عرافة : مرآة المدرسة المغربية المعاقة

عرافة : مرآة المدرسة المغربية المعاقة

عبد الرحيم هاشي

 

         المدرسة المغربية معاقة بكل ما تحمله كلمة الإعاقة من معنى جسدها عليل و وضعها اشبه بمن وضع في غرفة الإنعاش يستعد لعملية جراحية قد تنجح وقد لا تنجح  . فرغم  التطبيلات والتهليلات بإصلاحات  يقام لها ولا يقعد ، والتي صرفت عليها ملايير الدراهم في برامج مستوردة ،  لا نرى إلا  انتكاسات  متجددة بين كل إصلاح و أخر . ونظرا لكثرة المكتوب عن ماسي وأحزان هذه المدرسة وما ينتج عنها من إعاقات تعدي جسد المجتمع المغربي المثخن بالجراح ، وبعيدا عن التحليل الأكاديمي الجاف . أحببت أن أتناول هذا الموضوع بشكل هزلي ساخر  ممزوج بسرد وقائع  تنطلق من نموذج يعكس بعمق حالة الشلل التي وصلت إليه مدرستنا.

 

( هي مشاهد أو طرائف واقعية لكنها اقرب إلى الخيال ، قد تبدو أنها جاءت من زمن بعيد ، لكنها للأسف قد  سجلت في زمننا  ،  و لازالت تعايش عندنا في مدارس الهامش على أطراف المغرب غير النافع ، بشكل يعجز اللسان عن وصفه وكل ما نذكره غيض من فيض ...) .

****  ****  ***  ***

       عرافة ، متعلم  بالسنة الثانية ثانوي إعدادي ، ليس بينه وبين المعرفة - التي تطمح مدرسة الجودة أن تلقنها - إلا انه يحمل اسما مشابها . مدرسة النجاح بتعاون أو تواطؤ مع الخريطة المدرسية إلى هذا المستوى . ليستوي عنده كل شيء، فالسهل كالجبل . لا يهمه أن يعرف الشمال من الجنوب ما دام يحفظ الطريق المؤدية الى منزله . ذاكرته أقوى من كل أقرانه  لكنه سريع النسيان ، حيث  يستطيع التهام النصوص - ولو انه  يدغم حروفها ويلوك كلماتها ، ويتلاعب لسانه بحركات الشكل كيفما شاء و يطوعها لتناسب لسانه الأمازيغي الراطن -  كما يستظهرها عن ظهر قلب ليسبق بذلك كل زملائه ، لكنه ينساها قبل انصرام الحصة ...  ولا بأس، المهم انه قد سبقهم مرتين الأولى في الحفظ و الثانية في نسيان المحفوظ . " ذاكرتك أشبه بالغربال ، كأني أصب الماء في الرمل" ، كلما سمع هذا الكلام من أستاذه ، كلما ضحك بصوت عال حتى تبرز نواجذه . تعجبه هذه المقارنة ،  يتصور أن العقل شبيه بالغربال ، والغربال مثقوب ،  لكن لما الماء والرمل ؟ لا يحب المعادلات الرياضية .

       كم هو رائع لما يعدد أسماء الرسل والأنبياء بتلقائية لا مثيل لها ، مستعينا بأصابع يديه  حتى لا يخطئ في الحساب ، هذه التقنية التي تعلمها من جدته ، كما تعلم منها أسماء بعض الأنبياء . فهذا النبي عيسى و ذاك موسى و إبراهيم و إسماعيل عليهم السلام ، ثم كذلك  صلى الله عليه وسلم  و محمد عليه السلام  وأخر عليه الصلاة والسلام ثم عائشة ، وأخيرا النبي حوسى و قاسي ..  وكلهم "عليهم السلام". وغيرها من الأسماء الموجودة وغير الموجودة إلا في المخيلة الواسعة لعرافة . لا فرق عنده بين " حوسى وموسى" ما دامت هذه أسماءَ للمسلمين .

 

        أما عن مفهوم الزمن فلا وجود له عند عرافة إلا ذاك الذي يحيل على معنى الحياة . لا يهمه أن يعرف عدد أيام الأسبوع ما دام يميز فيها يوم السوق الأسبوعي ( سوق الخميس ) وأضاف إليه يوم الأحد الذي لا يفرض عليه فيه أن يدخل إلى قاعة الدرس التي يشبهها بالإسطبل . لا فرق عنده بين الصباح والمساء ، كما لا فرق عنده بين ساعات اليوم ، غير انه يدرك  أن الليل مخصص للنوم و النهار للعب . و يمكنه أن يسرق من النهار سويعات ينام فيها، ولو على حساب حصة دراسية، ليزيل "الإرهاق" الذي يعاني به من تعب المقعد ،  وكذلك من الإعياء الذي يشعر به بسبب كثرة الجري والقفز.  لكن عرافة لا يحب العطلة ، لأنها  تعني بالنسبة إليه أن يغادر الداخلية ، ليبدأ قصة أخرى من قصص معاناته مع زوجة الأب ومع الأب نفسه ، ولا يجد في بيته المعاملة التفضيلية التي يعامل بها في المؤسسة من طرف أساتذته ومؤطريه  ، كما أن والده لا يدعه ينعم بفترة من الراحة ، فهو في صراخ دائم مع زوجته أو قطيعه ، إلا إذا كان منشغلا مع "الشقوفة "  أو " الماحيا " التي ينفق فيها ماله أكثر مما ينفقه على أبنائه .

       كلما غضب أستاذه  و" تنرفز" لما نسيه التلاميذ أو لما لا يراجعون دروسهم ، و يسود صمت مخيف في القاعة يسمع على إثره طنين الذبابة  ، تبدأ عملية العقاب الجماعي صفا صفا  ، وتلميذا تلميذا لتصريف الغضب . ولا يكف الأستاذ عن ضربهم إلا حينما يتأكد أنهم راضون بالحصة التي غنموها في هذا الصباح البارد . يشعر المعلم بالملل أمام هذا الصمت ، كما يشعر بالأسى والأسف ، وفي داخله شفقة على الصبية الذين لا يدرك عظمهم ما مصيره ، يحس بالمرارة تجاه الأوضاع المزرية التي يعيشون فيها ، لكنه لا يملك أمامهم حيلة .  وليستعيد  المعلم ابتسامته المزيفة ويتخلى عن "تعبيسته" يبحث عن موقع عرافة ، الذي لازال ينفخ في يديه " ليبردهما"  ، ويلقي إليه أسئلة أجوبتها عند عرافة " لعلك ترضى ":

-         عرافة : ما هي اكبر دولة في إفريقيا ؟

-         .. وبما انه يضبط دروسه يجيب عرافة  من دون تردد : " زنباغو "...

تتوالى الأسئلة والتلاميذ ينفجرون ضحكا ، والمعلم لا يكترث بهم  .. وعرافة فرح الى درجة الهستيريا  ..

-         ثم ما الثانية ؟

-  " زنبابو" ..

-        والثالثة ..

-       غونزابي ...

هي أسماء لأكبر الدول الإفريقية إذن، لعلها من الدول التي ظهرت حديثا وقد تشارك مستقبلا في كاس إفريقيا . يصفق التلاميذ بحرارة على عرافة قبل أن تتقاطر عليه الأسئلة من جديد . فهو يميز بين كل دول العالم .لا يهمه إن لم تعرف أنت اسم الدولة أو اسم العاصمة ، المهم هو أن تسمع الإجابة ولو تكررت أكثر من مرة.

-       وفي أي قارة تقع هذه الدول  ..

-       يجيب دون تردد :  في شبه الجزيرة العربية ...

يشجعه المعلم بل ، ويضع يده في يده يشد عليها و يصافحه بقوة ، ثم يربت على كتفه ويقول له :

   -  أنت الوحيد الذي تفهمني في هذا القسم ، بل في العالم أسره .. كثيرا ما " توفج " علي .

       ترى ما الفرق بين عالم المعلم وعالم عرافة ؟ أليست المعرفة هي التي تصنع الفرق بينها ؟ على الأقل عرافة يعرف كل شي حوله ، يعرف عالمه ، يضبط أسماء أصدقائه وزملائه في القسم ، ولا يفلت منهم اسما واحدا ، متفوق حتى على أستاذه  الذي  طالما اتهمهم بضعف الذاكرة، رغم انه لا يتذكر سوى خمسة أو ستة أسماء من تلامذته  .عرافة لا يريد أن  يخبر  المعلم  بذلك ،  فهو خائف أو محرج ، كما أن جدته علمته أن يحترم الكبار ...

       العالم عند عرافة محدود لا يتعدى الأفق . المجال الجغرافي عنده يتمثل في المدرسة والوادي والمدينة حيث سوق الخميس الأسبوعي  ثم الجبل... أما ما وراء ذلك فيدخل ضمن المجهول ، وجوده افتراضي أو محل شكوك  . أما التاريخ هو كل ما يستطيع أن يحكيه عن ماضيه في هذا المجال ، واكتشافاته الحديثة  المهولة في هذا الفضاء الزمكاني الرحب : التلفاز ، السيارة ، الصنبور الذي تمنى لو كان عندهم واحد في المنزل لكف عنه عناء التنقل لجلب الماء من البئر في أسفل السفح عند قدم الجبل  ، الحمام الذي اكتشفه مؤخرا .... أما عن مالي وثوارها و فلسطين و انتفاضاتها  أو المغرب و بن كيران  ... أشبه عنده بحكايات " الغول"  و "ماما غولا " ، وغيرهما من الكائنات الخرافية التي تعود أن تحكيها له جدته في منزلها  بإتقان كما تحكي له كذلك  قصص الأنبياء . هذه الحكايات والقصص التي يحاول المعلم أن يحاكي نسجها  في القسم من دون نتيجة . جدته أفضل كذلك من المعلم . تستطيع أن تشد انتباهه لساعة من الزمن دون أن يتحرك من مجلسه أو حتى يغالبه النعاس ويستيقظ في اليوم التالي متشوقا للحصة الموالية ، عفوا للحكاية التالية  . أما المعلم فيكثر من الصراخ والضرب على السبورة أو على الأيادي الصغيرة دون أن يفهم عرافة حتى لماذا يضربهم . هكذا كتب لعرافة أن يعيش في عالم يفرض عليه حدوده .

       يتساءل على الدوام ، لماذا ينسى ترهات المعلم ولا ينسى حكايات الجدة. لابد أن في الأمر سر لا يفهمه إلا نعمان  ، زميله في القسم ، الذي يطير كالنحلة بكثرة "سذسذاته " كلما سمع سؤالا. لكن نعمان لا يكلمه ، لا يهتم به  ، يكلم فقط بنات قسمه اللواتي يَحُمنَ حوله . نعمان يريد أن يصبح أستاذا مثل معلمه ، أما عرافة فيكره ذلك ، لكنه لا يعرف ماذا يريد أن يصبح ، يريد فقط أن يكبر ليستطيع أن يدخن بدون خوف وان يشرب من "ماء الحياة" جرعا تعوضه عن المرارة  التي تسقيه الحياة منها الآن  .

             لا فرق عنده بين الرسوم المتحركة والأفلام مادام لا يفهم أيا منهما ، ومادام يرى الأشخاص فيهما  بنفس الحجم .فالأبعاد لا يمكنه أن يتصورها ، يقف الى جوار التلفاز و يقيس بكم يكبر من يوجد داخله ، يشك أنهم أقزام  ، وما يتأكد منه هو أن الأرض اكبر من الشمس ، والشمس تدور حول الأرض . والقمر، مثلنا ، يولد ويكبر ويموت ...أما ما يقوله " مول الاجتماعيات " فهي خرافات تجانب المنطق  ، وما يردده ضرب من الجنون ، لذلك لا ينصت له  .

         وعودة إلى الضرب، فالضرب وجدول الضرب عند عرافة سيان، وعمليات الضرب "حساب"  كما أن الضرب أو العقاب "جبر وهندسة " . فكلما هم المعلم بعقابه يهندس أين ستستقر الضربة ، ليحاول أن يفلت منها  ، أو على الأقل أن يغير من مكانها مع الصفعة القادمة . أما عن عمليات الضرب فيضرب فيها الأخماس في الأسداس :

- المعلم :  سبعة في ثلاثة ؟

- عرافة :    ثلاثة عشر ..

-  المعلم : لا ، سبعة في ثلاثة تساوي واحد وعشرون  ...  وثلاثة في سبعة .. ؟

-  عرافة   : سبعة عشر ، تسعة ، أربعة وثلاثون ..

-  المعلم : اذكر جوابا واحدا لقد ذكرناه قبل قليل ..

     - عرافة :   واحد وخمسون ... ( يضحك المعلم )  لا اعرف .. لا استطيع أن أجيب .. ( يستسلم يقر بفشله مبتسما ) ..

-  هذا ليس ذنبك يا عرافة ...انه ذنب " مدرسة  النجاح "  المتعثرة والفاشلة  .

****   ****  ****   ****  ****

         كل ما سبق هي وقائع مأخوذة من إحدى فصول المدرسة المغربية  حينما تصنع العبقرية والتفرد .  طبعا لان المناهج التي تعدها وزارتنا "متوائمة " مع كل الفئات الاجتماعية تحترم خصوصيات المناطق والجهات ، وتأخذ بعين الاعتبار ذوي الحاجات الخاصة في إطار " تربية خاصة " . أزمة المدرسة المغربية بنيوية ، بالقدر الذي يجعل تعليمها  مشلولا ويعاني من حاجات خاصة. فبين السياسات التعليمية المعتمدة على المناهج المتقادمة وطغيان العشوائية والارتجالية ... فان المستوى الدراسي في تدن مستمر . المدرسة المغربية نتاج سياسة متداخلة لا تأخذ بعين الاعتبار أهمية التنمية البشرية  ، فتستمر مآسيها وأحزانها  وتنعكس سلبا على القطاعات الأخرى . ومن اكبر الأمراض التي تنخر جسم هذه المدرسة وتدق أخر مسمار في نعشها ، ما يسمى عبثا بالخريطة المدرسية . لذا لا غرابة أن نجد مؤسساتنا التعليمية عامرة بآلاف الأطفال الذين يعانون من حاجات خاصة في المراحل النهائية للإعدادي ، حيث يتم " إعادة إنتاج الأمية " .

*******

  ملاحظة : كتبت هذه الكلمات قبل عامين ، حيث كان عرافة تلميذا في مؤسستنا .. عرافة غادر المدرسة قبل سنة ، بعد أن استوفى كل شروطه القانونية .. هو الآن في سوق الخميس يبيع " الكلية lgualya  " ، كما أصبح يتعاطى للسجائر و لأصناف من المخدرات ... لكن ليس ذنبه ، إنما هو ذنب الأسرة و المجتمع الذي لا يرحم والدولة .

 

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة