دفاعا عن السوق الأسبوعي بالمجال القروي

دفاعا عن السوق الأسبوعي بالمجال القروي

عبدالسلام انهيري

يشكل السوق بالمجال القروي فضاء عاما تعتمل بداخله العديد من الظواهر التي تساهم بشكل جلي في ديناميته، فهو المختبر الميداني الذي عن طريقه نصل إلى المعرفة الشاملة بخصوصيات المنطقة ومميزاتها، من عادات وتقاليد وعقليات وتمثلات وقيم وأعراف وطقوس وموروثات ثقافية وطبيعة العلاقات الاجتماعية، وهو الذي يمككنا من خبر الموارد الترابية والطبيعية والمائية المحلية، وهو أيضا من يساعدنا شيئا ما على تحديد نوع التغير الاجتماعي واتجاهه كما إيقاعه.

 

فعلى مر التاريخ لعب السوق بالمجال القروي دورا كبيرا في لم شمل القبائل، وحيز مكاني يسمح بالاحتكاك الثقافي ( التثاقف ) وتبادل الخبرات والاستشارات وحتى فك النزاعات، حيث كان يعتبر ملتقى للتعاقدات والتضامنات، ومؤسسة اجتماعية تروم تحقيق السلم والأمن الاجتماعي، بين القبائل نفسها وبينها وبين المخزن.

 

و لنا في دراسة الأنتروبولوجي كليفورد غيرتز حول ظاهرة السوق التقليدية بمنطقة

 

– صفرو- ووظائفه وأدواره إبان الستينات أنموذجا في التحليل والتفسير في شأن ربط المعاملات الإقتصادية بالمترسخ الثقافي المغربي الأصيل، أقصد علاقة النسق الإقتصادي بالنسق الثقافي المحلي، استحضارا منه على أن ظاهرة السوق مدخل رئيس للثقافة، فحسب هذا الرائد في الأنتروبولوجيا التأويلية، السوق عبارة عن نسق يمكن فهمه من خلال ثلاث مستويات: مستوى تحديد الهويات الاجتماعية، أي تحديد معايير الإنتساب القبلي أو العائلي عند رواد السوق، والتي عن طريقها ( المعايير ) يبنى الواقع الاجتماعي، ومستوى البيئة كمجال للإتصال والتبادل، الذي جسده أساسا في محاور التجارة القافلية والإستراتيجية

 

( التموقع الجغرافي ) وكذا التنظيم المجالي المحلي، ومستوى المعلومة المتمثل في ندرتها داخل السوق ( قائمة الأثمان مثلا )، والتي جعلت من عملية التبادل حسبه، أنها تتم عبر التفاعل المتكرر الروتيني بين الأفراد " مقابلات مباشرة "، وهو ما يعطي أهمية بالغة وقصوى للعلاقات الشخصية والزبونية، الأمر الذي يزيد من ترسيخ ثقافة المساومة أوالتفاوض، والذي يقوم على نفعية شخصية مصلحية، أي على ارتباط وثيق بمصالح الفاعلين وأهدافهم وقيمهم ومعتقداتهم.

 

بصريح القول وبكل موضوعية، فالمتوصل إليه من قبل عالم الأنتروبولوجيا

 

- كليفورد غيرتز- من خلال دراسته المستفيضة لظاهرة السوق التقليدية، جعلنا نقف عند منهجية علمية اعتمدها ولا يجب تجاوزها عند نزولنا إلى الميدان آلا وهو الوصف المكثف في دراسة ميدانية للمجتمعات والثقافات في حاضرها وماضيها.

 

لهذه الأساسات وجب الاهتمام وإعطاء كامل العناية للسوق بالمجال القروي ضمانا لسيرورته، كونه القلب النابض للحياة الاجتماعية القروية، والمؤثر الإيجابي في جميع العمليات الاجتماعية التي تحصل بهذا المجال العمومي، وروح الاقتصاد المحلي، وأيضا المورد المالي الذي يضمن استقرار الأسر وفاعليتها في المجال عينه.

 

فحسب الإنتماء المجالي والملاحظة بالمشاركة والمعايشة سجلنا ما يلي:

 

- السوق مجال يعرف حركية اقتصادية محلية محدودة: فعلى إثر القدرة الشرائية الضعيفة، عرفت المعاملات التجارية النقدية هبوطا محسوسا لأسباب نرجعها ل: غلاء المعيشة، البعض من الأهالي جرتهم موجة ثقافة التسوق من المراكز التجارية الحضرية، عدم قدرة السوق على توفير كل المستلزمات والحاجيات الضرورية للأهالي، توالي سنوات الجفاف، الهجرة بنوعيها المحلية والدولية، تدهور البنى التحتية للسوق، تراجع أو بالأحرى غياب تام للمنتوجات المحلية...

 

- معاناة القروي الاقتصادية والاجتماعية جعلته يتخلى عن ثقافته الأصيلة وينغمس في مشاكل اليومي، ومن بعض أمثلة هذا التغير، كانت هناك عادات وطقوس وسلوكات تمارس بشكل اعتيادي من طرف القروي عند ولوجه للسوق، كتناوله لوجبتي الفطور والغذاء بالسوق، والتبضع الكمالي، وإحياء صلة الرحم، والتوجه للحلقة على سبيل الذكر لا الحصر، إلا أن اليوم تخلى عن هذا النمط المألوف، وأصبح يكتفي فقط بشراء الضروري ثم العودة على عجل إلى مدشره أو دواره، فتلك الوضعيات التي كانت تدبر وفق إيقاعات زمنية مضبوطة، حقيقة كانت تحمل بعدا علائقيا اجتماعيا مجديا، ومع اندثارها أضحت مؤثرة في العلاقات الاجتماعية، حيث بدأت تعرف شرخا وتكسيرا على صعيد بنيتها، ومن ثمة اعتبرناها بدايات التأسيس للفردانية " لغة المجال الحضري حاليا ".

 

- السوق مكان نستطيع عبره تحديد انتماء الفرد ل " اجماعة "، وخصوصا في فترة الانتخابات، من هنا يتضح بجلاء الدور السياسي الذي يلعبه ولازال.

 

- ثبت لنا كذلك أن السوق مؤسسة متعددة الوظائف: وظائف سوسيواقتصادية وسياسية وثقافية، لكنها تبقى وظائف محدودة لا تفي بالغرض الاجتماعي بالدرجة الأولى.

 

- السوق مركز هام للمعاملات التجارية، لكن حاليا بدأ يعرف قصورا على مستوى تلبية حاجيات الأسر من البضائع والسلع الإستهلاكية والمنتوجات الضرورية.

 

- السوق مؤسسة تعمل على إعادة تنظيم مجال العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع، والسبيل الوحيد لفهم المجتمع المحلي في علاقته بتنظيم المجال وتدبير الحياة اليومية، هنا يمكن

 

طرح التساؤل الآتي: هل في وقتنا الراهن لازال السوق يقوم بهذه الأدوار الاجتماعية كما السابق؟.

 

- موقع أو تموقع السوق يخضع لمجموعة من المعايير والمواصفات ك: القرب بالنسبة للمتسوقين، التوفر على الماء، تعدد الطرقات المؤدية له...، إلا أن هناك مشكلة رئيسية لازالت غالبية الأسواق القروية تعاني منها والمتمثلة في جودة المسالك والطرقات المؤدية لها.

 

- بعدما كان السوق في السابق يشكل مشتركا بين القسمات القبلية، فهل فعلا لازالت تخضع هذه المشتركات لهذه القسمات، وما تأثير الوافدين عليه الذين ساهموا ضمنيا في تكسير انغلاقية السوق التي كان يتصف بها في زمن مضى؟.

 

- السوق مؤسسة تتم فيه كل العمليات التي لها صلة بتحرير العقود والالتزامات والإشهادات، بحضور ذوي الاختصاص القانوني، فإلى أي حد لازالت هذه الامتيازات متوفرة بمشهد السوق الأسبوعي بالفترة المعاصرة؟.

 

- السوق مكان تنعقد فيه العديد من الاجتماعات والمشاورات وكذا تشكيل اللفوف واتخاذ القرارات والفصل في الخصومات...، أما اليوم فطفقت هذه الأدوار تغيب نتيجة التحديث والعصرنة.

 

- السوق مكان للتواصل بين الأفراد والترويح عن النفس واستقرارها، والضامن لتكامل الأدوار الاجتماعية، هذا التكامل الذي هو دعامة أساسية لاستمرار الحيوية بين الجماعات ووسط المداشر وبين الأفراد، على خلاف اليوم نسجل نكوصا وتراجعا على مستوى رغبات الأهالي، لإكراهات فرضها الواقع السوسيومجالي.

 

- السوق فضاء عام يقع تحت وصاية الجماعة الترابية، وموردا ماليا لها، فلهذا نبادر بطرح التساؤل التالي: هل فعلا طورت الجماعات الترابية من آليات اشتغالها في شأن الاستثمار البناء لمجال السوق؟.

 

- لم يعد السوق ذاك الفضاء الذي تعرض فيه منتوجات الصناعة التقليدية المحلية، لدواع مادية صرفة يعاني جراءها الصناع والحرفيين كل في تخصصه، وكذلك لسياسة عمومية مقصرة أشد تقصير في شأن ضرورة النهوض بهذا القطاع الحيوي.

 

من هذه المنطلقات الأساسية يستوجب إدخال السوق في كل الاستراتيجيات التنموية من قبل مجالس الجماعات الترابية، بدء بالاهتمام الفائق ببنياته التحتية والعمل على صيانتها بصفة دائمة، مرورا بتشجيع وتحفيز التعاونيات المهنية والحرفية والفلاحية على ضرورة تسويق منتوجاتها المحلية، بتوفير دعوم مهمة لها حتى تستطيع تحقيق كفاياتها والتطوير من مشاريعها، وصولا للعمل على بلورة فكرة السوق كوجهة سياحية تسهم في خلق دينامية إيجابية تعود بالنفع على الإنسان والمجال على حد سواء.

 

مجملا، لا يمكن تطوير الإنتاجية والتنوع الإقتصادي لدى الساكنة القروية دون تأهيل وعقلنة وتحديث السوق، عن طريق تجديد نظام تدبير الأسواق الأسبوعية، ولبلوغ ذلك فلن تتم عمليات التأهيل والعقلنة، إلا باستدامة دورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وتكريس مبدأ تكافؤ الفرص بين مختلف المؤثرين في حيوية السوق الأسبوعي، من تجار ومهنيين وحرفيين وأرباب نقل وباعة المواشي والدواجن...،ّ مع تأمين سلامة الغذاء وصحة المواطن وضمان محسوس لأمنه من جميع أشكال التعنيفات والإعتداءات، إضافة إلى تقوية شبكة الكهربة والتطهير والماء الصالح للشرب بالسوق وأحوازه، كما التقسيم الهندسي الصحي لأنواع المبيعات المعروضة...

 

ومواكبة للتحولات السوسيومجالية المحلية والإقليمية، فلما لا أن يصبح السوق مجالا سانحا لتوفير فرص الشغل القارة لشباب القرية العاطل عن العمل، ومجال للإستثمار التشاركي المحلي، وهو استثمار يمكن القول عنه استثمار القرب كمصدر مالي يعزز مداخيل الجماعة القروية المحلية، كالشروع في بناء محلات تجارية قارة بمحيط السوق وتعاونيات وورشات تخص النجارة والتلحيم وطحن الحبوب وعصر الزيتون وميكانيك وكهربة العربات بمختلف أصنافها...، وبهذا يمكن الرفع من رقم المعاملات المالية للسوق، ومقابل ذلك وجب اتخاذ الحيطة والحذر من الاستثمارات العقارية التي اكتسحت قبلا المجالات الخضراء وأرجعتها مجالات إسمنتية بامتياز، من طرف المنعشين عفوا المنتعشين عقاريا.

 

كما أن هناك محور أساسي لا يجب إغفاله بالمطلق، وهو استنطاق ومساءلة الفلاح القروي باعتباره المحرك الرئيس للإقتصاد المحلي، مساءلته حول معاناته ومشاكله، الاجتماعية منها والإقتصادية، وكذا إكراهاته، الطبيعية منها والمبتدعة، بنظرة تصب في الجوهر، لا في محاصرة الإشكالات العالقة بتدبيرات فوقية سطحية تكرس لإعادة تبني سياستي الترميق والتنميق ليس إلا، قصد الحد من الهجرة القروية نحو الوجهات الحضرية، وعدم المساهمة في موت القروي على حد توصيف الباحث في السوسيولوجيا القروية هنري مندرا، وعدم تأجيل التنمية القروية على حد استنتاج الباحث السوسيولوجي المغربي عبدالرحيم العطري من خلال دراسته لمسألة التحولات والتغيرات التي خضع لها المجال القروي بالبلاد، وأيضا تحقيقا لرواج تجاري مهم، ولتوفير شبكة مواصلات تغمرها الدينامية الإيجابية، وبالتالي للوصول إلى تنظيم مجالي جهوي محكم، ينتصر لبنية صلبة ولمورفولوجية تؤثر إيجابا على المحيط العمراني ولأداء مرضي، اقتناعا من الجميع أن السوق إرث حضاري تاريخي لا يجب التفريط فيه، رغم بروز تنافسية الأسواق النموذجية الوافدة والغريبة عن ثقافتنا المحلية، والتي يمكن اعتبارها أحد العوامل التي كانت وراء تراجع مكانة السوق الأسبوعي في الحياة الاجتماعية.

 

 

وعلى سبيل الختم " يبقى السوق الأسبوعي بالمجال القروي مختبرا ميدانيا "، وهذا ما تؤكده العديد من الدراسات والأبحاث الميدانية، حيث لم يعد فقط مؤسسة مرتبطة ببنية الإنتاج الإقتصادي، بل هي مؤسسة اجتماعية تسهر على تأمين وتوفير الحماية على جميع الأصعدة، من خلال آليات دينية وقانونية وعرفية وتعاقدية وأخلاقية.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة