استنكاف الذات بين التهم الواهمة والمسايرات الجائرة1
سعيد المودني
في هذا المليْف، نعرض مظاهر لـ"تَقَطُّط" المسلمين، وخاصة منهم العرب، وتوددهم المذل لأعدائهم وللغرب على وجه الخصوص، فنورد نماذج لتُهم ليس لها في الواقع رصيد يجاوز، في حده الأقصى، النسبة الموجودة في مجتمعات الملل الأخرى، والأنكى مجاراة المتهَمين للمتهِمين في ما يرمونهم به، في مظهر ينم على أقصى وأقسى درجات الذلة والهوان واستنكاف الذات والقابلية للإهانة..
مجالات وأمثلة الاتهام من جهة، والمجاراة من الجهة الأخرى كثيرة.. بل هناك مجالات يبادر، بل يسارع فيها المتهَم لاتهام نفسه، ويعفي الآخر حتى من عناء البحث عن تهمة.. لكن سنكتفي بالتعريج الموجز على عينتين أو ثلاثة منها..
المجال إذن متنوع. قد يبدأ بالمجتمعي، كأن يُرمى(المجتمع) بالنفاق والشيزوفرينية، وقد لا ينتهي بما يروم العقيدة رأسا، كأن تُقذف بالتطرف و"الإرهاب"، ويُعاب وصف غير المؤمنين بها بالكافرين..
نبدأ إذن بالمثال الأول، حيث غالبا ما يُتهم "العرب" بالإغراق في النفاق والسكيزوفرينية.. ووجه العجب في الاتهام وجهان.. فمن جهة أكثره صادر من الداخل، وحتى ما صدر من الخارج، فهو مصدق، متقبَّل من هذا الداخل، ما يعبر عن مازوشية ماحقة. ومن جهة أخرى فإنه يُصدر على الكل، في تعميم لا يقل بشاعة.. حكم جزافي عام على العنصر العربي بالازدواجية، غير مؤسس على أي منهج!!!..
إن القول بمثل هذا الإطلاق والتعميم لا يقول به إلا من كان مشكوكا في دوافعه وسلامة موقفه ونواياه. لأن الحكم على الهوية أو العرق أو العنصر هو عنصرية مقيتة، إن صدرت من الآخر. وهي عمالة مأجورة أو مجانية، إن صدرت عن بني الجلدة، تعبر، في أحسن الأحوال، عن انفصام مرضي، وتؤدي، في أبسط الأحوال كذلك، إلى إحباط وتثبيط محفز للنفور من الذات الجماعية، وكذا لمضاعفة الانبهار، وبالتالي استنبات ورعاية القابلية للهزيمة..
إن نسبة ومستوى من النفاق يقينا موجودة في كل المجتمعات، وإنما يختلف قدر تلك النسبة وذاك المستوى،، وعليه تمكن إدانة أفراد معينين محددين، أو الاتجاه العام لتيار فكري أو سياسي معين بما يتخذ من مواقف، أو "مؤسسة معينة" بما ترسّم من إجراءات... لكن إدانة العرب قاطبة في حكم نهائي مطلق، فهذا هراء وعبث ما بعده هراء ولا عبث!!!..
من جهة أخرى، تجدر الإشارة أنه، ومع هذا، فإن النفاق الموبق هو ما تعلق بمعيش الناس، حيث يسود التمويه والتتويه والتزوير والتدليس والتزلف والتسلق... وهو غالبا ذو بيئة سياسية أو إدارية. ولا يخفى أن هذه الطبقات والبنيات هي وليدة المنظومة الغربية(المتهِمة) التي أوجدتها،، وتحميها. أما فيما تعلق بالاجتماع والفكر(وهو بدوره ناتج تنشئة تؤطرها الطبقة السياسية المعنية)، فأثره أخف بكثير، وإن كان النفاق ممقوتا بكل أشكاله، والصدق مطلوبا بكل ألوانه..
ومما ابتلينا به كذلك، ميل غرمائنا إلى المبادرة إلى فرزنا وتصنيفنا بين "متطرف" و"معتدل"، في كل مناسبة،، بل ومن دونها!!!..
وهنا، ناهيك عن عدم صحة تصنيف أتباع دين لأتباع دين آخر(لأنهم(المقيِّمين) لو التمسوا فيه اعتدالا لاتبعوه، وإلا فهم مكابرون لا يقبل منهم قول في الدين المقيَّم). ثم إن مفهوم التطرف يستوجب وجوبا تحديد الحيز، وكذلك موقع "المتهم" في ذلك الحيز، ليُرى هل قريب من الوسط، أم هو إلى الطرف أقرب..
أقول: ناهيك عن هذا، فإن سيلا من الأسئلة يبقى مطروحا: هل فعلا لدينا "متطرفون" وفق المعايير الموضوعية؟ وما هو أساس الحكم عليهم أنهم كذلك؟ ومن المخول بإصدار ذاك الحكم؟ وكم يمثلون حال وجودهم؟ وهل فعلا هم من يطرح المشكل؟ بمعنى: هل "الآخر" لديه مشكلة فقط مع "متطرفينا"، حتى إذا ما حددناهم وعزلناهم أو حتى "أبدناهم"، ارتفع المشكل،، ورضي عنا؟ أم أن مشكلته "معنا"،، على العنصر والعقيدة؟..
في المقابل، أليس لهذا "الآخر" "متطرفون"؟ كم يمثلون في مجتمعه ونخبته وأصحاب القرار عنده؟ كيف يتعامل معهم؟..
هنا أيضا، قد توجد نسبة من التطرف هنا وهناك.. والتي عندنا، حتى إن وُجدت، فلا سلطة لها ولا قوة.. أما متطرفوهم فهم يحكمون علانية على الكراسي الرسمية، أو متخفون في الكنائس ومراكز الدراسات وأجهزة الأمن القومي والإمبراطوريات الاقتصادية والإعلامية.. غير أن المشكل يتجسد في تمثلنا، نحن "السذج الطيبين"، الاتهامَ بـ"التطرف" ابتداء ومبادرة،، دون أن نكون في أدنى موقع مساءلة إجبارية..
المشكل في "كثرة"، بل "سيادة التطوع المجاني" لتقييم الذات من منظور محدد موجه، استدرارا لتعاطف معين،، مع أن ذاك التعاطف لن يحصل بحال..
المشكل في تبني الرؤى التي نتمثلها لدى الآخر خطبا لوده،، مع أنه لا ولن يرضى..
المشكل في التصنيف الذي يُدخل الناس الفساطيط افتراضا دون أن يكون لـ"المصنف" آلية إجرائية، حتى إذا طُلب منه وسم "المتطرف" وتحديد آليات الحكم، لا يستطيع ذلك..
المشكل في تنزيل حالة مفترضة(ربما تكون غير موجودة أصلا، أو لا اعتبار كمي لها ولا أثر) على أرض الواقع بصفتها ظاهرة سائدة ومسيطرة..
المشكل أن الأمر غير ظرفي مرتبط بحدث أو حالة معينة.. بل يريدون الوصف أن يكون هيكليا بنيويا متجذرا أصليا دائما...
يتبع..