المدرسة المغربية والعقل المستقيل
نور الدين الطويلع
اختار الملقب بالداعية "رضوان بن عبد السلام" أن يُنَظِّرَ للجهل والجهالة من موقع المستشار الذي يوضح للناس ما استشكل عليهم من أمور دينهم ودنياهم، وحمل عبر "فتوى" مثيرة وغريبة معول الهدم الاستهوائي المدعوم بطمأنينة العقل المستقيل، لينزل به بكل تهور على المدرسة المغربية الجريحة، واصفا إياها بوكر الدعارة ومشتل المنحرفين، ويتخذ من هذا الوصف حجة ليحرض الآباء على النأي بأبنائهم عنها حتى تصاب فطرتُهم السليمةَ بعدوى فسادها، فيتحولوا من أبناء أخيار أطهار إلى كائنات مُذَعْرَنَة ومُبَغْيَنَة و"مُشَمْكَرَة".
هذا الكلام الخارج من وكر الجهل والتخلف يستوجب التوقف عنده مليا، وتأمل معانيه جيدا، لأنه صادر عن شخص يحظى بلقب "الداعية"، وقد تجد كلماته طريقها إلى آذان البعض وقلوبهم، لاسيما أنه ربط خطابه بالمقدس وبالقيم والأخلاق، ونحن نعلم أن عاطفة المتلقي تميل إلى هذا الخطاب وتنساق له ، فتدفعه إلى تبنيه بثقة عمياء أحيانا، وهنا مكمن خطر الانحراف الفكري والديني الذي يمكن أن ينسف البنيان ويهدمه بالرأي المضلِّل والمغالطة الممجوجة والتهور التنظيري الفج.
قبل أن نتناول التدوينة/ الفتوى بالتحليل والنقد نتساءل: أين يكمن العنف اللغوي في تدوينة "الداعية"؟، وكيف مارس بهذا العنف أسلوب القتل الرمزي في حق المدرسة؟، وما مسؤولية العقل المستقيل في هذه الجريمة؟، وأين تكمن خطورة هذا الخطاب؟، وما الحل للتخلص من هذا الفكر الهدام؟.
1ـ حقول النص الدلالية ودورها في رسم معالم الفكر التكفيري ضد المدرسة المغربية
أ ـ حقل القذارة والانحراف: الفساد ـ الجهل ـ الدعارة ـ فاضح ـ البغي ـ مائلات ـ مميلات ـ
ـ الشمكارة
ب ـ الحقل التربوي: المدرسة ـ التربية ـ التعليم ـ المدارس ـ الثانويات
يتوزع التدوينةَ/ الفتوى حقلان دلاليان، يحضر أولهما في سياق الإثبات بفعل ذي قوة إنجازية ترتبط بالإخبار عن الحاضر(أصبح)، وبجمل اسمية تدل على الثبات واللزوم، كأن واقع المدرسة "القذر" في نظر صاحب التدوينة صار قَدَرًا مُقَدَّرًا، وصفة لاَزِبَةً لا خلاص منها ولا فكاك، مما يعني وجوب قفل كل منافذ التردد في قبول هذا الحكم، والتسليم به تسليما تاما، لأن وثوقية صاحبه ودوغمائيته لا تريد أن تُرِيَ الآخرَ إلا ما تَرَى، وإن حدث وعبر المتلقي عن رأي مخالف، فهو منغلق حَجَبَهُ انغلاقه عن إبصار الأنوار الرضوانية المتلألئة.
يحضر الحقل الدلالي الثاني (الحقل التربوي) في سياق النفي، عبر صيغتين إحداهما زمنية (كانت قديما)، يدل الفعل كان على الزمن الماضي، وعلى انقطاع الحدث في الحاضر (هناك استثناءات بهذا الصدد)، وقد بؤٍّرَ بكلمة قديما، هاتان الكلمتان تعالقتا لتنفيا عن مدرسة الحاضر الصفة التربوية، وحتى لا يترك المُدَوِّنُ المجال للآخر ليقول العكس، استعان بحرف النفي (ما) ليكبح أي رأي يرى صاحبُه أن المدرسة هي المدرسة، وليست وكرا للدعارة، وهنا تكمن حجاجية النفي التي "تتمثل في كونه لا يرد إلا في مقام مواجهة الغير والرد على إثباتٍ حاصلٍ أو ممكن الحصول من قِبل الغير".
ساهمت ثنائيتا الإثبات والنفي إذن في اصطفاف المعنى وتكدسه في دائرة السلبية، مظهرة صاحب التدوينة في صورة الواثق الذي يرفض رفضا قاطعا الإيمان بقيم التربية التي تنتجها المدرسة، بل يتجاوز ذلك إلى التطرف في إصدار النعوت والأوصاف التكفيرية التي ترمي المدرسة وأطرَها في مستنقع الفساد والإفساد، وقد لا نستغرب أن يبني متنطع آخر رأيه على هذه "الفتوى"، فيأمر بهدم المدرسة وقتل أصحابها بصفتهم منتجي فسادٍ مبين.
2 ـ عشوائية الألفاظ والعبارات ودروها في تكريس التنطع والتطرف: يقتضي الخطاب الرزين والمتوازن التحري في انتقاء الألفاظ بصفتها مقوما يتكئ عليه الباث لإقناع المتلقي بوجهة نظره، فالانتقاء مقوم لا يخلو من بُعد حجاجي، ويؤدي دورا أساسيا في نجاح التواصل الحجاجي كما يرى "شاييم بيرلمان"، وما دمنا أمام ذات غير واعية بشروط الكتابة الحجاجية، وغير مدركة لأبعاد كلامها، فإننا نصادف فوضى في استعمال الألفاظ وإطلاقها على عواهينها، دون تثبت، وبلا إدراك لخطورتها، ولما ترمز إليه، وحسبنا أن نخصص هذه الوقفة اللغوية على عينة من كلمتين، لندرك، ويدرك معنا صاحب الفتوى، أن الأمر جلل تمتد خطورته وتتمدد لتتحول إلى جريمة مكتملة الأركان في حق المدرسة المغربية، وفي حق أطرها، وفي حق المواطن، يقول دوركهايم: "إن حدثا يكون إجراميا عندما يحرج الحالات القوية والنهائية للوعي الجمعي" .
أثارنا بهذا الصدد استدعاء كلمة "منبع" في سياق الحديث عن تفريخ المدرسة للجهل والفساد والدعارة، وكلمة منبع اسم مكان يدل على مصدر الشيء، نقول: منبع الماء، في إشارة إلى المكان الذي يجري منه الماء، ولنا أن ندرك أبعاد هذه الكلمة في التدوينة/الفتوى، فالمدرسة، دون غيرها هي المكان الذي ينبع منه الفساد والجهل، وتنبع منه الدعارة، ربما في غفلة منا جميعا تحول المدرسون إلى أساتذة متخصصين في تلقين فنون الجهل والدعارة والفساد للناشئة في غفلة منا جميعا، باستثناء مغربي واحد استطاع بعبقريته المتفردة أن يكشف المستور ويفضحه، ليصرخ بوجوب ردم المنبع حتى لا يستمر في إنتاج سلالة الجهلة والفاسدين.
ويذهب بنا الأمر حد الاشمئزاز والتقزز حينما يُرمى أطفال صغار في عمر الزهور بوصف الدعارة، وهنا سنستدعي ابن منظور في لسانه ليوضح لصاحب التدوينة دلالات وصفه الإجرامي:"دَعِر الرجل و دَعَرَ دَعَارَةً. فَجَر، ومَـجَرَ، وفـيه دَعَارَةٌ و دَعَرَةٌ و دِعارَةٌ. ورجل دُعَرٌ و دُعَرَةٌ: خائن يعيب أَصحابه؛ قال الـجعدي:
فلا أَلْفَـيَنْ دُعَراً دَارِبا،
قَدِيمَ العَداوَةِ والنَّـيْرَبِ
ويُخْبِرُكُمْ أَنهُ ناصِحٌ،
وفـي نُصْحِهِ ذَنَبُ العَقْرَبِ
وقـيل: الدُّعَرُ الذي لا خير فـيه. قال ابن شميل: دَعِرَ الرجلُ دَعَراً إِذا كان يسرق ويزنـي ويؤذي الناس، وهو الدَّاعِرُ. والدَّعَّارُ: الـمفسد. و الدَّعَرُ: الفسادُ...الدَّعارَةُ: الفسادُ والشر. ورجل دَاعِرٌ: خبـيث مفسد".
تُجَلِّي هذه الكلمة بحمولتها الثقيلة بالسلبية والقذارة حجم الجهل الذي يغلف ذاتا مستقيلة العقل تنطق عن هوى، وتهرف بما لا تعرف، وتهذي بما لا تدرِك، ولا تدري، وهي تنتحل صفة مُفْتِ، أنها تبث الفوضى وتنشر الفكر العدمي المتطرف في المجتمع، وتزرع بذور العنف التي قد تجد ذواتا أخرى مماثلة ستتعهدها بالأفكار المسمومة لتنمو وتنتج في الأخير نسخا "خوارجية" جديدة، وتساهم في تثبيت ما سماه محمد أركون "السياج الدوغمائي المغلق"، وتعززه بالأشواك المدمية.
ما الحل الأنجح لوقف هذا الفكر الهدام؟
مع احترامنا للمسلك الذي نهجته وزارة التربية الوطنية برفع دعوى قضائية ضد صاحب هذه الخرجة العجيبة، فإننا نظن أن هذا الإجراء لن يحل المشكل، بل ربما زاد من استفحاله وتجذره، فعند معاقبة الجاني سيشعر من يقاسمه "التفكير" ذاته أن الدولة تضطهدهم وأن تصورهم صحيح وسليم، الأمر يدعو إلى العمل على النهوض بالعقل المستقيل عبر مناظرات ولقاءات علمية يُستدعى إليها هؤلاء، وتُكشَفَ لهم ولأتباعهم مزالق تفكيرهم وهفوات تصورهم، ويتطلب تدخل خبراء في مختلف المجالات الدينية والنفسية والاجتماعية، فنحن هنا أمام فائض قيمة من أمراض مختلفة تكتل لينفجر في شكل تصريفات لغوية منحرفة، يقول "توماس بلاس": "تتراكم الاضطرابات والمعضلات...لتعبر عن نفسها بأشكال عدوانية" ، الحل في نظرنا فكري صرف، وهذه مسؤولية المثقفين والعلماء، وهنا تبرز قيمة الصيحة التي أطلقها المرحوم محمد عابد الجابري حين تساءل: "هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟".