التواصل الحكومي وأزمة تجاوز الإرث الشعبوي
محمد أزوكاغ
يمثل التواصل الحكومي أحد أهم القضايا المطروحة على ساحة النقاش السياسي الوطني في السنوات الماضية، وقد ارتفع منسوب هذا النقاش الإعلامي والسياسي خاصة مع التحولات التي عرفتها بلادنا خلال العقد الأخير.
تمثل سنة 2011 -بدون أدنى شك- منعطفا سياسيا حاسما، طبع مسار تاريخ المغرب الراهن، ذلك أن عمق التحولات التي عاشها المجتمع المغربي مع حركة 20 فبراير وما استتبعها من تعديل جوهري للدستور، أثر بشكل واضح في البنية الحزبية الوطنية وفي السلوك السياسي والإعلامي لكل الفعاليات السياسية والمدنية.
لم تأتي رياح الحركة المجتمعية للشباب المغربي والتفاعل الملكي الإيجابي معها سنة 2011 بدستور جديد ومتقدم فقط، بل فتحت الباب أمام سيادة مناخ سياسي جديد ومنفتح، قائم على مراجعة واسعة لصلاحيات مؤسسة الوزير الأول الذي تحول إلى رئيس حكومة يقود السياسة العامة ومسؤول عن التقائية السياسات العمومية.
لكن للأسف الشديد عوض أن ينخرط أول رئيس حكومة بعد دستور 2011 في تقعيد مؤسسة رئاسة الحكومة وتثبيت صلاحياتها الدستورية، ويؤول النص الدستوري تأويلا ديمقرايا وبرلمانيا يؤسس لممارسة سياسية ديمقراطية سليمة قائمة على ربط القرار السياسي والتدبيري بالتعاقد الانتخابي مع المواطنات والمواطنين، غرق الأستاذ بنكيران في تبرير سلسلة من التراجعات عن صلاحياته الدستورية، موظفا في ذلك لغة لا تستقيم وفق أي منطق، فما بالك بمنطق دستور 2011 والمناخ السياسي الوطني والإقليمي لما بعد ثورات "الربيع العربي".
لم يقتصر النهج البنكيراني على توظيف معجم "التماسيح والعفاريت" في تبرير عجزه عن مجاراة مستوى دستور 2011 فقط، بل جعل من هذا المعجم الشعبوي أسلوبا تواصليا، اعتمده داخل حزب العدالة والتنمية، وفي البرلمان، وضمن خرجاته الإعلامية، بل وحتى في مناسبات دولية ومع ضيوف المغرب الأجانب!
استغرق الأستاذ بنكيران خمس سنوات من ولايته الحكومية وهو يردد نفس اللغة الشعبوية التبريرية، حتى شعر الجميع بنوع من التخمة التواصلية ذات طابع فرجوي فج، ورغم استحسان بعض الأطراف السياسية والإعلامية لهذا الأمر، فقد تبين فيما بعد حجم الأثر السلبي الذي خلفته اللغة البنكيرانية على واقع بلدنا السياسي والمؤسساتي، بل وعلى طبيعة العلاقة التي يفترض أن تربط المسؤول الحكومي بالمواطنات والمواطنين.
لقد أسس بنكيران لسنّة سياسية سيئة في التواصل الحكومي، سنّة قائمة على الرجوع بالخطاب السياسي الوطني إلى ما دون دستور 2011 عوض التأسيس لممارسة سياسية جديدة مدفوعة بمقتضيات دستورية متقدمة، قوامها التعاقد والعقلانية والمحاسبة.
لا شك أن الجزء الأكبر مما يعبر عنه اليوم بأزمة التواصل حكومي، يُفسر بالتأثير الذي خلفه الإرث التواصلي الشعبوي للأستاذ بنكيران، ذلك أن الحديث عن وجود خصاص تواصلي في الحكومة انطلق مباشرة بعد تعيين سعد الدين العثماني رئيسا لها، وليس وليد اليوم.
من الطبيعي أن يسود الخطاب الشعبوي في بيئة ثقافية ومجتمعية مطبوعة بوعي سياسي غير-حديث، ذلك أن لغة العقل والمنطق شاقة ومكلفة، بل وتستلزم جهدا معرفيا ونفسيا كبيرا، عكس اللغة الشعبوية التبريرية التي تستهدف دغدغة عاطفة الناس وحاجاتهم الاجتماعية والاقتصادية، وتقدم للمتلقي ما يحتاج إلى سماعة لا ما عليه سماعه.
قد نفهم لحظيا حاجة المجتمع إلى لغة شعبوية تطمئن الأنفس والمخاوف في ظل ظروف وطنية صعبة اقتصاديا واجتماعية، لكن من المؤكد أنه خيار انتهازي لم ولن ينتج للوطن غير الخراب الثقافي والسيكولوجي. الأوقات الصعبة، كالتي تمر منها بلادنا ومعها كل العالم اليوم، تستلزم وجود رجال دولة يخاطبون المواطنات والمواطنين بكل مسؤولية، وبلغة تحترم عقولهم وتستهدف التأسيس لنمط فكري وثقافي يحكم العلاقة التعاقدية بين الفاعل الحزبي المساهم في صنع القرار العمومي والمجتمع.