مستشفى "أبو يعقوب" الموحدي
عبد اللطيف لبقادري
كم نحتاج اليوم في زمن الوباء التمعن في القولة المأثورة للكاتب والسياسي ألفونسو دولامارتين "التاريخ يُعَلِّم كل شيء بما في ذلك المستقبل" حتى نأخذ العبرة مِن مَنْهُم سبقونا في تسير بلدنا الحبيب والوقوف هُنَيهة للتأمل في الماضي لعلنا نجد بَصيص أمل يُبَصِّر بَصيرتنا في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها المغرب جراء جائحة أربكت العالم وأجبرته على إعادة حساباته وترتيب أولوياته.
لا يجادل أحد أن حياة الانسان وسلامة صحته أولى الأولويات وهي ثاني وثالث الكُلِّيات الخمس التي يروم الإسلام الحنيف الى حفظها بعد الدِين (النفس ثم العقل)؛ وعليه نجد أسلافنا المغاربة وهم فخرنا وقُدوتنا قد تركوا لنا نماذج حية نتأسى بها في الأيام العصيبة هذه. فأَسلافنا رحمهم الله لم يهتموا ببسط سلطانهم في مختلف أصقاع العَدْوتين: المغرب والأندلس فقط، بل اتبعوا سياسات رشيدة ترموا الى تَشيد حضارة متكاملة الأركان كالمدارس والأسواق والموانئ والمستشفيات التي مِن شأنها أن تُسَهل الخَدمات الاجتماعية والعمومية لكافة مواطني المملكة الشريفة.
استوقفني فصل مثير للإعجاب والدهشة في نفس الوقت من كتاب "المُعجب في تلخيص أخبار المغرب" للمؤرخ المغربي عبد الواحد المراكشي، إذ يصف فيه مستشفى لم نسمع بها من قبل ولا من بعد بمراكش حاضرة دولة الموحدين في القرن الثاني عشر ميلادي.
يَرقد مُؤسس هذه المستشفى العظيمة الخليفة الموحدي أبو يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي بِتِينْمَل مهد الدعوة الموحدية، مئة كلم جنوب شرق مراكش في اتجاه تارودانت.
أسس هذا السلطان الشهيد بِيمَارِسْتَان (مستشفى) لم يُبن من قبل مثله؛ حيث إنه تَخَيَّر ساحة فسيحة بأفضل موضع في البلد، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه؛ فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخارف المحكمة ما زاد على الاقتراح، وأمر أن يُغرس فيه مع ذلك من جميع الأزهار الفَوَّاحَة والأشجار المُثْمِرَة، وأجرى فيه مياها كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع بِرَك في وسطه، إحداها من رخام أبيض؛ ثم أمر له مِن الفُرش النفيسة من أنواع الصوف و الكتّان و الحرير و الأديم و غيره بما يزيد على الوصف و يأتي فوق النَّعت، و أجرى له ثلاثين دينارا في كل يوم برَسم الطعام وما يُنفق عليه خاصة؛ خارجاً عما جلب إليه من الادوية و أقام فيه من الصيادلة لعمل الأشْرِبة و الأدهان؛ و أعدَّ فيه للمرضى ثياب النهار و أخرى لليل تختلف بين الشتاء و الصيف؛ فإذا شُفِي المريض أمر له عند خروجه بمال يعيش به إن كان فقيرا ريثما يستقل، وإن كان غنيا دُفع اليه ماله و تُرِك و سببه؛ ولم يَقصُره على الفقراء دون الأغنياء، بل كل مَنْ مرض بمراكش مِن غريب حُمل اليه و عولج الى ان يستريح او يموت؛ و كان في كل جمعة بعد الصلاة يعود السلطان المرضى و يسأل عن حالهم وأحوال الخدمة عليهم.
في الواقع يعجز اللسان عندما نقارن الامس باليوم حيث واقع الصحة بالبلد يُدمي القلب ويُدمع العين؛ جُل المستشفيات الكبرى والمهمة متمركزة في جهة او جهتين مما يدفع عموم المواطنين تَكَبُّدَوا عناء التنقل أميالاً مهمة للاستشفاء على أمل أن يجدوا سريرا وطبيبا في وقت قصير.
إننا نعيش في زمن عصيب يُلزمنا إعادة جدولة مصاريف ماليتنا فَنُخصص حيزا مُهِما لقطاع الصحة بتوفير فضاءات صحية متعددة ومنتشرة في ربوع المملكة مع عدد كبير من الأطر الصحية التي لا مناص من تحفيزهم ماديا ومعنويا؛ ولا ننسى العلماء والباحثين في مجال علوم الإحياء والكيمياء العضوية فهم جنود الخفاء ضد الفيروسات الفتاكة؛ هم من يعتكفون داخل المختبرات لِتَحضير اللقاحات المضادة الواقية.
والشيء بالشيء يُذكر، كفانا هدرا للمال العام يمينا وشمالا فيما لا يعود بالمصلحة على دافعي الضرائب. لقد قضينا سنوات عِجاف طويلة ننفق على السهرات والمهرجانات والدوريات الكروية فلم نشهد مغنيا ولا لاعبا في زمن الجائحة يَمُد يَد العون، بل بالعكس فروا جميعا الى جحورهم وصوت حالهم يصرخ نفسي نفسي؛ فلماذا هذا الرِّهان على أحصنة فاشل نُعَلِّفها من قُوتِنَا مع أنها لن ولم تُبوؤنا مكانا متقدما ولم تُسعِف نفسا تصارع المرض ولا حتى أُمِّيًا يَصرَعُه الجهل.
فهل سنقتدي بأبي يعقوب بن يوسف ونجعل مستقبلنا أشبه بماضينا؟ سؤال انتظر جوابه.