مناقشة ولابد منها حول لغة القرآن الكريم
محمد العولي
يطرح الكثير من المستشرقين الجدد منهم لادينيين، و بعض الإخوة المسيحيين المتحاملين على القرآن الكريم، وبعض الشباب العربي الذي يصعب تمييز انتماءاته، أفكار عديدة مقلقة جدا وتلقى رواجا وإقبالا من طرف الشباب خاصة، وتعمل على تشكيل قيم غير مشتركة: وهي متعلقة بلغة القرآن وتاريخ جمعه وتدوينه وقضية تعدد القراءات. تركز هذه الدعاوى في مجملها على:
ـ أن لغة القرآن الكريم هي ذات جذور آرامية سوريانية، أي أن اللغة العربية هي لهجة أو فرع عن اللغة الآرامية، وبالتالية حتى نفهم القرآن الكريم فهما صحيحا يجب علينا أن نتعلم اللغة الآرامية لأنه حسب زعمهم وتراهاتهم التي يعرضونها، أن 85% من كلمات القرآن الكريم آرامية أو سوريانية (لأن السوريانية فرع عن الآرامية).
ـ القرآن الكريم نص أدبي من إنتاج البشر، خضع مثل أي نص أدبي ـ له جذور في التاريخ ـ للتطور والتبدل حتى أصبح فاخرا في نسخته التي بين أيدينا الآن، وعلى هذا الأساس يجب التعامل معه خارج إطار القدسية.
وطبعا هذه التراهات تقدم في قالب علمي، أي استنادا إلى دراسات حفرية أركيولوجية أي على علم الآثار، وأيضا استنادا إلى علم المخطوطات ثم التاريخ، والجغرافيا والأنتروبولوجيا واللسانيات الحديثة. بكل تأكيد هذه الأعمال تسهر عليها مؤسسات معروفة، وواضح جدا لنا جميعا أن الغرور المعرفي والتلاعب بالحقائق حاضر بقوة، لكن للأسف زادنا العلمي ضعيف جدا في مواجهة هؤلاء، اللهم إيماننا الخاص بأن هذا الكتاب من رب العالمين أنزله الروح الأمين على قلب سيدنا محمد باللسان العربي المبين.
وعلى أرض الواقع تعددت أشكال التصدي لمثل هذه الأفكار:
ـ هناك من يتصدى بأشكال متعددة من الضغط لجعلها محدودة ومحبوسة في مجالات محددة.
ـ وهناك من يبذل مجهودات مضنية بلا جدوى حيث يتصدى بالكلام العاطفي الفارغ المتناقض المتهافت المستند للروايات التاريخية التي لا تصمد في المختبر...
ـ وهناك من ينطلق من طرح الأسئلة الصحيحة.
لايخفى على المهتمين الإشكالات العويصة لهذا الموضوع غاية في التعقيد، والذي يدعونا جميعا لتناوله بالمدارسة والتحميص بدون تأخير، لأن الفكر الاستشراقي الجديد ماض يستجمع قواه، ويوظف آليات العصر في تطوير رؤاه، ويقتات على طروحاتنا الضعيفة ونحن أصحاب حق، في الوقت الذي لا يزال فيه الخطاب الإسلامي حبيس التصورات القديمة التي لا تصمد أمام معاول الهدم، اللهم بعض الإسهامات الجيدة لكنها تبقى مغمورة أو منفورة.
لحد الآن لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا حول من يدعي أن القرآن ليس كلام الله، أو وقع فيه تغيير، أو التأكيد والاتفاق بيننا حول كثير من القضايا المرتبطة به( بأي لغة كتب؟ ما معنى الذكر؟ كيف حفظ الله القرآن؟ كيف استقبل النبي صلى عليه وسلم القرآن هل صوتا أم صوتا ورسما؟ ومتى تم تدوين القرآن وجمعه؟ الأحرف والقراءات؟ النسخ؟ الحسم في قضية الترادف واللاترادف في القرآن؟؟؟...) انتبهوا إلى أن القرآن كلام الله تعالى، ولا نستطيع نحن المسلمين الدفاع عنه بالعقل وعلوم العصر، والحمد لله تعالى بالنسبة إلينا أننا نصدق كلام الله
بالإيمان، إنها نعمة الإيمان لأن الناس فيه متساوون على اختلاف مستوياتهم، وبمجرد انتفاء نعمة الإيمان هاته أو ضعفها تبدأ المشاكل الكبرى، والمسلمين عليهم أن يحمدوا الله تعالى على نعمة الهداية والبركة في الفهم ...
هل القرآن نزل فعلا بلغة قريش؟، أم نزل باللسان العربي؟ أم نزل باللسان العربي المبين؟
كثيرة هي الحجج الضعيفة التي يقدمها أصحاب فكرة نزول القرآن بلغة قريش، منها أن قريش كانت حاضرة تجارية ومحج العابدين ولهذا كانوا يختارون من القبائل أصفى الألفاظ وأفصحها...هنا لابد من الانتباه لمسألة العمق التاريخي لنشأة وتطور اللغة العربية في قبائل أخرى غير قبيلة قريش، وهو الأمر الذي أثبتته ولا تزال كل النقوش المكتشفة.
لا شك أن اللغة حية قابلة للتطور، وقابلة للضعف والموت، واللغة تاريخيا تتطور في ارتباط مع المدنية والتحضر والفكر والتقدم. فعلا نجد بعد الإخباريين ينقلون لنا مثلا أن القرشيين كانوا يرسلون أبنائهم للبادية من أجل اكتساب الفصاحة، ولكن في نفس الوقت حينما نسأل أصحاب هذا الرأي ما دليلكم على أن لغة قريش هي أفضل اللهجات العربية يقولون، أن قريش كانت حاضرة تجارية وتحتضن موسم الحج الذي يأتي بمختلف العرب على اختلاف لهجاتهم، وبالتالي فإن القرشيين أخذوا من كل لهجات العرب الجيدة... هل لاحظت هذا التناقض؟ ثم أن البادية لن تتطور فيها اللغة إلا بشكل بطيء، فاللغة تتطور مع التحضر و التجارة والسياسة والصناعة والفكر واحتكاك الناس بعضهم بعضا وتلامسهم وتعارفهم، ولن تتطور بالرعي في الصحاري ....
ثم أضافوا أن القرآن ولكي تفهمه باقي العرب، أنزل بسبعة أحرف، والمقصود بسبعة أحرف كما تعارفوا عليه و أوشكوا على الإجماع فيه هي بسبع لهجات، واللهجة عند العرب رديف للغة، بمعنى القرآن نزل بسبع لغات عربية حتى تفهمه باقي القبائل...سؤال الآن، إذا القرآن نزل بلغة قريش لأنها الأوسط بين لهجات العرب، ما الداعي أو المبرر لنزوله بسبع لهجات؟؟؟ ثم أليس النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، فلماذا الحديث -بما أنه وحي ثاني الذي قال به الإمام الشافعي لأول مرة واتبعناه- لم ينطقه النبي صلى الله عليه وسلم بسبع لهجات حتى تفهمه باقي العرب؟
هناك من يقول أيضا أن أول من جمع القرآن الكريم هو زيد ابن تابث على عهد أبو بكر الصديق رضي الله عنهما، وقد دونه بالحرف الواحد، أما الحروف الستة الأخرى فقد أنزلت لظرف معين ثم رفعت وبقي حرف واحد وهو الذي نعرفه الآن، نريدكم أن تحسموا معنا، هل القرآن نزل بلغة قريش أم باللغات السبع للقبائل العربية أي بالأحرف السبع، ولماذا هناك اختلاف بين السلف في وجود علاقة بين الأحرف والقراءات من عدمه؟؟؟)
من واجبنا أن نعرف من هم الصحابة الذين حفظوا القرآن بالأحرف السبعة، وأصولهم الجغرافية اللغوية ومدى تناسبها مع الحرف الذي يحفظون به القرآن. ثم البحث هل فعلا المناطق داخل الجزيرة التي كانت تتحدث حرفا معينا كان لها حفاظ من القرآن بحرفهم. وأين هي الآن نسخ القرآن بالأحرف السبعة؟
نريد معرفة حجم الآثار والشواهد التي خلفها لنا التاريخ عن مسألة الأحرف السبعة، ما مدى حضورها في التاريخ. ثم أقضية بهذه الخطورة إضافة إلى القراءات ولا يضع لها القرآن الكريم ولو إشارة طفيفة ؟؟؟ ثم كيف كان ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أحرف؟ هل دفعة واحدة؟؟؟وكيف كان ينقل إلى الصحابة القرآن بسبعة أحرف؟ لأن المفترض أن نسخة كل حرف يجب أن ينقلها النبي لرجل ينتمي لتلك المنطقة أو القبيلة أو مجموعة القبائل المتميزة لغتها بذلك الحرف؟ فهل كان ذلك متوفرا؟؟ أما إذا كان صحابة المدينة
ومكة يفهمون كل تلك الأحرف فما الذي سيمنع باقي القبائل أن تفهم القرآن المنزل بحرف قريش كما يدعون...!!!
ولماذا يسمى الرسم القرآني بالخط العثماني؟ فهل عثمان رضي الله عنه هو الذي ابتكر ذلك الرسم؟ أم أن الرسم هو الآخر رسم رباني نزل وحيا على النبي مع الصوت الذي هو الذكر؟ أليس القرآن هو كتاب الله أنزله على محمد، وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك بكل تأكيد، ألا يمكن أن نفترض بأنه أنزل على النبي بالرسم الذي هو مكتوب به الآن، كما أنزل بالصوت الذي يجب أن يقرأ به، علما أن هذه الفرضية الآن مع استمرار البحوث التجديدية، هي في طور التحول إلى حقيقة بعدما ظهرت الكثير من الأفكار الجديدة حول اختلاف المعاني باختلاف الرسم القرآني( زياد السلوادي مثلا) وهذا سيعزز فكرة أن القرآن الكريم دون أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دون بالخط الذي دون به، ولم يدون بخط آخر، هذا هو المنطلق السليم للبحث في الموضوع، وهذه الحقيقة وحدها تقبر كل الأفكار الاستشراقية التي تجعل القرآن الكريم نص أدبي من إنتاج محمد خضع للتطور حيث دون بداية بدون تنقيط ولا حركات ولا تهميز ثم بدأ يكتسب شخصيته من خلال التطورات التي افتعلها التاريخ البشري به...وتجذر الإشارة هنا أن الروايات حول جمع القرآن وتدوينه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، منها الروايات الواردة في كتب الحديث الصحاح، تربك كذلك الإخوة الذين يدافعون عن فكرة تدوين القرآن كاملا أيام النبي صلى الله عليه وسلم.
لدي المزيد من الأسئلة، مثلا، متى اكتملت استقلالية اللغة العربية وتفردها واكتسبت شخصيتها الثابتة في علاقتها بالسامية أو باقي اللغات السامية التي تفاعلت معها، أو غيرها من اللغات غير السامية؟
ـ ماهي المرحلة التي كانت قد وصلتها اللغة العربية في الجزيرة من تطورها، والتباينات بين القبائل في ذلك؟
ـ إذا شاء لنا أن نقسم تطور اللغة العربية إلى حقب، ما هي الحقبة التي تمتد وتتوقف عندها اللغة التي وجد القرآن العرب يتحدثون بها؟
ـ ثم هل القرآن نزل باللغة العربية في حدود اللسان الذي كان سائدا زمن نزوله، أم يتوغل بعيدا حتى المراحل الأولى لنشأة اللغة العربية؟؟
ـ ألا يمكن أن نقول أن الذين رأوا في القرآن نزل بلغة قريش، ضيقوا لغة القرآن كي تنسجم مع السقف اللغوي لقريش من جهة والسقف اللغوي للمرحلة التي كانوا يعيشونها؟
ـ وهل كانت اللغة العربية قد وصلت فعلا مرحلة الاكتمال لحظة نزول الوحي، أم أن القرآن الكريم بلغته هو الذي أكمل وختم تطور اللغة وفتحها على آفاق أخرى من التقدم والتطور إلى يوم القيامة...؟؟؟
كل الإشكالات التاريخية المطروحة أعلاه وغيرها بسبب قصورنا، لا تزال تشكل مادة خصبة جدا يتكاثر حولها ومن خلالها كل الطفيليات التي تعادي هذا الدين، وتغوي بها الكثير من بني جلدتنا، وتقف سدا منيعا أمام فهم الدين والدنيا وأمام المقبلين على هذا الدين العظيم. لهذا لابد من التجديد، والتجديد بحكمة وهدوء.
في العصر الجاهلي كانت المنطقة العربية مترامية الأطراف، وأهلها كانوا يتكلمون العربية ولكن بلهجات مختلفة فمثلا أهل اليمن يتواصلون مع أهل الشام، ولكن هناك بعض الاختلافات في الفهوم والدلالات وحتى في الألفاظ بحكم تنوع المشاهد والخصائص الطبيعية وغناها وعلاقات الإنتاج( انتبهوا فنحن هنا أما تغير مكاني في
اللغة)، من جهة ثانية اللغة العربية في العصر الجاهلي ليست هي اللغة العربية الآن، فنحن يصعب علينا فهم اللغة القديمة لأن الثقافة تغيرت وأساليب الإنتاج وعلاقات الإنتاج( انتبه نحن هنا أمام تغير اللغة عبر الزمن وتذكر أننا سنعود لمناقشة ذلك). واللغة العربية قبل القرآن كانت تتكون من الشعر والنثر بما في ذلك النثر المسجع، ولهذا فوضاع قواعد اللغة استنبطوها من خلال منطق اللغة الذي تراكم عبر التجارب البشرية. ثم يجب أن ننتبه إلى علاقة اللغة بالسلطة، لأن اللغة اللهجة العربية التي سادت هي لهجة قريش الذين احتكروا السلطة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. من هنا فإن مختلف التفسيرات القرآنية بنيت على لغة عربية بهذه الحمولة، وتعتبر في هذا السياق إسهامات الدكتور محمد شحرور محاولات جادة للتعامل مع القرآن بمنطق لغة القرآن، والذي وظف كذلك قضية الأضداد والترادف في اللغة، وهناك الآن أيضا من يجدد في مسألة الرسم القرآني الذي أصبح يعتبر عندهم رسما رحمانيا وليس عثمانيا، لأن اللفظ القرآني يختلف أيضا في المعنى باختلاف الرسم...
في نفس السياق وجدت كلاما ثمينا غاية في الروعة للدكتور الشاهد البوشيخي يقول """" لا بد من التمكن من عربية عصر التنزيل، لكي نفقه الدين كما سمعنا قبل قليل، هذا الدين أنزل بلسان عربي مبين. في المراحل قبل الرسول صلى الله عليه وسلم كان التجديد بالمعنى الذي ذكرت يتم بلسان الأقوام " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" لكن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سبيل إلى التجديد إلا باللسان العربي. نجدد ماذا؟ يجدد ماذا؟ يجدد الدين. أين يوجد الدين؟ يوجد في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا الأصل، أي يوجد في المنطلق الذي هو الوحي، ولو يكن للصحابة غير هذا، وبه فعلوا ما فعلوا في التاريخ، فكان هذا الخير العظيم، وكانت هذه العمارة الضخمة.
هذا الأصل لا سبيل إلى فقهه، لتجديد تدين الناس به، أي لتجديد فهم الناس له، إلا بعرفة عربية عصر التنزيل، أي معرفة العربية التي كانت في الوقت الذي كان يتنزل القرآن، لأن العربية التي جاءت بعد، عرفت تطورات دلالية، إذا أردنا أن نفهم القرآن بعربية القرون المتأخرة بعض الألفاظ تطورت دلالتها، فإذا أسقطنا الدلالة المتأخرة أسقطناها على دلالة ألفاظ عصر التنزيل، فإنه يحدث الإشكال العظيم، ولن نفهم القرآن الذي أنزل بذلك اللسان، ولكن سنفهم قرآن آخر نحن وضعناه لأنفسنا، فهذه الأولى. الثانية هو أن هذا القرآن وإن كان أنزل بألفاظ اللسان العربي وبتراكيبه وعلى نمطه، إلا أنه طور هو نفسه دلالة الألفاظ فيه، لنقل المسلم والعرب إذ ذاك، والمسلمين إذ ذاك مما كان مألوفا لديهم ومعهودا في دلالات الألفاظ، إلى ما يريد الله تعالى أن يرتقوا إليه، وأن يرتفعوا إلى مستواه، فكانت الدلالة القرآنية لها خصوصية فيما يمكن تسميته بعربية القرآن، هناك عربية عصر التنزيل، وهناك عربية القرآن، في القرآن خصوصيات دلالية لا توجد في الشعر العربي ولا في النثر العربي، لأن الناطق بذلك الشعر وذلك النثر بشر، أما الناطق الآن بهذا الكلام في القرآن هو رب البشر، لابد من التمكن من العربية لإحداث التجديد المطلوب، لا بد،لا سبيل لنا بغير هذا إلى تحقيق هذا المراد، لا سبيل"""" ( انتهى كلام الأستاذ الشاهد البوشيخي / فيديو على اليوتوب بعنوان : الشاهد البوشيخي العربية وتجديد الدين 2/ قناة الشاهد البوشيخي)؟
لقد كان أهل الجزيرة العربية يتحدثون العربية، لكن بلهجات مختلفة، بلغت حسب مختصي الساميات خمسة عشر لهجة إضافة إلى العربية العدنانية القرشية الغالبة الآن، من هذه اللهجات العربية كانت المديانية والنبطية والحميرية واللحيانية والبطحرية والهيبوتية والشحرية والمهرية والحرثوثية، وللأسف أن الكثير من هذه اللهجات لم يضع لها سيبوين وغيره القواعد، وانقرضت، وإذا ما قمنا بإحيائها فإننا سنفهم أشياء كثيرة. وبما أن القرشيين هم الذين حكموا الدولة الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه وسلم خاصة العباسيين فإنهم وضعوا القواعد للهجة قريش العدنانية وأهملت بدرجة ما باقي اللهجات ( ليس إهمالا تاما)...فنحن الآن نتحدث لغة قريش
التنويعة العدنانية، ونحتاج إلى البحث عن اللغة العربية في تنوع لهجاتها، وهي موجودة في القرآن الكريم لأنه أنزل بلسان عربي مبين، وليس بلغة قريش كما يدعي الكثير....وعموما فالموضوع كما يظهر غاية في التعقيد لأن ذلك يترتب عنه إشكالات أخرى عويصة منها هل اللغة العربية التي نعرفها الآن أي لغة قريش والقواعد التي وضعت لها كافية لتفسير القرآن الذي أنزل بلسان كل العرب على اختلاف لهجاتهم.....
سأنتقل الآن لاقتراح وجهة نظري الخاصة المعينة على فهم معنى اللسان العربي المبين، وأسأل الله تعالى أن ينفع به الناس وهو مفتوح للتطوير من طرف المهتمين. وأنا على استعداد دائم لتوضيح مقصودي في أي مناسبة .القرآن الكريم بلسان عربي مبين، معناه من ناحية أن القرآن الكريم لا يتوفر على أي كلمة، أي لفظة لم يكن العرب يستخدمونها قبل نزول القرآن استخداما يجعلها ضمن البنية اللغوية والثقافية لأهل الجزيرة، أي تعريبها أو فوق تعريبها، بمعنى أن تلك اللفظة المستوردة وجدت لها مكانا ضروريا في التعبير بدقة وتفرد واستقلالية عن معنى ثقافي سياسي اقتصادي أو اجتماعي أو تعبدي وغيره في الجزيرة أو ضمن علاقاتها المتشعبة مع الشعوب والحضارات الأخرى ولكن قبل البعثة، أخذا بعين الاعتبار كذلك التباينات في استخدام الألفاظ المستوردة بين القبائل الأطراف المتاخمة للشعوب غير العربية والقبائل الموجودة في الوسط...، مهما اخلف مصدر اللفظة المستورة سريانية هندية أمازيغية المهم أعجمية...، سواء كانت اللغة المستوردة منها تلك الألفاظ ذات أصول سامية أو غير سامية...فالمهم أن أهل الجزيرة العربية سواء في أطرافها أو وسطها، استخدموا تلك اللفظة في لسانهم، وبالتأكيد أن هذا الرأي في تصوري يبقى قابلا للنقاش، ولكن فيه رد كافي و قوي على طروحات الاستشراق حول الأصل السورياني للقرآن الكريم، هذا طبعا إلى جانب أطروحة قدم العربية مقابل الآرامية أو السريانية التي يدافع عنها الكثير من الإخوة.
وطبعا يجب أن ننتبه أثناء التعامل مع اللفظ القرآني، أن نبقى مرتبطين ضمن اللسان العربي أولا، ويترتب عن ذلك ثانيا ضرورة معرفة الاختلافات بين القبائل في استثمار نفس اللفظ داخل مجموعة الألفاظ التي تميز لهجتها( هناك لهجات عديدة) سواء المنتمية للغة العربية أو المستورد من لغات أخرى... وثالثا التعامل مع منطق اللغة الجديدة في القرآن واحترام ذلك وجعله هو الأساس في استنباط قواعد النحو والصرف وغيرها، ثم رابعا الانتباه في هذا السياق إلى المحاذير التي نبهنا إليها القرآن نفسه أثناء التعامل مع لغة القرآن والحديث معا، فمثلا قال الله تعالى " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " ذلك أن القرآن نزل بلسان عربي مبين خالي من الحشو والترادف... و كذلك ألفاظه قطعا استعملها العرب بدون شك إما في هذه اللهجة أو تلك من اللهجات العربية، الذي وضع للغة العربية، وذلك لسبب بسيط هو أن القرآن الكريم كلام رباني مبين موجه للناس وللعالمين ومحفوظ وممتد في الزمان والمكان صوتا ورسما ومعنى، وهنا بالضرورة يفرض علينا الموضوع ربط اللسان واللغة بالمعرفة.
ولا شك أن اللغة واللسان لا تنفصلان عن المعرفة ومنه التنمية، وبما أن المعرفة( الأدوات وعلاقات الإنتاج ومناهج المعرفة والعلوم الجديدة مثلا في حالتنا التطور الهائل للعلوم اللغوية في أوربا ...) تخضع دوما للتجدد والتغيير، فإن الثبات ليس من سمات أي لغة أو لسان، ومنه فإن استنباط قواعد اللغة واللسان يبقى بالضرورة عملا مستمرا في ارتباط بتجدد الأرضيات المعرفية عبر التحولات أو المنعطفات والقطائع، فتحدث طفرات لغوية ولسانية جديدة، ويتجدد معها منطق اللغة أو اللهجة أو اللسان فيفرض حتمية تجديد القواعد، وإلا يتحول اللسان واللغة نفسها إلى عائق للتنمية، ولا غرابة على الإطلاق في تقديري أن نجد مدرسي اللغة العربية في بلداننا العربية يشرحون قواعد اللغة العربية بتوظيف لهجاتهم المحلية، فاللهجة المغاربية أو المغربية على سبيل المثال بما أنه لم يوضع لها أي قواعد، فإنها بقيت حرة تتجدد وتتطور وتتكيف وتتضايف وتستفيد من المحيط
وتؤثر على المحيط، لدرجة غزت الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها على عكس اللغة العربية الفصحى أي العربية العدنانية القرشية الغالبة الآن، بل نجد أهل المعرفة والسياسة الكبار مثل عبد الله العروي و والمهدي المنجرة والملك الراحل الحسن الثاني رحمة الله عليهما وغيرهم، قوة البلاغة والخطابة في دارجتهم هي نفسها في عربيتهم أو أكثر، لهذا تجدهم يستوردون أو يستنجدون بالدارجة الأقرب إلى توضيح المعنى للأفهام...
... ويمكننا تقريب الفهم من خلال مثال التطور الذي حصل للهجات الوطنية الأوربية مثل الإسبانية والفرنسية والإنجليزية وألمانية وغيرها، فمعظم هذه اللهجات نابعة من اللغة الأم اللغة المرجعية المعيارية بكل قواعدها وهي اللاتينية لغة السياسة والدين والعلم إلى غاية بداية العصور الحديثة في أوربا تقريبا، لكن لعوامل تاريخية وجغرافية وثقافية برز الاهتمام أكثر باللهجات التي أخذت صبغة وطنية، وحضيت بالاهتمام بعدما كانت تعد هامشية وغير معتبرة، وبما أنه رافق الاهتمام القطري بها تحولات عديدة جوهرية في اتجاه أوربا جديدة حضاريا قطعت لاحقا تقريبا مع أنماط الحياة الفيودالية، ولعوامل مرتبطة بمفهوم ومتطلبات الدولة الوطنية الجديدة كذلك، فإن اللهجات سارت لغات تتجدد وتتطور وتكون لنفسها منطقا، فاشتغل اللغويين باستنباط قواعد لها وخضعت هذه العملية لمراحل طويلة إلى أن دخلت مرحلة شبه استقرار، ولكن الاهتمام بالتجديد لا يزال مستمرا في العديد من الدول الأوربية خاصة مع اكتشاف علوم ومناهج بحث لغوية جديدة، إضافة التوجه مؤخرا نحو التناهج، ومد الجسور بين العلوم والمناهج، مثل اللسانيات والتاريخ مثلا...أما بالنسبة للهجات اللغات العربية فيبدو أنها لم تكن محظوظة بما يكفي للتطور نحو لغات عربية مستقلة وذلك بفعل السيطرة القرشية على السلطة عبر التاريخ الإسلامي.
سئل عميد الأدباء العرب طه حسين عن أصناف اللغة العربية فأجاب، بأنه هناك الشعر والنثر والقرآن، أي أن لغة القرآن لها ما يميزها. وحاليا نحن بحاجة ماسة إلى بناء قواعد للغة من القرآن الكريم، من أجل تفسير القرآن للحياة، لأن القواعد المعروفة المتوارثة عن النحويين استقرأت من الشعر والنثر أي من داخل منطق اللغة الذي كان سائدا في الجزيرة العربية، أما لغة القرآن فلها منطق آخر يقتضي إعادة بناء قواعد أخرى من أجل فهمه الفهم الصحيح والمتساوق مع روح العصر، وأضيف بكل وعي بما أقول أن أي قواعد يستنبطها الإنسان من منطق لغة القرآن بغية فهمه، لن تعود صالحة مع مروز الزمن وتغير أحوال الناس، وسنحتاج بشكل مستمر إلى تجديد هذه القواعد على ضوء القرآن، ويستحيل مطلقا أن تقعد قواعد دائمة للغة القرآن للتعامل معه، وطبيعي أن تكون لأي لغة عربية بشرية أخرى قواعد أو حتى اللهجات الأخرى قواعد خاصة بها، و تتضايف مع قواعد القرآن.
وضعت قواعد اللغة العربية في القرن الثاني والثالث الهجري، في حين أن العرب تحدثوا باللغات العربية وأجادوها قبل وضع القواعد، بمعنى وبكل بساطة يمكننا نحن الآن أن نطور نطقنا باللغة العربية ثم نطور النحو ليتماشى معها( هذه هي النظرية العربية في التعامل مع اللغة قديما). أما رأيي الشخصي أننا في حاجة إلى مراجعة جذرية لقواعد اللغة التي وضع أسسها سيبويه ، لأنه مثلا في الإعراب لا يوجد عندنا مستقبل، وقواعد الإعراب بنيت على الماضي، فبقينا ملتصقين بالتراث بدون تجديد وبدون آفاق، والأمر له ارتباط صرف بالعبودية والفقه والفكر الذكوري والقبلي وغيرها من ثقافة قريش ومحيطها القريب الذي تحكمت فيه كثيرا،
ومحيط الجزيرة البعيد الذي ربطها معه علاقات معقدة...ثم أن العديد من القواعد الحالية لا تتماشى ولا نستطيع تطبيقها على لغة القرآن الكريم إطلاقا.
يتناول اللسانيون علاقة اللغة بالتنمية، ومنه علاقة اللغة بالمعرفة وتطورهما معا بشكل متوازي واقترانهما معا، وإذا كانت اللغة القرآنية والمعرفة القرآنية تنفردان بخصوصية مستقلة، عن العربية والمعرفة البشرية، فاللفظ القرآني الثابت يستطيع التعبير بشكل دائم عن المعنى القرآني المتحرك والمتغير بتغير أحوال العالمين، وهذا بعضا مما تقتضيه لفظة مبين المقترن باللسان العربي حسب التعبير القرآني( لهذا الضرورة ستحتم تغيير القواعد بشكل مستمر)، ودلالة الألفاظ ومعانيها تفهم من داخل القرآن، ذلك أن القرآن الكريم وحدة لغوية مستقلة تفهم بعضها بعضا باعتماد السياق القرآني وعبر مسألة الترتيل( وهذا كان مخرجا إلهيا للتغلب على إشكالات اللغة كمادة حية...) ....وهكذا كلما تطورت المعرفة الإنسانية ومعها مختلف أحوال الناس وأنماط ودرجة تفكيرهم، فإنهم سيجدون القرآن الكريم لغة ومعنى يتماشى ويستجيب لأرضيتهم المعرفية المتجددة...أما بخصوص اللغة العربية خارج إطار القرآن فدائما مطلوب من العرب أنفسهم التجديد المستمر على مستوى الألفاظ والمعاني والدلالات والقواعد( النحو والتصريف...)، وذلك كي تتمكن من استيعاب حجم التغيرات الحتمية على مستوى المعرفة ومختلف العلوم والاقتصاد وعلاقات وأحوال الناس...
وأضيف بخصوص ما يدعيه الاستشراق الجديد من كون بعض الآيات القرآنية غير مفهومة، ليس لأن ألفاظها ليست من اللسان العربي، فهي من الآرامية أو السوريانية؟؟ فهذا ضرب من الكذب والبهتان والغرور المعرفي وتحريف لمجرى البحوث العلمية، وإنما ذلك نظرا لارتباط اللفظ القرآن بالمعرفة الإنسانية والكونية، فكلما تطورت المعرفة البشرية يزداد فهمها للقرآن الكريم، والدليل العلمي العملي لذلك هي آيات العلم في القرآن الكريم التي تتكشف للبشرية كل يوم مع تطور العقول وتقدم مناهج وأدوات البحث، وأيضا حتى الآيات التي كانت مفهومة في زمن معين وفق الحاجة والمتطلبات المجتمعية، مع الوقت يتجدد الفهم لها بتجدد الأرضية المعرفية للإنسان. فاللفظ ثابت والمعنى متغير بتغير أحوال الناس، والتفسيرات التي قدمت قديما مثلا لآية التعدد، وآيات الوصية والإرث، وضرب المرأة...لا يمكن فصلها عن تأثيرات الفكر الذكوري والقبلي، والأمر كان يبدوا مقبولا ولا يقبل غيره، كما أنه لا داعي لنقول نحن الآن أنهم أساؤوا، ولكن بالنسبة لأرضيتنا المعرفية الآن يبدوا الأمر غريبا، وأرى أنه في طريقه أن يصبح غير مقبول كرأي مجتمعي.
وفي نفس السياق وردا على طروحات الاستشراق، فالمسلمين لم يكن و ليس مطلوبا منهم بأي حال من الأحوال فهم كل القرآن دفعة واحدة في إطار ثقافي زمني محدد، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يفسر كل القرآن الكريم. ثم أن القرآن الكريم يتحدث عن اللسان العربي المبين، بمعنى هناك اللسان العربي غير المبين، فهل في حياتنا اليومية بإمكاننا التعويل حتى على اللسان العربي غير المبين، بينما المبين يبقى حصرا على القرآن؟؟؟؟ وهكذا فإن أي تطور للسان العربي سواء بإنتاج الألفاظ العربية جديدة من خلال تطويرها، أو باستيراد ألفاظ غير عربية وتعريبها، يبقى القرآن الكريم هو المحدد المضمون الذي بين أيدينا لمعيرة أو الحكم على مدى بيان اللسان العربي من عدمه...