الاختيار الانساني على ضوء نظريات ميكانيكا الكم

الاختيار الانساني على ضوء نظريات ميكانيكا الكم

محمد إبراهيم الزموري

لكل فعل انساني أسبابه ونتائجه، والأسباب تزكيها وتغديها معطيات ذاتية وموضوعية، كلها تتشكل لتعطي لنا الاختيار، لينتج لنا في النهاية الأفعال والممارسات البشرية التي تسير المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

 

حاول المفكرين والفلاسفة عبر القرون العديدة الغوص في المسائل التي تذكي الاختيار وتحفزه، فتنوع التفسير حسب التوجهات والمدارس الفكرية، ومع تطور العلوم أصبح تفسير الاختيار غير مقصور على التفكير النظري المجرد، بعد ولادة المدارس النفسية وتطور العلوم التجريبية، والتي أصبحت تفسر الأفعال الإنسانية وفق مقاربات ومعادلات رياضية وتجارب فيزيائية. تفسير معضلة الاختيار من عدمها كانت محفزا لظهور العديد من الدراسات والتوجهات والتيارات كالجبرية والقدرية، وجدلية الانسان (مخير أو مسير)، وما نتج عن ذلك من حروب واقصاء ومحاكمات وأيام سوداء طبعت قرون من تاريخنا المعلوم، والتي لاتزال تلقي بظلالها على بقاع من ربوع عالمنا العربي.

 

ترتكز "حرية الاختيار" على مفهومي الغائية والسببية. فالاختيارات في الطبيعة، وعلى المستوى الإنساني، تكون اختيارات حرة بشكل كامل وخاضعة للغاية التي يعبر عنها الاختيار. وإنما هي في نفس الوقت تكون مقيدة بالشروط الخارجية والدوافع والأسباب التي يمكن أن تجعل حرية الاختيار غير مطلقة. ولذلك تتراجع إمكانية حرية الاختيار ما بين الإمكانية المحدودة إلى الإمكانية الواسعة بحسب طبيعة الشروط السببية والغائية التي تكون قائمة في كل موقف معين.

 

وبهذا يكون المعنى الحقيقي لمفهوم حرية الاختيار هو أن درجته تتراوح بحسب طبيعة الظروف الخارجية ودرجة تعقيد الموجود نفسه وخلفياته.

 

ولأننا نرتكز على الثروة التي تتيحها لنا الأبحاث المعاصرة في فلسفة العلم، وفي العلوم التخصصية المختلفة. لذا فسوف نؤيد تصورنا هذا ببعض الأبحاث التي طرحت فكرة حرية الاختيار على مستويات مختلفة في الطبيعة.

 

في أواخر عام ٢٠٠٤ أعلن اثنان من أكبر علماء الرياضيات هما جون كونواي "Conway John "وسيمون كوشن "Kochen Simon "من جامعة برينستون" أنهما قد توصلا إلى إثبات رياضي يفيد بأنه "إذا أمكن إثبات أن فردا واحدا على الأقل يمتلك حرية الإرادة بمعنى أنه يمكنه اتخاذ قرارات يمكن التنبؤ بها، فإنه من الضروري أن يكون الكون كله بما فيه الأجسام الدقيقة ممتلكا لحرية الإرادة". ورغم أن العالمان قد أعلنا تفاصيل نظريتهما والتي سميت بنظرية حرية الإرادة "Theory Will Free "في مناسبات عديدة بعد ذلك، إلا أنهما حتى الآن، لم يقررا مكان نشر بحثهما بعد.

 

وقد اعتمد هذا الإثبات الرياضي على ثلاث فرضيات أساسية اثنان منها قد تم إثباتها فعلا، والثالثة هي فرضية مقبولة من المجتمع العلمي على وجه العموم. فالفرضية الأولى هي ما تسمى نظرية "كوشن-سبكر "Specker-Kochen وهي فرضية معروفة تتعلق بإمكانية قياس اللف "Spin "لأي جسيم من الجسيمات دون الذرية في الاتجاهات الثلاث. وهي تعمد على قياس مربع اللف بدلا من قياس اللف نفسه بطريقة متتالية.

 

الفرضية الثانية هي فرضية التشابك "Entanglement "في ميكانيكا الكم. والتي تفيد بأن يمكن أن يكون هناك ارتباط دائم بين جسيمين رغم بعدهما المكاني عن بعضها البعض، وهي فرضية تم إثباتها عمليا. أما الفرضية الثالثة فهي فرضية أنه لا يمكن للمعلومات أن تنتقل لحظيا من مكان لآخر وأن تؤدي إلى تغيير فيزيائي لحظي. وهي الفرضية التي تتفق مع الفرضية الأساسية في نظرية النسبية العامة والتي تفيد بأنه لا شيء يمكنه ان ينتقل بسرعة أكبر من سرعة الضوء. وتفسير النظرية هو أيضا محل جدال وذلك لأنه يزال هناك بعض الاتجاهات المتمسكة بالنموذج الميكانيكي وتفترض أنه يمكن إثبات أن أي فرد إنساني يمتلك حرية الإرادة. وهذا الإثبات هو أساسي حتى يمكن إثبات أن باقي الموجودات تمتلك حرية الإرادة أيضا. ولكن في كل الأحوال يعد طرح مثل هذه النظرية من اثنين أكبر رياضيي العصر الحالي، أحدهما هو "سيمون كوشن" من أشهر متخصصي ميكانيكا الكم، يعد بمثابة تأييد قوي لفرضية حرية الاختيار التي نطرحها باعتبارها

 

المفهوم الجوهري للنموذج اللاميكانيكي للطبيعة. ودليل قوي أيضا على أن العالم يمر حاليا بمرحلة التحول من النموذج الميكانيكي القديم إلى النموذج الجديد المعتمد على حرية الإرادة الذي هو في طور التشكل.

 

ان جوهر نظرية ميكانيكا الكم سواء في صورتها الأولى في معادلات "شرودنجر" و"هايزنبرج" و"ديراك" أو في صورة نظرية المجال الكمية هو أنه يمكن التنبؤ بشكل دقيق بحركة الجسيمات دون الذرية. ولكن النظرية تعطينا الاحتمالات التي يمكن أن تحد فيها هذه الحركة. ولأن تطبيقات هذه النظرية تتم على الجسيم الواحد وإنما على عدد كبير من الجسيمات، ولا تتم في المدى الصغير جدا من الزمن الذي يتحرك فيه الجسيم، وإنما على مدى كبير بالنسبة لحركة الجسيمات دون الذرية. لهذا فإن النظرية ناجحة في تطبيقاتها التكنولوجية العديدة التي تتم على المستوى الكبير، وكذلك في التنبؤ بالتفاعلات دون الذرية التي تتم في مدى زمني طويل بالنسبة لمكونات الذرة.

 

ولذلك تعد نظرية ميكانيكا الكم أنجح نظرية في تاريخ العلم من الناحية التطبيقية، أما من الناحية التفسيرية فالنظرية غير كاملة، فالمشكلات التي قابلت العلماء لتفسير الظواهر على المستوى الكمي كانت كبيرة إلى درجة أن مؤسسي النظرية في العشرينيات من القرن الماضي قد تبنوا فكرة الأداتية. بمعنى انه ليس المهم أن تعبر النظرية عن واقع معين مفهوم بالنسبة لنا وإنما المهم أن تكون أداة نافعة في البحث العلمي.

 

لذلك من الناحية النظرية تعد النظرية مفتوحة حتى الآن للتفسيرات المختلفة، وفي الواقع هناك عدد كبير جدا من التفسيرات النظرية لميكانيكا الكم. ولكن ما يعد من حقائق الواقع هو أن الجسيمات على المستوى دون الذري لا يمكن التنبؤ بحركتها أو اختياراتها على المستوى الفردي، وأن هذه الجسيمات تتفاعل وتتأثر بالوعي الإنساني، وهذا مربط الفرس.

 

وبحسب هنري ستاب "Stapp Henry "أحد أكبر فيزيائي ميكانيكا الكم المعاصرين، فإن هناك ثلاث عمليات أساسية تتم عند تطبيق ميكانيكا الكم. الأولى هي الاختيار الإنساني بإجراء اختبار معين وتحديد متغير معين (وتسمى1 Process). والثاني هي اختيار يرجع إلى المنظومة الكمية التي ترد على الاختيار الإنساني بنعم أو لا (ويسمى 2 (Process وذلك طبقا لنظرية فون نيومان "Newman Von” عن نظرية الكم. والثالثة وهي النتيجة التي تنتجها المنظومة الكمية التي يمكن فيها تحديد حالة جسيم واحد وإنما يتم تحديد حالة عدد كبير من الجسيمات طبقا لقاعدة احتمالية (ويسمى 3 (Process فحجر البناء الأساسي لهذا التصور الجديد للطبيعة ليس أجسام دقيقة من المادة وإنما "اختيارات" "Choices "ما بين الأسئلة والإجابات.

 

وفي بحث حديث لثلاثة من كبار علماء ميكانيكا الكم والبيولوجيا وعلم النفس، هم "هنري ستاب" و"جيفري شوارتز" و"ماريو بوجارد"، حول العلاقة بين التفاعلات على المستوى الكمي في المخ وبين ظهور العقل، طرحت تصورات جديدة بخصوص العلاقة بين نظرية الكوانتم ومفهوم حرية الاختيار. فطبقا لتجارب علمية عديدة موثقة ثبت أن توجيه الوعي الشخصي بشكل إرادي يمكن أن يغير الأسلوب الذي تتم به معالجة المعلومات في المخ، فيما يسمى بالتنظيم الموجه ذاتيا لرد الفعل العاطفي self-directed regulation of emotional response واستنتج فريق البحث أن هذه الظاهرة ناتجة عن أن المعلومات يتم معالجتها في مخ الإنسان على مستوى ميكانيكا الكم. وأنه طبقا لنظرية "فون نيومان" فإنه لا بد من أن يوجد اختيار حر للسؤال (Procss1) حتى يتم الإجابة عليه من خلال قوانين ميكانيكا الكم. وهذا الاختيار الحر للسؤال تقوم به خلايا المخ بشكل ذاتي بناء على إرادة الإنسان.

 

ولأن الظاهر من حركة الجسيمات دون الذرية هو أنها تمتلك قدرا من حرية الاختيار كما يظهر من التجارب المعملية، وهو أمر يتعارض مع النموذج الميكانيكي للطبيعة، فقد ظهرت اتجاهات تطرح فكرة ما يسمى المتغيرات الخفية "Variables Hidden “وهو تصور كما يظهر من اسمه أنه يمكن أن توجد متغيرات غير معروفة "خفية" تكون هي "السبب" في التصرفات غير المفهومة للجسيمات على المستوى دون الذري. ولكن منذ طرح هذا التصور مع بدايات ميكانيكا الكم وحتى الآن لم ينجح أي تصور مبني على "المتغيرات الخفية" في تفسير نظرية ميكانيكا الكم. وهو الأمر الذي جعل أحد أكبر الرياضيين المشاركين في هذا التصور، وهو "سيمون كوشن"، إلى التخلي عنه في نهاية الأمر والمشاركة في البحث الذي يثبت حرية الاختيار للموجودات جميعا بما فيها تلك على المستوى دون الذري.

 

نعود مرة أخرى لأسس نظرية فيزياء الكم، فمن خلال تجربة الشق المزدوج للفيزيائي والطبيب البريطاني "شقي يونغ" فالإلكترون يسلك سلوك الجسيم والموجة في الوقت نفسه، وهذا ما يعرف "بالتراكب الكمي"، وعندما نقوم برصد الإلكترون، ومراقبته فستنهار دالته الموجية وسيتعين في مكان واحد. إذاً بالنسبة للعالم النمساوي "نيلز بور" وزملائه؛ عملية القياس تؤثر في سلوك النظام الكمي وتجبر الجسيم على التخلي عن كل الأماكن المحتمل أن يكون فيها، وأن يختار مكاناً محددا حيث ستجده، وهذا ما يعرف بتفسير "كوبنهاغن".

 

لمقاربة الأمر حاول العالم الشهير "أرفين شرودنغر" شرح هذه الظواهر من خلال تجربة ذهنية تدعى "قطة شرودنغر"، تخيل أنه قد تم وضع قطة داخل صندوق، ومعها جهاز يصل بين مادة مشعة وغاز السيانيد السام، عندما تتحلل المادة المشعة فسوف ينطلق الغاز السام ويقتل القطة، علما أن احتمال تحلل المادة المشعة بعد

 

ساعة هو خمسون من المائة. الآن سنغلق الصندوق، وننتظر ساعة من الزمن، وسنتساءل قبل فتح الصندوق: هل القطة حية أم ميتة؟ في مجال الحس المشترك والمنطق السليم، فإن القطة إما أن تكون حية، وإما أن تكون ميتة، ونسبة الاحتمالين متساوية تماماً خمسون من المائة لكل احتمال، أما في عالم الكم، فإن القطة ستكون في حالة تراكب، أي أنها حية وميتة في نفس الوقت من خلال تراكب بين دالتين موجتين: الأولى (الذرة لا تتحلل/ القطة حية)، والدالة الموجية للحالة الأخرى (الذرة تتحلل/ القطة ميتة). وعندما نفتح الصندوق ونشاهد ونرصد داخله، فإن الدالة الموجية ستنهار وستأخذ حالة واحدة، إما حية وإما ميتة.

 

هنا جاء الفيزيائي الشاب "هيو إيفرت" ليتفق مع نظرية التراكب الكمي، لكنه اختلف مع تفسير "كوبنهاغن"؛ حيث اعتبر أنه عند لحظة فتح الصندوق في تجربة "شرودنغر" الذهنية، فإن الدالة الموجية لا تنهار وتأخذ احتمالاً واحدا؛ بل إن ما يحدث هو أن الكون سينقسم إلى كونين في لحظة الرصد والقياس، وبالتالي إن وجدنا أن القطة حية فستكون في كون موازٍ آخر ميتة. تبدو هذه الفكرة مثيرة وتحمل في طياتها تضمينات كثيرة، فأي حدث يقع في الكون ينجم عنه نشوء أكوان أخرى متفرعة عددها يساوي عدد احتمالات نتائج الحدث الذي وقع بالفعل، وهذا يعني أن هذه الأكوان المتعددة تتكون في كل لحظة، وأن عددها لا نهائي.

 

لنفترض مثلاً أنك دخلت محلاً لبيع الملابس لتشتري قميصاً جديدا ثم وجدت ثلاثة قمصان مختلفٌ ألوانها: قميص أسود، وآخر أبيض، وآخر بني، ثم بعد تفكير قررت شراء القميص الأبيض فعندها ستكون قد اشتريت القميص الأسود في كون موازٍ آخر والقميص البني في كون موازٍ ثالث! بناءً عليه يمكن القول إنه مثلاً في كون موازٍ آخر قد تكون الديناصورات لا تزال حية، والإنسان هو الذي تعرض للانقراض، أو قد يكون هتلر مثلاً لاعب كرة قدم أو شاعراً أو طبيب أعصاب.

 

وهذا التوجه عززته بقوة نظرية "الأوتار الفائقة" حيث كان سابقا الاعتقاد أن أصغر جسيم داخل الذرة هو الكوارك الذي يعتبر أصغر حتى من البروتونات والنترونات، بعد ذلك اكتشف أن الكواركات تتألف هي الأخرى من أوتار من الطاقة أحادية البعد ورفيعة جداً تتذبذب وتهتز، فتتحدد وفق هذه الاهتزازات طبيعة وخصائص الجسيمات الأكبر منها، مثل البروتون والنيوترون والإلكترون، وبالتالي تحدد طبيعة المواد وخصائصها، وكأن كل ما نراه في العالم من حولنا عبارة عن سيمفونية فلكية كما أطلق عليها "براين غرين"، وكل شيء ناتج عن تذبذب الأوتار كما ينتج اللحن الموسيقي عن اهتزاز أوتار الآلات الموسيقية.

 

كما أكد الفيزيائي" آلان جوث" Alan Guth على وجود عدة عوالم موازية وفي كل عالم توجد نسخة منك مع خيارات نقيضة، والجدير بالذكر أن هناك حديث بإسناد عن أبي الضُّحَى الذي يروي عن شيخه وأستاذه

 

عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهم أجمعين – قائلاً أن ابن عباس في آية "سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ" قال "سبعُ أراضين، في كلٍ نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وموسى كموسى وعيسى كعيسى"، وفي رواية “وابن عباس كابن عباسكم”، فكيف توصل ابن عباس الملقب بحبر الأمة الى هذا التفسير الكمي العميق والمعقد، والأهم كيف تم تجاهل ذلك في كتب الحديث والتفسير، وكيف لم يتم استغلاله للسبق العلمي، وبداية وضع النظريات بدل استهلاكها.

 

 

على العموم فإن اختيار الانسان ينتج من مجموعة كبيرة من الاحتمالات على شكل دالة موجية، وكلما كان الاختيار معزز بالإدراك والوعي والعلم والحرية كان الاختيار موفقا وتمثل بشكل جيد في نتائجه، في حين الاحتمالات الأخرى تتمثل في العوالم الموازية، لذلك لا تحزن وتتأسف على سوء تقديراتك فهناك نسخك السعيدة في عوالم الأكوان المتعددة.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة