تساؤلات حول النظم السياسية3: أزمة الديمقراطية العددية2

تساؤلات حول النظم السياسية3: أزمة الديمقراطية العددية2

سعيد المودني

وبالعودة إلى الإسراف في الأجهزة، فقد لا يرى الرائي ما هي الشرعية النظرية لوجود كل هذا التضخم من كل هذه المؤسسات، والتي يفترض أن يقوم أحدها مقام الآخر، ما دام يفترض(مرة أخرى) أنها تمثل إرادة المواطن،، وهي إرادة واحدة. وإلا كيف يختار المواطن اختيارين متعارضين: يختار برنامج حزب(مثلا)، ويختار معارضة نقابة(مثلا أيضا) لنفس البرنامج!!!..

ربما يكون الإفراط في فرز المؤسسات الرقابية ضروريا، في حالة كان الحاكم ثابتا، لا يتم استبداله، لأنه لا يمكن إطلاق يد أحد في التصرف في مصائر الناس ومقدراتهم، دون حسيب ولا رقيب.. أما في حالة "الديمقراطيات" فلا يجب أن تصبح وسيلة عرقلة وتصفية حسابات سياسوية، لأن الجهات المنفذة بدورها هي نتيجة الاختيار الشعبي..

أما في بلدان "المليون حزب"، فيضاف إلى هذا الخلل البنيوي في النظرية الديمقراطية من الأساس، تضاف إلى ذلك التوافقات والتحالفات، الناتجة عن بدعة "حزب لكل مواطن"، التي اخترعتها الأنظمة المستبدة، وبلقنت بها كل المشاهد، وفي جميع المستويات، وعلى جميع الأصعدة..

معلوم أن الهاجس من هذا هو تشديد الرقابة، حرصا على مصالح الناس وممتلكاتهم من غدر الغادر الذي قد يصعد سلم الديمقراطية، ثم يسحبه، ويسحب معه كل ما للناس.. وهو هاجس معقول ومحمود.. لكنه لا يؤدي المراد، وأعراضه الجانبية أفدح.. لذا، ربما يجب استمرار البحث عن صيغة أو وصفة تحفظ مكتسب الحاضر، لكنها لا تكبل التغيير المنشود في المستقبل..

كان هذا(بمستوييْه المذكورين) يخص الجانب النظري لمفهوم الديمقراطية المتداول، والذي، لو وُجد بالفعل، وبهذه العلات، فإن كل هذه الأزمات والتناقضات لم تكن لتتجاوز منزلة الشوائب التي تعلق بأي جسم، أو، وفي أقبح الأحوال، دنسا قذرا لوث جسد الديمقراطية "الطاهر".. والحال أن المفهوم برمته لا يعدو شكلا شكليا يغمره الشك، لا يدير غير دفة اللعبة الظاهرة، في أشرف الحالات، بدليل جمود ورتابة البرامج الانتخابية، والثبات التام، والمستمر في الزمن، في جل الاختيارات، وهذا لدى جل شعوب العالم، بما فيها شعوب "الديمقراطيات الحقيقية" أو "الديمقراطيات العريقة"، بما يناقض احتمال وإمكانية حدوث أي اختيار راديكالي، أو حتى وازن. وكأن الشعوب استنساخ لأسلافها، لا تغير رأيا، ولا تبدل خيارا، ولا تستعيض عن قناعة، ولا تعدل عن اختيار،، هذا مع وجود أحزاب ومنظمات متناقضة في الفكر والمذهب...، ومع وصولها إلى السلطة على أنقاض نقيضها، لكن دون أدنى تغيير في ما تدعيه من خلاف، لأن الثابت ثابت في هذه الأنظمة "الديمقراطية"، تماما كما هو مترسخ في تلك النظم الشمولية والوراثية،، فإذا ما قامت ثورة، مثلا، بدّل الناس اختياراتهم الشخصية، ونظمهم الاقتصادية، ومذاهبهم الدينية... وقلبوها رأسا على عقب،، والناس هم الناس أنفسهم، الجامدون طيلة عقود "الاستشارات الديمقراطية"، والحق أنهم لم يكونوا جامدين بملء إرادتهم، وإنما لم يكن هناك خيار،، بل كان هناك "حرس قديم" يحمي الاختيارات الكبرى، ويمنع تغييرها ولو أراد الناس. فلما أتيحت الفرصة للناس غيروا.. وهذا ينافي الحرية المطلقة المكفولة في الديمقراطيات، كما يتم ترويج ذلك!!!..

إن ثبات هذه الاختيارات إلى هذه الدرجة من الجمود، ولهذه المدد الزمنية الطويلة، يعني أنه ليس هناك لا تنوع ولا اختيار، بل "الدولة العميقة" هي التي تسيطر على "النظام" في كل بلدان المعمور، كل في دولته، وتضمن استمراره، وتحرس وتدافع عن القيم والاختيارات والخيارات الثابتة التي ترتضيها، أيا كانت رغبة الناس الفردية..

والحق أنه لا عيب في الأمر من حيث المبدأ، ما دامت المسألة عامة، ثم ما دامت كل "أمة" تسعى للحفاظ على قيمها كما ارتضاها أسلافها.. وإنما الغضاضة في ادعاء غير الحقيقة، كما هو الشأن بمن يدعي إخضاع كل شيء لإمكانية التغيير، إذا ما رغب الناس، والواقع أن لهم من يحميهم من ذلك، ولا يسمح إلا بقدر يسير من الاختلاف..

ومن "حالات" الدولة العميقة ذلك الامتداد الكنسي المسيحي الذي ينتابه الرعب من تغير اتجاه وتوجه و"مزاج" الفرنسيين في فرنسا، مثلا.. ومنها أيضا ما اصطلح عليه بـ"أهل الحل والعقد" عند المسلمين، والذي شكل "نخبة انتخابية" جديرة باستئمانها على مصالح الأمة العليا..

يتبع..

 

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة