هل تعيد الجائحة لشهادة الباكالوريا العلمية هيبتها؟
أنس السبطي
بخلاف ما كان متوقعا، فإن امتحان الباكالوريا لهذه السنة الذي تزامن مع التوقف الاضطراري للدراسة بسبب الإعلان عن حالة الطوارئ التي نجم عنها عدم التمكن من إتمام الربع الأخير من الموسم الدراسي، كان مستواه أعلى من انتظارات من اجتازه، مما أثار سخط جل التلاميذ واستهجان عدد كبير من التربويين، على الأقل في شعب العلوم التجريبية والتقنية التي تضم غالبية تلاميذ الباكالوريا لا سيما في مادة الرياضيات التي خالف امتحانها منهجية وضعه المعتمدة في السنوات الأخيرة.
البعض يرى أنها فرصة لإعادة هيبة الباكالوريا العلمية، فأخيرا خرجت الامتحانات من نمطيتها التي تحولت معها إلى تمارين مكررة تتضمن أسئلة بسيطة مباشرة متطابقة حتى بتنا أمام نفس الامتحان الذي يتم تحيينه سنويا والاكتفاء بتغيير تطبيقاته العددية في غياب لتقويم يقيس حقيقة التعلمات المنجزة ويظهر الفروق الجوهرية بين مختلف الممتحنين إلى أن فقدت عملية التقويم جزءا كبيرا من قيمتها. لكن هل يمكن أن تعد هذه الطفرة الاستثنائية خطوة سليمة في هذه الظرفية التي شكلت ضغطا نفسيا إضافيا على المتعلمين انضاف إلى ضغط الباكالوريا الأصلي، والتي أحدثت هلعا مجتمعيا كبيرا تجاه وباء كورونا، والتي أدت إلى تضرر الإيقاع المدرسي وصعوبة استرجاعه بعد طول مدة المكوث في المنازل والانقطاع عن المؤسسات التعليمية. فهل يمكن للتلاميذ أن يكونوا مهيئين لهذا التغيير المباغت؟
لقد تعرض التلاميذ لخديعة كبرى، حيث انهالت عليهم التوصيات من كل جانب بضرورة اتباع منهجية محددة للتحضير لامتحانهم الإشهادي النهائي ليفاجئوا بتغييرها في آخر لحظة، والغريب أن هناك ممن يظهرون الغيرة على الواقع التعليمي ببلادنا من احتفى بالخطوة، غير أن غيرتهم تلك لم تظهر في باكالوريا الموسم الدراسي السابق حين كانت معدلات النجاح قياسية رغم الإضراب المطول الذي خاضته تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، كذلك الأمر في السنوات الماضية حين تم اعتبار توسيع دائرة حملات الشهادات هدفا في حد ذاته.
واليوم وبعد أن عجزت المنظومة التربوية المغربية عن إقناع الخارج والداخل على حد سواء بجودة منتوجها التربوي رغم المعطيات الكمية المضخمة، وبعد أن شكلت لها الأفواج المتلاحقة من حملة الشهادات ضغطا كبيرا بعد عدم توفير مناصب الشغل الكافية لها في الدولة أو حتى في القطاع الخاص عادت لانكفائها، فبدأت تفكر في الرجوع إلى نظام الأربع سنوات في سلك الإجازة وسعت إلى تشجيع التكوين المهني وضرب مجانية التعليم في
الأسلاك العليا. واليوم تستغل الجائحة لتقليص عدد الناجحين في الباكالوريا من أجل تثبيت هذا المعطى في قادم السنوات. كل هذا يندرج في هذا السياق اللاتربوي الذي تحكمه المصلحة السياسية والاقتصادية للوبيات النافذة، أما الجانب التربوي فهو دائما آخر الهم ولا يستحضر إلا لتبرير ما لا يبرر.
الواقع أن استثمار فرصة كورونا لإحداث التغيير في شأن تربوي أمر غير تربوي وغير أخلاقي ومع هذا كله غير ذي جدوى، فالعلاج بالصدمة إن كان مقبولا في غير هذا المجال، فهو هنا جريمة بحق الآلاف من التلاميذ في مرحلة جد حساسة من تحصيلهم الدراسي التي تنعكس على حياتهم الشخصية المستقبلية، ثم هل يمكن أن تسترجع قيمة الباكالوريا بمجرد تعديل امتحان في نهاية مشوار حافل بالثغرات والمطبات التي سلطت على التلميذ دون أن يكون له يد فيها.
تدني مستوى الباكالوريا إن ركزنا على التخصصات العلمية (لا تختلف باقي الشعب كثيرا) راجع لإفلاس منظومة تجتر الإخفاقات ولا تريد أن تخطو أية خطوة في الاتجاه الصحيح، فمنذ بدايات الألفية الثالثة مع إصلاح الميثاق، ظهرت إشكالات جديدة انضافت إلى المشاكل البنيوية التي يرزح فيها النظام التعليمي المغربي، حيث شكل تجزيء شهادة الباكالوريا إلى امتحان جهوي خصص للمواد الأدبية وآخر وطني لمواد التخصص ذات المعاملات الأعلى في السنة الختامية إضافة للمراقبة المستمرة لنفس السنة إرباكا وتشتيتا لذهن المتعلم المغربي وصعوبة في إحداث التوازن بين اجتياز سنوات مرحلة الثانوية التأهيلية من جهة وتحصيل المعدلات التي ستحتسب في معدل الباكالوريا النهائي، ليحدث التوافق على تسويات متعارف عليها رسخها سلوك الوزارة الوصية وأسهم فيها واقع الممارسة الميدانية.
حيث انصب التركيز على معدلات الباكالوريا، وهكذا فإن منطق الأولويات هو ما يحكم، فالأولوية في السنة الأولى من سلك الباكالوريا للمواد الأدبية التي سيمتحن فيها التلاميذ في الامتحان الجهوي، وحيث أن النجاح شبه مضمون في المراقبة المستمرة إلا لمن أبى، فهي تعتبر سنة للعبور، كذلك الأمر بالنسبة للسنة التي سبقتها في الجذع المشترك. وهكذا لا تستنفر الجهود إلا في السنة الختامية في الامتحان الوطني، وقتها يبدأ التلميذ في تدارك ما فاته، وحيث أن هذا صعب تحقيقه بالنسبة لجل المتعلمين، فإن الحل يكمن في الحلول السريعة التي ترقع معارفه من خلال الانخراط في الدروس الخصوصية التي تحضر التلميذ لتقنيات التعامل مع الامتحان النهائي، وكذا من خلال الاعتماد على الكتب التجارية التي تروج لنمط معين من التمارين التلقينية، وحيث أن الوزارة الوصية تدرك رداءة منتوجها، فقد كان يتواطؤ واضعو الامتحانات مع السوق الرائج من أجل التغطية على مستوى المتعلمين الحقيقي.
هذا الواقع الرديء وضع الأستاذ الجيد في حيرة من أمره، هل يغطي مجمل المنهاج ويقدم دروسه بالمنهجية العلمية الصحيحة أم يحاكي أساليب التلقين السائدة، فإن حافظ على نهجه فهو يظلم تلاميذه الذين لا يتحقق لديهم تكافؤ الفرص مع نظرائهم المستفيدين من الدروس الخصوصية المدربين جيدا على اقتناص النقط حتى لو لم يستوعبوا المفاهيم العلمية بالشكل المطلوب، وإن حاكى أساليبهم فهو يفسد تعلمات تلامذته على المدى البعيد، والمشكلة أن الوزارة تدعم النهج الثاني، وكم من اللجان التي استنفرتها من أجل توبيخ المؤسسات التعليمية التي حرصت على إظهار مستوى تلاميذها الحقيقي حتى إذا غيرت والتحقت بأساليب محيطها وإن لم يتحسن مستواها الفعلي انتفت المشكلة معها وحازت أطرها الإدارية والتربوية على الرضا والقبول.
التلميذ هو الحلقة الأضعف في المشهد التعليمي، ومن العبث تحميله مسؤولية ما يجري له لأنه ضحية نسق تعليمي أزمته سياسات تربوية عقيمة. لذلك فإن أية محاولة للارتقاء بجودة المنتوج التربوي وإعادة الاعتبار لشهادة الباكالوريا ينبغي لها أن تتجه أساسا إلى معالجة تعثرات التلميذ المغربي في مختلف الأسلاك التي يجتازها، ولن يتأتى ذلك إلا بمراجعة شاملة للمنظومة وتطهيرها من كل الظواهر التجارية التي اغتنت على ظهر المتعلمين