رهانات ما بعد كورونا

رهانات ما بعد كورونا

خالد ليلي

فرض فيروس كورونا بتداعياته الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية على المجتمعات العالمية أثار جمة ، جعلته و لاشك محطة تاريخية مفصليــة في إفراز ترسبات عميقة ذات تأثير بنيوي على حذافير العمل اليومي و نمط الحياة المعتاد ، انطلاقا من قدرة هذا الفيروس على النبش في تضاريس المعيش اليومي لساكني الكرة الأرضية عامة و لبصمته الواضحة في التأثير على القناعات التي طبعت مساراتهم وتغيير مجموعة من المسلمات التي أطرت اختياراتهم ، ليبقى السؤال المطروح اليوم حول مدى استطاعتنا التأقلم مع هذا الواقع الجديد في ظل العوائق و الأزمات التي حاصرتنا ، و قدرتنا كدولة و كمجتمع في أن نعيد النظر في إشكالاتها و مصوغاتها بغية معالجتها و استخلاص الدروس منها و بالتالي تطوير الحلول الكفيلة بتجاوز المطبات و المعيقات التي وقعنا فيها ، و يبقى الهدف الأسمى هو تلمس أسباب النهوض من جديد في سبيل الرقي بمجتمعاتنا إلى مستوى التحديات التي تنتظرنا ،يقول الكاتب الإسباني جورج سانتيانا " إن الشعوب التي تنسى تاريخها محكوم عليها بأن تكرره ،وأن تعيد إنتاجه " ، فما هي إذا أهم القضايا التي صارت تطرح نفسها بحدة في زمن ما بعد كورونا إذن ؟ و ما هي أهم الرهانات التي وجب علينا التصدي لها ؟

 

إن تدبير رهانات ما بعد كورونا لا يجب أن يصدر من هاجس حماسي انفعالي يبغي فقط أن يركب تيار الوعاظ و الشعبويين الذين يتسللون عبر كل نازلة ليعلنوا عن حضورهم الإعلامي و المظهري في غياب أية مقاربات علمية تتلمس الوقائع الموضوعية للحدث ، كما أن هذا التدبير يفرض على صاحبه أن ينأى عن كل دجل ينصب صاحبه عرافا يستطلع الغيب من دون الغوص في تجاويف العوامل الموضوعية و العقلانية للواقع الذي يتطلب منا قراءته قراءة صحيحة وتفكيك مسبباته و تلمس كل المدخلات و الأخطاء التي صاحبت عملية تدبيره ومن تم العمل على تقويمه (SAVOIR – PREVOIR –POURVOIR ) . من أجل ذلك حاولنا أن نطرح بعض المحاور بطريقة مختصرة نرى أنها كفيلة بمدنا بالقراءة السليمة لهذا الحدث الكوروني بغية العمل على تجاوز تداعياته :

 

أولا : من الناحية الكوسمولوجية حشر هذا الفيروس الإنسان في زاوية ضيقة ، بعدما اعتقد أنه سيد الكون بامتياز انطلاقا من سيرورة زمنية ابتدأت منذ القرن السادس عشر مع ديكارت الذي أخضع الطبيعة لنسق رياضي استطاع الإنسان من خلالها فك طلاسمها و اكتشاف قوانينها بعيدا عن سلطة الخرافة و الغيب ليتحكم فيها اعتمادا على سلطان العقل الذي وهبه الله إياه و ليتسيد العالم انطلاقا من جبروت العلم و المعرفة طيلة القرون

 

الماضية ، ليفاجأ مع هذا الحدث بوجود كائن لا مرئي يقلب عليه طاولة منجزاته وينافسه في تدبير معطيات الحاضر ، ما دام ظهور هذا الكائن اللامرئي يعبر عن تطور بيولوجي رهيب لكائنات خفية حية قد تختزن كل أشكال الدفاع و الهجوم و يجعلها تشكل مزاحمة وجودية لهذا الإنسان لتحد من تبجحه وتقلص من جبروته العقلاني الكلي في تدبير أشكاله العلائقية تجاه الكون بمختلف مكوناته ، وهي صدمة أخرى تضاف إلى الصدمات التاريخية الكبرى التي تلقاها الوعي البشري أول الأمر مع كوبرنيكوس والصدمة البيولوجية مع داروين مضافا إليها الصدمة السيكولوجية التي أحدثها التحليل النفســـي مع فرويد ، وأخيرا صدمة الإنسان مع جوهره كإنسان بعد عملية استنساخ نعجة دولي.

 

ثانيا : أصبحت المطالبة بعودة الدولة لشغل وظائفها الأساسية مطلبا عالميا و اعترافا بأهمية مؤسساتها في تدبير شؤون المجتمع بصيغة كلية بعيدا عن سياسة الانكفاء التي ميزتها منذ العقود الأخيرة ، بمعنى الحاجة أولا إلى دورها الاستراتيجي في وضع قواعد اقتصادية مبنية على التنظيم و ضبط المنافسة والحد من اقتصاد الريع و الفساد، و ثانيا عبر تفعيل قوانين الحماية الاجتماعية لتشمل القطاع غير المنظم و الفئات الهشة في تجسيد حقيقي لمفهوم دولة الرعاية و خلق نظام قوي قادر على إيجاد مناعة اجتماعية صلبة تعضد دورها التضامني ، وهنا تطرح قضية الإعانات التي يتم تقديمها إلى هذه الفئات أو ما اصطلح عليه ب " مال المروحيات " ( مصطلح أطلقه الاقتصادي ميلتون بريدمان لوصف النقود التي يتم توزيعها مجانا على المستهلكين ) و الإشكالات التي تطرحها عبر التفكير و ابتداء من الغد في الآليات المستقبلية لطريقة صرفها و مجموع الضوابط الاجتماعية التي سوف تؤطرها من مثل آلية "راميد " أو السجل الاجتماعي ، مع أهمية التذكير أن العلاقات الأفقية التي يعيشها المجتمع المغربي هي التي تعطيه إمكانية التحمل و المواجهة ما دام أفراده يتميزون بنوع من الخفة في التدبير اليومي "البريكولاج " كنوع من القوى الإبداعية الخلاقة لهذا الإنسان في علاقته باليومي المعاش والتي تعطي شيئا من المناعة للمجتمع على حد تعبير السوسيولوجي المغربي محمد الطوزي .

 

ثالثا : تكريس الرقمنة كمعادلة فاعلة في تشكل هوية مجتمعات ما بعد الحداثة بنقل التواصل الإنساني من المستوى المادي إلى المستوى الافتراضي عبر تطبيقات مستحدثة تستجيب فوريا لمتطلبات الاتصال وكافة أنواع الخدمات المطلوبة لتدبير حياتنا اليومية عن بعد ولتفعيل أشكال التواصل بيننا كمجتمع ...وهنا لابد أن تتجه مخططات الدولة إلى الاستثمار في الذكاء الصناعي كقطاع أساسي و فعال في مجتمعات ما بعد الحديثة و كعنوان للتقدم المنشود ، لكن مع ضرورة الحذر من أن تتسلل هذه الرقابة الرقمية إلى تفاصيل علاقاتنا الاجتماعية و الحميمية لترصد كل حركاتنا وتحصي علينا تحركاتنا و سكناتنا وتفضح شركاءنا وأذواقنا و أهواءنا كما صورها جورج أورويل في روايته الشهيرة "الأخ الأكبر" (big Brother ) و تجعل الإنسان في خضم هذه الثورة الرقمية يذوي لصالح إنسان

 

اعتباري ليس أنا و لا أنت ، ولكن (س) كرمز رياضي على حد قول الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو .

 

رابعا : كشف حدث كورونا عن الدور المهم الذي أصبح يحظى به القطاع الصحي والتربوي في بناء الإنسان السليم صحيا و عقليا وكاستثمار فعال و أساسي في معركة الوطن ضد الجهل و التخلف ولترسيخ التنمية و التقدم كهدف أساسي لمجتمعات اليوم ،وهنا يطرح إشكال إعادة الأولويات في عملية البناء عبر وضع الصناعة الصحية و الغذائية والمنظومة التعليمية في قائمة جدول التنمية المنتظرة وكعنوان لاستقلالية الأوطان بالتقليص من التبعية التي تنخر اقتصاد المجتمعات الثالثية و تعوق كل إرادة حقيقية للبناء ، لكن في استحضار تام لأخلاق التضامن و التكافل ومستعينين بقيمنا التراثية التي توجب الحنو و صحوة الضمير حتى لا يصبح المريض سلعة في مزاد أو رقما على سرير أو رمزا في ملف تغطيته الصحية ، ومن جهة حتى نحمل الأسرة مرة أخرى واجبها الأساسي في العملية التربوية في تكامل تام مع المدرسة بعيدا عن أية أيديولوجيا تريح ضمير الآباء و تعفيهم من هذه المسؤولية عبر التشدق بمجموعة النصوص المستحدثة التي تضع الواجب فقط على المدرسة و الإعلام و بالتالي تخلي ذممهم من كل تبعات تربوية.

 

 

لعلها رهانات أردناها أن تتلمس بعضا من جوانب تدبيرنا اليومي في علاقتنا مع محيط أكبر لا شك أن الحدث الكورني قد مسه بشكل أو بأخر، مادام أن وقع المخاض سيكون كبيرا على مجموع البشرية والعالم والذي لا مراء في ذلك أنه سيعرف تغيرا على مستوى ترتيب أولوياتـــه و البدائل المقترحة ، حيث اعتبر الفرنسي جاك أتالي هذه المرحلة بمثابة اللحظة حاسمة للتخلص من الاختلالات الاقتصادية و الاجتماعية العالمية و استبدالها بنظام عالمي إنساني لتامين مستقبل البشرية و بقائها ، و الانتقال بالتالي من "اقتصاد البقاء " إلى "اقتصاد الحياة " هذا الاقتصاد الذي يشمل جميع الأنشطة التي تتيح العيش و تؤمن شروط الحياة و تسمح بالخروج من الأزمة في جوانبها الاقتصاديـــة و الماليــة و الاجتماعية ، وهذه القطاعات هي التي تزيد من فرص العمل و تحد من البطالة ، كما يلح على ضرورة الاهتمام بالصحة كمكون أساسي في تجسيد روح هذا الاقتصاد الجديد وهو طريق لاشك أنه سيكون طويلا نظرا لقوة الترسبات وشراسة المقاومة التي سيلقاها ممن يتحكمون في آلياته اليوم ، لكن ما هو أكيد أن ما بعد كورونا سوف لن يكون ما قبلها ، لقد أخد القديم يتهاوى و لكن الجديد لم يولد بعد .

عدد التعليقات (2 تعليق)

1

عزالدين لكذيوي

تأييد للكلمة

هذا العمل في الصميم، وينبغي أن نضع أفكارنا وكلامنا في قالب رصين، يحثنا علي التصرف بحكمة وروية من أجل استثمار معطيات الواقع وخصوصا ما جاءت به كرونا، بشكل يحول التحديات والمعيقات إلى فرص للمبادرة السليمة والإبداع في إيجاد الحلول، والقفز بالوطن والأمة إلى بر الأمان وبناء مستقبل أفضل يستجيب لتطلعات الإنسانية ومتطلبات العيش الكريم في مصاف الدول الرائدة ليس الذيلية التابعة دوما لأسيادها والمستهلكة لما لا تصنع ولا تنتج، فخير ما يطعم المر ما كان من عمل يده.

2020/06/27 - 06:26
2

محمد الورديني

تعليق

Je pense que cet pandémie n'a pas bien influencé les gens et ils vont revenir à leurs mauvaises habitudes. En plein crise ils n'ont pas pris de leçons. Beaucoup de personnes et institutions ont bien profité de la crise pour leurs biens personnels

2020/06/30 - 06:10
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات