صفحات من العنف المدرسي
عادل متقي
كل شيء عادي لحدود الساعة... يركَز الأستاذ في أجوبة التلاميذ لكنه لا يلقي بالا لنظرات أحدهم النارية... يستدير لكتابة أحد الأجوبة، يستغل التلميذ حركة المدرس، يستل سكين العيد المشحوذ و يثب نحوه في ثبات ثم يطعنه طعنات حقد غادرة...يسقط الأستاذ مضرجا في دمائه.. تنتقل سيارة الإسعاف على وجه السرعة...نجا الضحية من موت محقق لكن بإعاقة دائمة....
المشهد الثاني يأخذنا إلى قرية منسية من قرى المغرب العميق، جوَ ماطر هادئ... لكنه هدوء خادع... معلمة حسناء في مقتبل العمر، تواصل مسيرها بين الأوحال و البرك المائية..يعترض سبيلها رجلان تبدو عليهما ملامح القسوة... و العنف. تتجنبهما في كثير من اللامبالاة، يتراجع احدهما خطوات صغيرة إلى الوراء، ينحني، يلتقط حجرا غليظا، ثم يقذفه مباشرة باتجاه المعلمة...تسقط المعلمة غارقة في دمائها، نصف الدنيا أظلم عليها...هذا آخر شئ تذكرته قبل أن تفقد وعيها..إنها الآن في المستشفى، عينها اليمنى مغطاة بضمادة طبية.. يتقدم الطبيب نحوها، يرمقها بنظرات مشفقة...ثم يهمس لها خبره الصاعق.. ضاع نصف بصرها.
المشهد الثالث يحملنا إلى العيون، حاضرة الصحراء المغربية. رغبة عدد من الأساتذة في تعويض بعض ساعات العمل الضائعة أو إضافة ساعات دعم مجانية تفرض على المدير الحضور... ثمانية أشخاص يدلفون إلى الثانوية التأهيلية، يتوقفهم المدير ثم يأمرهم بمغادرة المؤسسة. ما هي إلا ثوان و دون سابق إنذار... تضيع كرامة المدير وسط وابل من الركل و الرفس المبرحين.
بذات المدينة، أستاذ لغة حديث التخرج، يستدرج إحدى تلميذاته إلى مكان خال، يثير الأمر فضول احد التلاميذ... فيقرر تتبعهما، يأخذ ألته الرقمية ثم يصور لحظات مجون شاذ...تقنية البلوتوت تنشر الفيديو الفاضح..ثم يعتقل الطرفان...
ورزازات مدينة هادئة، جو الامتحان يخيم على المكان، لكن لحدود الساعة لا شيء يسترعي الانتباه.... التلاميذ مدعوون لترك هواتفهم المحمولة و كل أغراضهم.... أستاذ الحراسة يقطع ممرات الصفوف ذهابا و جيئة، يتوجه نحو احد التلاميذ ويضبطه في حالة غش... يستعطف التلميذ أستاذ الحراسة ثم يتهدده... في الخارج، ينفذ التلميذ وعيده برفقة زملاء له...
كلميم، باب الصحراء، معلم في سنته التاسعة و الثلاثين يعاني من اضطرابات نفسانية منذ مدة، يرمق زميلا له بنظرات نارية حانقة، يتجاهله الأخير، يواصل المسير... لكن المعلم يلاحقه كظله إلى المرافق الصحية ثم يطعنه طعنات قاتلة أمام مرأى و مسمع من تلاميذ في مقتبل العمر.
الرباط، إنها الساعة السادسة مساء، موعد عودة الصغير، تنتظر الأم عودة فلذة كبدها ذي التسع السنوات على أحر من الجمر. تتوقف سيارة نقل التلاميذ، ينزل الطفل و معه بكائه الحاد، ينقبض قلب الأم، تسارع الخطوات باتجاه ابنها، تزيح يديه عن وجهه..يزداد انقباض قلبها من هول ما رأت: تعرض الوجه الملائكي النحيف لصفع وحشي حتى أن آثار الأصابع بقيت مرسومة على الخدود الصغيرة... يا ربي، أي عين سوداء أصابتني في ابني... في صباح الغد، يرافق الزوجان الابن الصغير إلى المدرسة، تستقبلهما المديرة، يعربان عن رغبتهما في متابعة المعلمة قضائيا، تستعمل مديرة المدرسة الخصوصية كل أساليب التودد و التوسل ثم تخبرهما عن عزمها طرد المعلمة حفاظا على سمعة المؤسسة... يرَق قلب الزوجين ليخبرا المديرة بنيتهما التنازل شريطة ألا تطرد المعلمة.
