الحرية الفردية، تقييد في التأويل، وخوف من التفعيل
إكيضيض عبدالغني
لا يختلف اثنان، من منظور عام، حول قيمة الحرية ومكانتها، ودورها المركزي في تقدم الشعوب، اقتصاديا، سياسيا، قانونيا، وفنيا، حيث تعتبر حقا إنسانيا لا عاقل اليوم يطعن في جوهره، ولا فهيم ينتقص من صميمه، فالحق حق وإن استفحل الباطل وكثر الخداع، والحرية شرط لمجمل الحقوق، المدنية والسياسية، الاقتصادية والإبداعية، وإن خالف هذا التصور المبدئي أفكار وقناعات أشد المتعصببن غلوا، وأكثرهم تشددا، غير أن الأمر لا يعدو أن يكون بهذه البساطة المطلقة، ولا بهذه البرودة التي أكتب بهذه الأسطر، فسرعان ما يصبح الأمر أكثر تعقيدا عندما تصبح كلمة " الفردية " مضافة إلى الحرية في جملة قصيرة مقتضبة تتفتق عنها مجمل التصورات والتمثلات التي تؤشر على اختلاف طبعي في الأذهان البشرية، فكم رددت أفواه المناضلين وأبواق المؤثرين وأقلام الصحافيين مفهوم الحرية، وكم تغى بها الحقوقيون، وكم فصل فيها الفلاسفة والمفكرون، وكم اشتدت الصراعات والنزاعات حول ما يستضمره المفهوم من دلالات، لكن، في نهاية المطاف، يتفسخ المعنى الاتفاقي ويتوزع على عقليات تجمعها أرض الوطن، وتفرقها التصورات والتمثلات والقناعات، لينعتق المعنى من دائرة سجنية قضبانها الاتفاق الجمعي ويصبح موضوع الحرية الفردية موضوعا جدليا توظفه الأحزاب والجمعيات والمنظمات في التسويق لأيديولوجياتها الفاشلة، وتستغله الداخليات في تصفية الحسابات الواهية، وتتسلح به الحقوقيات في تبضيع أجساد النساء والترويج لأفكارهن المبتذلة، وفي المقابل، يغتنمه الإسلاميون، المتعصبون، المتشددون، لضمان شعب مخدر، مقلد، خانع، لا يفكر أبدا .
لا تعدو الحرية حسب -التصورات الدستورية- أن تكون قدرة الفرد على القيام بكل ما يسمح به القانون، وهو تعريف مجمل، مقتضب، شامل، بعيد عن التفضيل، مقيد بضوابط قد يتفق عليها المجتمع، وقد يختلف حول منطلقها، أما التصورات الفلسفية التي عرفت الحرية، فقد ركزت كما هو مألوف على التيمات
"الإرادة" الحياة" .... ، والتحققات السلوكية للحرية، "تهديد الغير"، "سلطة الأنا"،"الشخص باعتباره قيمة" ...، وهي تحققات ترتبط بالفرد في علاقته بالمجتمع .
وكلما أثير موضوع الحرية الفردية توجهت مجمل الأنظار إلى تقييد النقاش، وتاطيره بأيديولوجيات لم تكن يوما موضع اتفاق، ولا حافزا مكن الشعوب من تحسين أوضاعهم المادية والثقافية، حيث يكثر القيل والقال، وتتطاحن الأفكار، الصالحة منها والطالحة، وتختلط التصورات، الماكرة منها والصادقة، لنتيه بنقاشاتنا داخل دائرة جدلية مغلقة، لا نحن ندافع عن افكارنا بأدب الحوار ونحترم بعضنا بعضا، ولا نحن ننتقد أنفسنا وتراجع التصورات التي ورثناها لقرون .
لاشك أن الازمات التي نتكبدها عديدة، وتتناسل يوما بعد يوما، سواء تعلق الأمر بالأزمات الأخلاقية التي يرجع سببها المباشر إلى نفاق ثقافي مكتسب يسهم بشكل مطرد في توسيع هذه الدائرة، أو الازمات الدينية التي رسختها تصورات فقهبية جعلتنا اضحوكة العالم، حيث يتبدى هذا النفاق في ثنائيات متكررة، مطردة، ملتصقة بخطاباتنا اليومية، لعل أبرزها العلن والخفاء، فالعلن فضيحة، فتنة، فوضى من لا فوضى له، والخفتء مغامرة سرية، يعتريها الغموض، ويكتنهها اللبس والستر والاختباء، وبين العلن والخفاء نفاق يتمدد بتمدد السنوات، ويتفشى بتجريم ما يتبدى للعيان وإحلال ما يتوارى عن الأنظار، وما الحرية الفردية إلا مفهوم غامض، ملتبس، منفتح على تأويلات تتعدد بتعدد المرجعيات، وتختلف باختلاف التصورات، والضحية، شعوب وأجيال، شباب وأطفال، نساء وشيوخ، يتكبدون مرارة ألم سببه جمود خيم على الخطاب الديني، وصلابة هيمنت على الخطاب الفكري، وسياسات قمعية شوهت مفهوم الحرية، الجمعية والفردية، لتصير النتيجة، قصور في النقاش، ومحدودية في التصور، وارتياب من الحرية، وخوف مستمر من مستقبل أخلاقي مجهول .
إن الحديث عن الحرية الفردية لا يمكن فصله عن مرجعيات متعددة تحكم سلوك المجتمع، وتؤطر خطابه، سواء تعلق الأمر بالمرجعية الدينية، والتي تشكل موضع توتر واضطراب، أو باقي المرجعيات التي تتوزع تجلياتها على الوجود الإنساني، لان مجمل ردود الفعل تنبثق عن هذه المرجعيات، وهو أمر طبعي بالنظر إلى كون الإنسان نتاج تنشئة اجتماعية تفرض عليه الانزواء ضمن قاعدة تأويلية تحدد له مسارات التفاعل داخل المجتمع، غير أن المثير، والمقلق في الموضوع، الاحتقار الذاتي الضمني الذي يمارسه البعض من حيث لا يدري، حيث تتردد على مسامعنا باستمرار عبارات تؤشر بالملموس على اضطراب متجذر في القالب النفسي المجتمعي، " هاد الشعب خاصو القمع" " العدل والحقوق كينين غير فالآخرة" " لي بغا الحرية يمشي لأوروبا "،" شبعوا خبز" " دوك الحقوقيين باغيين ينشروا الفساد"، حيث تشكل هذه الأحكام المطلقة، القاصرة، حوافز تسهم في تعميق جراح الأزمة، فضلا عن أنها تؤشر على فراغ فكري، وقصور تأويلي، يلجأ بموجبه الفرد إلى هذه الجمل التي تعفيه من التفكير، وتمنحه راحة مطوقة بالخمول والغباء.
لا يتمثل الإشكال الذي يطال الحديث عن الحرية في الحدود التي يقتضيها المفهوم، ولا في الضوابط التي يستدعيها تمتع الفرد بالحرية، ولا في ارتباطها بالدين، ولا في تعلقها بالأخلاق العامة، فالدين عنصر مركزي يحكم البنية الاجتماعية، والأخلاق قواعد إنسانية لا يحدها انتماء جغرافي، إن الإشكال يتمثل أساسا في التمثل الجمعي الذي يوجه سلوكاتنا نحو الهاوية، حيث ننظر إلى كل المكتسبات الإنسانية باعتبارها كلا لا يمكن
تجزيئه، بما في ذلك الحرية الفردية، فلا نتصور أبدا، فردا واحدا، داخل مجتمع مركب، ينعم بحريته الفردية، ويعبر عن مواقفه النسبية، ويمارس حقوقه المدنية خارج نطاق الجماعة، خارج تصورنا الأسطوري ....
إن التصور السليم للحرية متأصل في كنه الدين، ومتجذر في تعاليمه، حيث يضمن الأخير بضوابطه حرية الفرد في الاعتقاد الروحي أولا، وباقي التصورات والممارسات ثانيا، وبما أن منطلق أغلب رافضي الحرية هو الدين، وهو أمر كائن في مخيالهم التراثي فقط، فإن لب الإشكال يرتبط باختلاط الدين والانتماءات العرقية والقبلية التي حكمت تاريخنا العربي، الأمر الذي ينتج عنه الاندفاع والتلاسن كلما فتح النقاش حول موضوع الحرية الفردية، وتنبثق عنه ردود أفعال تعبر بالملموس عن خوف أفراد المجتمع من الحرية التي يطالبون بها سرا وعلنا، حيث يشكل هذا التناقض عقدة أيديولوجية تؤزم المشاكل النفسية لمجتمعنا وترسخ المزيد من النفاق المجتمعي، لا لشيء سوى لقناعات متوارثة متعالية عن واقعنا المعيش، وتمثلات محدودة تسهم في انفجار الأفراد، وتجعلهم يؤمنون أنهم أوصياء على الحرية الفردية كعبارة مستفزة تختزن الكثير من الدلالات التي تؤولها عقليات مختلفة من حيث التمثلات والقناعات، وذلك باعتبار السياقات الثقافية للأفراد، وتنشئاتهم الاجتماعية .
إن الحل للإشكاليات التي نعيشها، والتي تمس الحرية الفردية للأشخاص، يتمثل في إعادة بناء مجموعة من التصورات، الدين، المعتقد، الأخلاق، القانون ....، فضلا عن إرجاع مفهوم الدين إلى مكانته :
"الدين علاقة روحية بين الفرد وربه ".