كـل تـلـك الـمـحــن، غـدر، كـيـد، إغــراءات، سـجـن، بـعـد، وشـوق.. إلا لـيـكون فــي الأخـيـر ذا مـنـصـب فــي دولــة، عـنـدنــا الـيـوم تـم اسـتـسـهـالــه والاستـهانـة بــه(المنصب) إلــى حــد كـبـيـر، ويـتــم تــولـيـتــه بــسـهــولــة أكـبـر دون أدنــى جـهــد، ولأي كــان دون اخـتـبـارات أو محــكــات حـقـيـقـيــة.

 

فـقـد يـبـدو الأمـر، فـي وقـتـنـا الحــالــي بـسـيـط للـغـايـة، يـكـفــي أتـبــاع، يجـعـلـون لـهـم زعـيـمـا، يـهـيـجـون الـنـاس بطـريــقـــة أو بأخــرى، لـكــي يـمـنـحـوه أصــواتـهـم عـنـد كــل مناسبــة انـتـخـابـيـة، لـيـصـبـح فــي الأخـيـر عــزيـز دولــة؛ لكن فـي نـهايـة المطـاف، تكون النـتـيـجــة علــى شـاكلــة مــا نــراه اليـوم، الجثــوم علــى عــاتـق شعــوب لا ذنـب لـهـا، ابـتـلـيـت بـمـثـل هـؤلاء، وبــات الـفـقـر والبـؤس مصـيـرهـا المحـتـوم.

 

 

ولعل هـذا، لـلأسف الشـديـد، هــو مــا يحصــل فــي بـلــدان تـؤمـن بقصــة هــذا الـــنـبـي الــذي اسـتـخـلـصــه لـنـفـسـه مـلــك أكـبـر دولــة فـي زمـانـهـا، لا لـشـيء إلا لأنــه كـان حـرّ النـفــس أبـيّـهـا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة