و إنك لعلى خُلق عظيم
محمد أسامة الأنسي
يعني على دين عظيم، خُلق هنا بمعنى الدين، و الخُلق و الخَلق كلاهما بمعنى واحد، فالدين أخلاق و الأخلاق فطرة في الخَلق، ومنه قول القرآن << فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخَلق الله>> قال كثير من المفسرين " الخَلق هنا الدين، أي التوحيد، أي لا تبديل لدين الله"، وسميت الأخلاق أخلاقا لأنها مخلوقة في الإنسان، و الأخلاق الفطرية في الإنسان هي : الخوف و الاحتياج و التعلق، وهذه الأخلاق الفطرية التي تظهر أولى ملامحها في وليد الإنسان و الحيوان معا، هي التي ينبجس منها أخلاق مكتسبة، يعتبر العقل فيها الحكمَ، و الميزة التي تجعل الإنسان عاقلا، فالكرم و الحب و العرفان والصبر و الإيثار ...ألخ كلها أخلاق ناتجة عن التعلق، سواء التعلق بأحد أو بشيء ما، و الاجتهاد و المثابرة و الصدق والكذب و الحياء و الطمع و الغدر و الخداع و الجبن....من الاحتياج لشخص أو لشيء ما ، و كل هذا بسبب الخوف، فالخوف من الجوع يدعوك لمحبة من يطعمك، و إطعامُ من أطعمك لغيرك يدعوك بسبب محبتك له أن تُطعم غيرك كما أطعم هو، تقليدا ومحاكاة، فينتج منه خُلق الكرم، فإذا أحببته خفت أن تفقده فتلجأ بحاجتك هذه للحفاظ عليه بأخلاق الصدق معه أو الكذب عليه مخافة هجره وتأنيبه، و الزهد في غيره أو الطمع فيه أو في ما يقربك منه، وكل ذلك لتجد الأمان، فيكون الخوف هو الخُلق المخلوق أصلا في الإنسان، ومنه تُخلق كل أنواع الأخلاق ( من الخَلق ) الأخرى سلبية و إيجابية، و غاية الإنسان من هذه الأخلاق المكتسبة هو الحصول على الأمن، لذلك فالإنسان في صراع مع ذاته ونفسه خوفا على نفسه و ما يُحب، رغبةً في الأمن الذي يطمح إليه و يود المحافظة عليه، فتكون غاية الله من الخلق هي : الإحساس بالخوف لطلب الأمان عبر اكتساب الأخلاق و هذه الأخلاق حسب مفهوم الخلق، يجب أن تكون أخلاقا من نوع محدد وهي : الحب عوض الكره / الصدق عوض الكذب / الشجاعة عوض الجبن / الكرم عوض البخل ... ألخ و هكذا يكون الله قد حدد للإنسان نمطين من الأخلاق :
أخلاق أصلية هو من وضعها : الخوف و الحاجة و التعلق و أخلاقٌ، الإنسان من يكتسبها : الحب و الكره و الكرم و الجبن و الصدق و الكذب والقناعة و الطمع...ألخ ودعني أسمي الأخلاق الإيجابية "كالصدق" أخلاق، و نقيضها السلبي "الكذب" أَعلاقا، لمزيد توضيح...
لذلك كان الإنسان مسؤولا عن الأخلاق التي يختارها، غير مسؤول عن الأخلاق الفطرية فيه، فلا أحد يلومك على خوفك، فهو أمر فطري، لكن اللوم أن يدعوك خوفك لتصبح جبانا أو كذابا أو شاهد زور، أو خائنا... ألخ و لا لوم عليك إذا كنت تحتاج لأي شيء، لكن الملامة أن يدفعك احتياجك لتسرق عوض أن تعمل أو تكون شجاعا وتدافع عن حقك، أو تغش عوض أن تجتهد، أو تكذب عوض أن تكون صادقا.
وليس عليك من تتريب أن تتعلق بشيء أو شخص، ولو أن تتعلق بنفسك، لكن شريطة ألا يدعوك الحاجة للتعلق أن تتخلق بخلق الذل بدل العزة، أو الطمع بدل البذل، أو الكره للآخرين ممن لا يتعلقون بما تتعلق به، بدل التسامح و المحبة للجميع، ففي قانون الأخلاق الإلهية، ليس عليك أن تتعلم الكره ما دمت قادرا أن تحب، فالغاية أن تحصل على الأمان، ولا أمان في نفس لم تتخلص من أضداد أعلاقها السيئة، لصالح أخلاقها الطيبة، فلا يجتمع في قلب الإنسان الحقيقي، خُلقان متضادان، ولو ادعى أنها أمرُ الشرائع، فإما أن تُحب و إما أن تَكره، و إما أن تَصدق و إما أن تَكذب، وكما لا يجتمع خُلق الخيانة و الوفاء في شخص واحد، فكذلك لا تجتمع الأخلاق الأخرى وأضدادها في القلب الآمن، فمن اجتمعت الأضداد في قلبه فهو بعيد عن الأمن النفسي و الاجتماعي، بعدد الأخلاق و الأعلاق المتضادة في صدره، و هذا هو الدين.
ووجودُ الأخلاق و الأعلاق المتضادة في قلب الإنسان، هو ما سبّب التمييز بينهم على حسب الدين و العرق، و الإقصاء للآخر المُخالف و المُختلف، فتجد المسلم و اليهودي و الهندوسي و اللاديني يكره من كان على غير دينه، و يعتبر ذلك دينا أو منطقا، و يُحب من كان على دينه ويعتبر ذلك دينا ومنطقا، فيدعوه ذلك لتحقير من يخالف دينه، ويعتنق ما لا يؤمن به، فيجتمع في قلبه حب و كره، أخلاق و أعلاق، حب من يؤمن بما يؤمن به، وكره من يخالفه، فيتولد الحقد و تظهر النعرات و القتال و الحروب، و يدعي كل فريق أنه يقتلُ لأجل "ما" أو "من" يُحب ضدا فيما أو مَن يكره، فيمتنعُ عنه و عن أمثال إيجاد الأمان ما دام في قلبه حب وكره مجتمعان، ولذلك تأبدت الحروب باسم الأديان، وسببُها في الحقيقة أخلاق الإنسان، لا فروض الأديان، فالدين الذي يعتمد الفطرة يعلم يقينا أن الجمع بين الخُلقين النقيضين في قلب واحد، لا يُوصل لبر الأمان، و لا يُوجِد الطمأنينة، فكيف يأمر بما يخالف ما يدعو إليه و يبشر به من حصول أتباعه على الأمن و الأمان في ظل أمره أن يتخَلقوا بالنقائض من الأخلاق التي تؤجج الخوف و تبقي الإنسان في دائرته من حروب و مجازر في سبيل شيء لا تحصل و لن تحصل عليه إلا بتنقية قلبك من الأعلاق لصالح الأخلاق ، وحينها فقط ستجد أن العالم كله أصبح على دين واحد، أي على أخلاق واحدة، ولطالما كان هذا هدف الأديان، من دعوتها لنشر تعاليمها في العالم بين الناس، لكنها كانت تمزج ذلك بطقوسها و تعاليمها التي كانت تجعل الآخرين يشعرون بالخوف و التهديد، و لم تكن الأديان تنتبه لهذا المعنى، وهو توحيد الأخلاق في أخلاق موحدة خالية من الأعلاق، إذا لكانت الحروب انتهت مع أول دين ظَهر، ولربما كنا في عالم آخر اليوم، خال من المتضادات التي لا تنفع الإنسان الواحد في شيء.
إن صراع الإنسان ليس مع غيره، بل مع نفسه، في محاولة طويلة، لتصفية نفسه من الأعلاق التي تجعل مسافة الأمان بعيدة عنه، و إذا سأل سائل، كيف تأمر أن أُحب من آذاني، فالرد لا يعني أن تكرهه إن كنت تبحث عن أمان نفسك، فعقابه قد يبرد الحقد الذي في داخلك، ووجود الحقد دليل على غياب التّسامح و الصّبر و الحِلم، وهذا يجعل منك إنسانا مليئا بالخوف، فبإمكانك ألا تحب دون أن تكره، أن تمحو ذاكرة الكُره، أن تتوقف عن الإحساس به، لصالح أخلاق أخرى، لتفهم أن من يؤذي ليس عاقلا أبدا، و ليس إنسانا بعدُ، قد تخاف، أو تبتعد، أو تنسى، لكنه ليس من العقل، أن تكره الكلاب لأن أحَدها عضك، فهي في الأخير حيوانات غير عاقلة أصلا..