روسيا و الحلف الأطلـــــسي: عداء مستدام
خالد ليلي
نشأت سياسة الأحلاف العسكرية في سياق الاستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى احتواء الاتحاد السوفياتي والتي دشنها هاري ترومان سنة 1947 بهدف الحيلولة دون امتداد وتوسع النفوذ السوفياتي عقب الحرب الباردة ، و هكذا نشأت أحلاف عدة من قبيل حلف شرق اسيا SEATO ،حلف ألنزوس ، حلف بغداد، لكن أبرزها كان "حلف شمال الأطلسي " الذي تأسس في واشنطن بتاريخ 4 أبريل 1949 بتوقيع كل من الولايات المتحدة الأمريكية بريطانيا ،فرنسا، ألمانيا الغربية ، إيسلاندا ، الدنمارك ،هولندا ،اللوكسمبورغ، إسبانيا ، البرتغال ، النرويج، اليونان و تركيا على معاهدة إنشاءه بغرض تشكيل قوة عسكرية تهدف الدفاع عن حدود هذه الدول أمام أي اعتداء محتمل، بالمقابل تم لجوء الاتحاد السوفياتي إلى نفس السياسة بتأسيس "حلف وارسو" عقب معاهدة "الصداقة و التعاون و المساعدة المتبادلة" ضم دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلك المنظومة الاشتراكية باعتباره خطا دفاعيا وحصنا يحول دون اختراق النفود الأمريكي لهذه المنطقة اعتمادا على مبدأ و نظرية "السيادة المحدودة " التي دشنها الرئيس السوفياتي الأسبق برجنيف و التي تقول بأنه لا يمكن تصور سيادة الدول الاشتراكية إلا في إطار الأممية الاشتراكية ، و الهدف هو ضمان مناطق نفوذ وتأمين ما يسمى بمجاله الحيوي .
لقد عرف حلف وارسو تصدعا عقب سقوط الاتحاد السوفياتي و سقوط حائط برلين في 9نوفمبر 1989 حيث تم حل الحلف بمقتضى بروتكول براغ في فاتح يوليوز 1989 ، و شهد العالم صعود الولايات المتحدة كزعيمة للعالم بتدشينها لسياسة القطب الواحد حيث عمل الحلف الأطلسي على توسع مجال نفوذه بضم كل دول المعسكر الشرقي الذي ارتفع عدد أعضائه إلى 28 دولة ، وقد كان الهدف محاصرة روسيا كوريث شرعي للاتحاد السوفياتي في إطار سياسة الاستقطاب مع الرغبة في تنظيم و توجيه الأوضاع الدولية بما يتناسب مع مصالح الدول الغربية من دون أن أي معارضة أو عدو محتمل ، و إيجاد إطار مؤسسي للتعاون مع الأمم المتحدة التي أصبحت غير قادرة على القيام بأعباء حفظ السلام ، إضافة إلى احتواء كل النزاعات الإقليمية حتى لا تشكل تهديدا للأمن العالمي عبر التسلح بالشرعية اللازمة لتدخلاتها كما في الحرب الأهلية في يوغوسلافيا وكوسوفو و الحيلولة دون قيام أنظمة مطلقة معادية للحريات السياسية وللديموقراطية و التي قد تهدد السلم الأوروبي كما وقع في ليبيا ، غير أن هذه الأدوار الظاهرية لم تكن لتداري ما يقوم به هذا الحلف في العمق و الذي كان يروم منها :
- محاصرة أي دور عالمي أو إقليمي لروسيا التي بدأت تتعافى من أزمتها الاقتصادية و مشاكلها السياسية مع بداية الألفية الثالثة .
- محاولة فرض هيمنته على مناطق البترول الغنية في جمهوريات أسيا الوسطى لاسيما نفط قزوين و محاصرة روسيا من الجنوب .
- إقامة جدار قوي للسيطرة على الأوضاع في الخليج العربي و التغلغل في المجال الأوراسي .
- التمدد في المجال الأسيوي الذي سيكون محور التنافس بين الاستراتيجيات العالمية للقوى الكبرى مما أثار تخوف الصين من أن يؤدي هذا التوسع إلى التأثير على محورية دورها القيادي في الفترة الأسيوية .
- إضعاف النفوذ الروسي حتى داخل مناطق نفوذ مجاله الحيوي كما هو الحال غداة أحداث جورجيا عام 2008 وأوسيتيا الشمالية و الجنوبية و الأزمة الأوكرانية لسنة 2014 و الصراع الأرميني الأذريبدجاني الأخير و ما لعبته تركيا في إدارة هذا الصراع .
لقد استغلت أمريكا انهيار الإتحاد السوفياتي و وجود دعوات وقتها بفتح صفحة جديدة مع الغرب تتجاوز مفرزات الحرب الباردة بالدعوة إلى بناء شراكة حقيقية مع الغرب بناء على تأكيدات شفوية من القادة الغربيين لنظرائهم السوفيات بأن الحلف على حد تعبير وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر لن يتحرك بوصة واحدة تجاه الشرق ،غير هذه الوعود لم تكن بناء على اتفاقيات و ضمانات كتابية موثقة تجعل الأطراف المتواجهة تستند إلى وثائق قانونية تحاجج بها وتعزز مواقفها الدولية ، مما جعل قادة الحلف يتجاوزونها وهو ما أكدته الأحداث المتلاحقة بعد ذلك بانضمام كل دول حلف وارسو السابقة إلى الحلف بل لتشمل الحديقة الخلفية لروسيا أو ما أطلق عليها من قبل بالجمهوريات السوفياتية بما فيها دول البلطيق (ليتوانيا –لاتيفيا-استونيا ) و جمهرية مولدافيا . هذا الاجتياح التام جعل روسيا تنظر بعين الريبة لمجمل هذه التحركات خصوصا عندما تعلق الأمر بأوكرانيا كدولة تاريخيا كانت جزءا من الذاكرة الروسية منذ القرن السادس عشر الميلادي ووجود حكومة موالية للغرب بقيادة فلاديمير زلينيسكي ، فكان الإعلان عن ضم جزيرة القرم سنة 2014 لروسيا ثم الإعلان الحرب على أوكرانيا بعدما أعلنت نيتها في الانضمام إلى الحلف الأطلسي .
إن سياسة الحلف الأطلسي و إن تأسست في البداية على مبدأ السلم و الأمن العالميين ، إلا أن أغراضه التوسعية شملت كافة أوروبا و تطمح إلى محاصرة روسيا شرقا و جنوبا و الامتداد إلى أسيا بغية محاصر الصين ، لتطرح علامات استفهام كبيرة حول رغبة الولايات المتحدة باعتبارها قائدة الحلف في الحد من الطموح الروسي و الصيني خصوصا مع بروزهما اقتصاديا و عسكريا على الساحة الدولية و بالتالي محاولة لجمهما خوفا من أن يتحولا إلى قوتين دوليتين ينافسانها ، مع رسم هدف أخر على المدى البعيد يقضي بالتمكن من فائض قوة يبقي أوروبا تحت السيطرة الأمريكية ويحول دون استقلاليتها السياسية و العسكرية خصوصا إذا تعلق الأمر بدولتين مركزيتين هما فرنسا التي كانت قد انسحبت منه سنة 1966 في عهد الجنرال دوغول و لم تعد إليه إلا في سنة 2008 و ألمانيا التي مازال ينظر إليها كطرف قوي ينبغي كبحه حتى لا تفلت العبقرية الألمانية من عقالها و تضع برنامجا قويا لتسليحها يساعدها على التوسع و الهيمنة ، و بالتالي فالحفاظ على مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم اقتصاديا و عسكريا يجعلها تسخر كل إمكانياتها اليوم لتأجيج الصراع في أوكرانيا و الحيلولة من دون نجاح مفاوضات السلام بين الأطراف المتنازعة خصوصا و أنها تراهن على استنزاف روسيا اقتصاديا و عسكريا في حرب طويلة الأمد يخرج منها كل أطرف النزاع بما فيها أوربا في حالة من الإنهاك الاقتصادي و العسكري و السياسي وتكون هي من يقطف غنائم هذه الحرب ويسيطر على العالم في سيناريو قد يعيد نتائج الحرب العالمية الثانية إلى الأذهان.