المناعة النفسية أحد شروط الاستقرار الاجتماعي في زمن كورونا

عبدالسلام انهيري

ليس بغريب على كل المجتمعات معاناتها مع ظاهرة الإنتحار، هذه الظاهرة الاجتماعية الضاربة في القدم، والتي شملت مختلف الفئات العمرية شبابا وشيبا، لأسباب تختلف باختلاف الوضعيات والظروف والمشاكل الاجتماعية الفجائية، فمنذ بروز علم الاجتماع كعلم قائم بذاته وانتقاله عبر مناهج علمية توصل للتحليل المنطقي والتفسير الموضوعي، من دراسات ماكرو سوسيولوجية إلى دراسات ميكروسوسيولوجية، حفز العديد من علماء الاجتماع من النبش في ظاهرة الإنتحار باستحضارهم لأبعاد متعددة، النفسية الذاتية منها، والروحية العقائدية، والسوسيواقتصادية، وكذا السوسيومهنية...

 

في هذا الباب نجد عالم الاجتماع إميل دوركايم من خلال دراسته المستفيضة حول ظاهرة الإنتحار، الجريمة التي يقبل على ارتكابها الفرد في حق نفسه، واضعا معها حدا نهائيا لحياته، كإعلان علني لقتل الإنسانية التي يتنفسها وكسلوك خطير يقطع عبره الصلة الروحية التي تربطه بهذا الكون بشكل مطلق، يقسم الإنتحار إلى أصناف كالآتي:

 

- الإنتحار الأناني، يأتي نتيجة انعزال الفرد عن المجتمع وتمركزه حول ذاته، وعدم شعوره بالإنتماء إلى المجتمع، فيحصل لديه توتر وقلق وخوف من المستقبل في غياب تام للدعم النفسي-الاجتماعي.

 

- الإنتحار الإيثاري، أو الإنتحار الغيري يحصل نتيجة انصهار النزعة الفردية والتحرر منها أمام متانة وقوة تأثير الجماعة في الفرد، فتراه يقبل على الإنتحار من أجل بقاء الجماعة.

 

- الإنتحارالفوضوي، أو الإنتحار اللامعياري، هو حصيلة لتفكك الروابط الاجتماعية عندما يهيمن الرخاء المبالغ فيه أو الفقر المدقع، بمعنى حينما يختل التوازن بين الوسائل والغايات.

 

فكل صنف من هذه الأصناف حمال لخلفيات مشكلاتية تتوزع إلى : سيكولوجية، ومجتمعية، وطبيعة الأخلاق السائدة، ومشكلات متعلقة بالعقلية الجمعية، وبالتمثلات الذهنية المحبطة المتوارثة والمتناقلة في بعض المجتمعات من جيل سابق يائس إلى جيل لاحق كان يعقد آماله على التغير الاجتماعي الإرتقائي والصبر والتفاؤل.

 

فإثارتنا لموضوع الإنتحار لم يأت عبثا أو اعتباطيا، بل أتى على إثر تفشيه بمختلف الأمصار والدول، وخصوصا مع ظهور وباء كورونا المستجد، هذا الوباء الذي كلف دول

 

العالم خسائر اقتصادية مهولة، انعكست سلبا على الأوضاع الاجتماعية للأسر وعلى دينامية الفئات النشيطة وعلى أداء كل الأنساق الحيوية بالمجتمع، جراء الإرتفاع الكبير لنسبة الإصابات بالعدوى ومعها نسبة الوفيات، فرغم ضعف هذه الأخيرة النسبي والمحسوس حسب تقارير منظمة الصحة العالمية، إلا أنها ظلت بمثابة البعبع المرافق للأحياء من البشرية، حيث خلقت وسواسا قهريا بنفسياتهم أو بالأحرى رهابا اجتماعيا استثنائيا يمكن من ظهور حالات نفسية مرضية غير عقلانية ولا تخضع لمنطق سوي، نطلق عليها فوبيا كورنا أو كورونا فوبي.

 

فهذه الكورونا فوبي جعلتنا نستقصي حقائق من هنا وهناك ومن الضفة الأخرى، للوقوف عند مصائر الذين يعانون منها ذكورا كانوا أو إناثا من مختلف مراحلهم العمرية، فاستقينا ما يلي:

 

- فوبيا كورونا ناتجة عن التهويل والتفخيم من قبل بلاغات لجهات غير رسمية.

 

- الإشاعات المتفرقة زادت من حدة الفوبيا.

 

- ضعف وتيرة التحسيس الإيجابي بالقنوات والإذاعات.

 

- ضعف الجانب الإيماني والعقائدي لدى العديد من الأفراد.

 

- المتابعة الطبية النفسية تعرف قصورا على مستوى أجهزة الإعلام.

 

- هاجس انتظار اللقاح شكل خلخلة لدى غالبية المتتبعين لتداعيات كوفيد -19- وآثاراته السلبية على صحة المواطنين.

 

- المتشبعون بثقافة الوقاية والاحتراز غالبا ما يصطدمون مع فئة من المتهورين بالأماكن العمومية.

 

- فوبيا الموت نتجت عنها فوبيا كورونا.

 

- شبكات التواصل الاجتماعي وبعض مواقع الشبكة العنكبوتية واجتهاد الآخر غير المتخصص يمكن اعتبارها أسباب في هكذا فوبيا.

 

- أعطاب أخلاقية وتربوية مستا قبلا منظومة تنشئة الأفراد الاجتماعية وساهمت في انهيار أوضاعهم النفسية وبالتالي إصابتهم بهذه الفوبيا...

 

فإضافة لما ذكر سلفا في شأن مسببات هذه الفوبيا اللاعقلانية، وحسب رأينا الشخصي، والذي يحتمل الصواب والخطأ، كما الحكم عليه بالقصور أحيانا أو بالمبالغة، نقول أن كورونا ليست هي أصل الفوبيا، بل مخلفات وتداعيات وباء كورونا على المنظومة الإقتصادية للبلاد، وتأثيره على دخل الأسر وقدرتهم الشرائية، وتراكم مبالغ الديون أو القروض الإستهلاكية عند البعض، كما تراكم واجبات الكراء المكلفة، الأمور التي نجم عنها بدون أدنى شك وارتياب تسجيل تدهور وبطء إيقاع الحياة، والذي يوازيه تردي

 

مستوى المعيشة، وعدم قدرة غالبية أرباب الأسر الفقيرة على توفير المواد الأساسية وتلبية كل الحاجيات الضرورية من مأكل ومشرب وملبس وترفيه ودواء للأبناء، ضمانا لسلامة صحتهم وفكرهم على حد سواء، وفي نفس الوقت لا يجب تجاهل قضية فقدان الشغل بالنسبة للبعض أمام الغياب التام لهيكلة بعض المهن الحرة، وضمنيا غياب التغطية الصحية الشاملة المجانية لمزاولي هذه المهن...، فهي إذن المشاكل الرئيسة التي كانت وراء الخوف أو التخوف من كورونا، الوباء المستجد الذي بعثر كل الأوراق، وتولد عنه الخوف من المستقبل، وهنا مربط الفرس إن لم تحصن المنظومة النفسية للأشخاص في البدء والختام.

 

لذلك يجب أن ننطلق من حيث وجب الإنطلاق، وهو العمل بكل تفان وجدية على مسألة الدعم الاجتماعي المفضي للتوازن النفسي والإستقرار الاجتماعي، والذي لا يتحقق بين عشية وضحاها أو في وقت قياسي بل هو مخطط تنشئوي ينبني على استراتيجية

 

نفسية-اجتماعية تتحمل مسؤوليتها الأسر النووية بالدرجة الأولى ثم باقي المؤسسات الاجتماعية بمختلف أدوارها ووظائفها بالدرجة الثانية.

 

هنا نحاول قدر الإمكان طرح بعض التساؤلات الإستنكارية، علها تكون توطئة للفهم، وأرضية لكشف المعنى، وخلخلة إيجابية ومجدية تحفز وترمي للتعجيل بوجود حلول

 

وقائية-احترازية قبل السقوط في تعقيدات تنذر بسوء الحال والمآل من قبيل المشاكل السيكوسوسيولوجية أساسا، وقبل أن يقع " الفاس في الراس " كما يقال، أعني قبل فوات الآوان:

 

- آلا يمكن اعتبار ذاك الخوف المترسخ بالعقل الباطني للشخص سببا مقنعا في انتعاش الفوبيا بدواخله؟.

 

- آلا يمكن اعتبار فوبيا المتابعة الطبية النفسية تخلق فوبيات متنوعة؟.

 

- آلا يمكن اعتبار معاناة الحال تفضي إلى الخوف من المآل وبالتالي ظهور سمبطومات الفوبيا، التي بدورها تنقل الفرد إلى فقدان الثقة في نفسه وجعله يعيش القنط واليأس؟.

 

في هذا السياق أكد العديد من الباحثين والخبراء على ملحاحية مراقبة معدلات القلق، والإكتئاب، وإلحاق الضرر بالنفس، والإنتحار وغيرها من الأمراض النفسية، بغية وجود وصفات نافعة تخلق الشعور بالآمان لدى الأفراد، عن طريق توفير بدائل اقتصادية مخلصة وتفعيلها على أرض واقع الطبقات الفقيرة والهشة، وفق سياسة عامة وعمومية تتسم بالحكامة وذات الوقع الإيجابي على الإنسان والمجال في آن، بإشراك كل الخبراء الإقتصاديين والباحثين في العلوم الإنسانية بجميع تخصصاتها والهيئات الصحية-الطبية وجميع فعاليات المجتمع المدني، انتصارا للمقاربة التشاركية التي تروم في عمقها التدبير التشاركي والديمقراطية التشاركية، المقاربة التي تضمن حصول الإندماج الاجتماعي الفعلي الذي له علاقة وطيدة بالديمقراطية والمواطنة، وهو ما يصطلح عليه عالم الاجتماع

 

الفرنسي " آلان توران " بالإندماج الديمقراطي الذي لن يتحقق إلا بالتحديث السياسي والتجديد من آليات اشتغال السياسي عينه.

 

وحسب عالم الاجتماع الفرنسي " إميل دوركايم " فالمجتمع المضطرب والضعيف، مجتمع يفتقد للإندماج الاجتماعي، بحيث أن أفراده ينفلتون ويخرجون من مجال تأثيره، من هنا يمكن أن تتفشى وتستشري ظواهر: الجريمة والعنف والإنتحار والإرهاب... إلخ.

 

 

موجز القول وعلى سبيل الختم، وجب الإنتصار للفعل أولا وقبل كل شيء، عبر توحيد التصورات الاجتماعية وفق معرفة اجتماعية قبلية شاملة، بما يقع ويجري داخل المجتمعات المحلية، من ظواهر اجتماعية شاردة وسلوكات غير سوية وتمثلات ذهنية فوضوية وانقلابات غير سليمة تهم جوانب: القيم، وطبيعة العلاقات الاجتماعية، والروابط، والتضامنات بمختلف أشكالها.