الدار البيضاء، إنها الثامنة و نصف صباحا، تخرج التلميذة من منزل العائلة، تطرق منزل صديقتها، تتوجه الاثنتان في اتجاه مؤسستهما ثم ما تلبثا أن تدلفا طريقا جانبيا، لتخرجا من الجانب الآخر... اختفت الوزرة و حضر بدلها لباس فاحش يكشف كل مفاتن الجسدين المكتنزين، يرن هاتف إحدى المراهقتين، تفتحه ثم تجيب: نحن قادمتان، انتظرانا في مقهى الشيشة.
بداية الحصة المسائية الآن، القاعة ممتلئة عن آخرها و المدرس يحصي تلامذته، ينظر باتجاههم... وجوه عابسة، تقليعات من تصفيفات شعر غريبة تبعث على الضحك و الشفقة في آن واحد... عيون نائمة و أخرى مخدرة تغالب نوما عميقا. يتمتم الأستاذ عبارات غير مفهومة ثم يطرح مجموعة من الأسئلة، همهمات و أجوبة خاطئة تتوالى، يبدي علامات الحيرة، يبسَط أسئلته حتى يزداد وضوحها، لكن الأجوبة الصحيحة تغيب وسط عبارات متهكمة تتبعها ضحكات هنا و قهقهات هناك، يبدي المدرس تبرمه و ينعي حظه العاثر الذي حمله إلى هنا، يتحسر على السنوات الخالية و يقيم عددا من المقارنات المتحسرة التي تزيد من غيظ التلاميذ..
المكان، محطة القطار بالدار البيضاء، يقترب احد المعلمين من زميل له، يتبادلان أطراف الحديث، تتغير سحنة احدهما ثم يفاجأ الآخر بضربة سكين، يسقط الزميل أرضا و ينهمر الدم من جبهته دون توقف، تنقله سيارة الإسعاف إلى المستشفى و تحمل زميله إلى اقرب دائرة أمنية.
تلاميذ يشتكون فظاظة عدد من المدرسين وتهكم عدد آخر...أساتذة يندبون تراجع المستوى و ضياع كرامة المدرس و يلقون اللائمة على المنظومة و الأسرة...إداريون يتبرمون، يشتكون سوء سلوك التلاميذ و كثرة تقارير الأساتذة...أولياء التلاميذ يلقون باللائمة على المنظومة التدريسية برمتها...الكل يتهم الكل.
هكذا هي المنظومة التعليمية بالمغرب، جو مشحون، مكهرب، الكل يتنصل من المسؤولية و النتيجة وخيمة، لا تربية و لا تعليم، رغم تحسن الظروف قياسا مع السنوات الماضية...تراجع في التحصيل و تزايد في العنف.
عنف المدارس معضلة كبرى، المدرسة أشبه ما تكون بمسرح كبير، البطولة مشتركة و الفرجة مضمونة فالمدرسة مجتمع صغير، و القسم انعكاس لكل الظواهر الاجتماعية. الأستاذ يحمل معه مشاكله الاجتماعية التي لا تنتهي و يضيع تركيزه بين مطرقة البرامج الدراسية و المذكرات الوزارية و سندان الواقع المرير...التلميذ يشتكي طول المقرر و صعوبة الدروس و تتجاذبه صور العنف و اللقطات الماجنة التي يلتقطها من الشارع، الحافلة... و التلفاز..الآباء مقهورون تتقاذفهم أمواج الحياة المتلاطمة...
إصلاح التعليم مسؤولية الجميع و توحد الجهود أمر ضروري.. المدرسة مدعوة للانفتاح على محيطها أكثر من أي وقت مضى والدولة ملزمة بإحداث مراكز إنصات... الآباء مطالبون بتهذيب أخلاق أبنائهم و مراقبتهم... الإعلام مدعو إلى القطيعة مع البرامج الخليعة و لقطات العنف و المنظومة التربوية برمتها ملزمة بممارسة صلاحياتها و تحمل مسؤولياتها حتى لا يضطر الأمن و القضاء للتدخل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
المقالات الأكثر مشاهدة
27691 مشاهدة
1
9806 مشاهدة
6
9603 مشاهدة
7