آيا صوفيا و" الإسلاموفوبيا "
عبد اللطيف مجدوب
آيا صوفيا
معلمة آيا صوفيا تعد ؛ بسجلات اليونيسكو ؛ من أفخم الإرث الحضاري الإنساني ، الذي تشد له الرحال من جميع أصقاع المعمور ؛ يجد زائرها أمامه موروثا إنسانيا آية في الفن المعماري ؛ بنمنمات وأيقونات ومقوسات بديعة ، لإنامل موغلة في القدم ، بدءا بالعهد البيزنطي ، ومرورا بالسلالة العثمانية ، وانتهاء بالعهد الأتاتوركي .. كما تجسد أبنيتها وقبابها ومرافقها التجاور والتدابر الذي شهدته التيارات الإسلامية ؛ في اصطدامها بالغرب المسيحي ؛ استعملت كتدرائية بطريركية مسيحية أرثوذوكسية وكاثوليكية ، ثم تم تحويلها إلى مسجد في العهد العثماني ، لكن ما لبث مصطفى أتاتورك أن جعل منها "متحفا" علمانيا خال من سطوة أي كان مسيحيا أو مسلما .
متحف آيا صوفيا
أردوغان ومتحف آيا صوفيا ..
لا غرو في أن تركيا اليوم ؛ وهي المنفتحة على كل القيم الكونية ؛ اشتهرت بهندستها المعمارية عالية المستوى في تصميم المساجد ، حتى لقبت ب" بلد المساجد " ، حيث يبلغ عدد مساجدها ؛ حسب آخر الإحصائيات ؛ ما يقرب من 85 ألف مسجد ؛ في
إسطانبول وحدها ؛ ذات الكثافة السكانية 16 مليون نسمة ؛ تضم 3190 مسجدا ، كان آخر معلمة دشنها أردوغان قبل بضعة أشهر مسجد " جامليكا " الذي يسع لقرابة 60 ألف مصلي .
وفي واقعة متزامنة ، أقدمت المحكمة الإدارية على إصدار حكم بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد ، أو بالأحرى إلى ما كان عليه زمن العثمانيين ، هذه الواقعة أحدثت ضجة عارمة وردود فعل ؛ تباينت بين الترحيب والتنديد والاستنكار ؛ قابله تصريح الأب مانويل راعي الكنيسة الكاثوليكية بالقول :" .. أردوغان رفع قدر آيا صوفيا " ، بيد أن مواقف الشجب هذه ذهبت متسرعة ، وكأن آيا صوفيا عادت حكرا على المسلمين ، في حين السلطات التركية أبقت على المعلمة كما هي ، وجعلتها مفتوحة أمام الزوار خارج أوقات الصلاة ، بغض النظر عن مشاربهم الدينية ؛ مسيحيين كانوا أو مسلمين أو غيرهم ؛ رجالا ونساء .
كما أن قرار أردوغان سيكون منسجما مع اللحظة التاريخية ، ومواكبا "للانحسار" أو بالأحرى الحصار الذي أصبح مضروبا على الأنشطة ذات الطابع الإسلامي وأعمال البر والإحسان التي كانت تتولاها جمعيات ومؤسسات إسلامية في أنحاء العالم ، وذلك في أعقاب موجات الإرهاب التي طالت عديدا من المناطق الجغرافية ، مما ولّد في النفوس الخوف من الإسلام Islamphobia "الإسلاموفوبيا" ، والنظر إليه ؛ عبر الميديا الغربية ؛ كديانة إقصائية دموية .
المساجد والكنائس في ركاب الحروب والفتوحات
من مسجد قرطبة إلى كاتدرائية قرطبة
غني عن البيان أن التاريخ الحديث يحتفظ لنا بسجلات دموية ؛ في الحروب والغارات ؛ التي كانت تقودها وتُحمي أوارها الديانات ؛ فكم من كاتدرائيات ومعابد تحولت ؛ في ظل الغزو الإسلامي إلى مساجد وجوامع ، وفي المقابل كم من مساجد تحولت إلى كاتدرائيات وكنائس ونصب الصليب وأبراج الأجراس على مآذنها ، وتفيد الإحصائيات بوجود 330 ألف مسجدا ؛ جرى تحويلها إلى كنائس في 18 دولة ؛ همت كرواتيا وكوسوفو ورومانيا واليونان وإسبانيا التي تضم مآثر إسلامية كبيرة ؛ امتدت إليها أيادي الفكر المسيحي لتحولها إلى كنائس وكاتدرائيات ؛ منها : مسجد قصر الحمراء أو كنيسة سانتا ماريا Santa Maria ، ثم مسجد قاسم باشا بكرواتيا أو كنيسة سانت ميخائيل Sant Mikhaïl ، وجامع إشبيلية الكبير أو Maria’s Church، ومسجد باب المردوم أو كنيسة منار روح المسيح Lighthouse of Spirit Christ ، وقصر البديع بمراكش وتجريده من نفائسه التي كانت آية في فن الزخرفة والعمارة الأندلسية ، وتحويلها إلى ضريح المولى إسماعيل بمكناس .
الإرث الحضاري غير قابل للمساومة
بالرغم من النداءات التي ما فتئت منظمة اليونيسكو UNESCO تصدرها إلى المجموعة الدولية بوجوب الحفاظ على الآثار الإنسانية وعدم طمسها ؛ وبصرف النظر عما إذا كانت هذه الدول موقعة على مثل هذه المواثيق الدولية أم لا ؛ فما زالت هناك حزازات وحساسيات سياسيوية تصدر عنها بعض هذه البلدان أو تملى عليها ، إما بطمس أثر حضاري وتحويله إلى مرفق عمومي أو هدم معلمة تاريخية كمساجد وكنائس وتشييد مرفق عمومي سياحي على أنقاضها ، علما بأن اليونيسكو تخصص دعما ماليا هاما لترميم وصيانة هذه المآثر والمعالم الحضارية .
تصور أعمى للإسلام (مثال شمال المغرب)
لا زالت السجلات ولا الوقائع التاريخية تشهد على عهد الحماية الإسبانية بالمغرب ؛ التي عمرت لأكثر من أربعة عقود ؛ خلفت مآثر عمرانية ، في شكل كنائس ومدارس ومرافق سياحية في عدد من المدن ؛ والناظور/ازغنغان خاصة ؛ لكن ما إن انسحب المستعمر منها وتعميرها من قبل السلطات المغربية حتى تصاعدت النداءات تلو أخرى ومن كل فج عميق ؛ موغلة في في الجهل والعمى الديني ، "بواجب تطهير" مخلفات المستعمر الإسباني من كل ما يمت بصلة إلى "النصراني الكافر" . وهكذا ؛ وفي وقت وجيز ؛ امتدت المعاول والفؤوس ، وأحيانا أيادي التخريب إلى هذه المعالم التاريخية لتحولها إلى أثر بعد عين ... حتى السجلات والوثائق والمحفوظات عموما تم إحراقها ، بدعوى أنها ذات علاقة "بالنصراني النجس " ، وهذا لعمري قمة الجهالة والتصور الأعمى للإسلام ؛ الدين السمح الذي يدعو إلى التجاور والتساكن والتسامح ، لا فرق بين عقيدة وأخرى .