الاعتراف الإسرائيلي من منظور يساري
لحسن الجيت
الاعتراف الإسرائيلي بمغربية الصحراء أثار اهتماما كبيرا على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي. وقد سجل ذلك إجماع المغاربة على أهمية هذا الاعتراف باعتباره مكسبا يضاف إلى سلسلة المكاسب التي حققتها الدبلوماسية الملكية في السنين الأخيرة. فكان ذلك ابتهاجا لكافة المغاربة وفخرا واعتزازا لهم بحكمة وتبصر ملك عرف كيف يسجل تحولات نوعية في مسار قضيتنا الوطنية. لكنه في حمأة هذه المكاسب نجد من هو بيننا قد تملكته مشاعر من الامتعاض ولا يتردد من هول هذا الاعتراف الذي وقع عليه كالصاعقة ليخرج بتصريحات أقل ما يقال فيها أنها تقلل من أهمية هذا المكسب. تيار اليسار في بلادنا كان واحدا من تلك الأطراف المعزولة التي لم تستطع أن تستوعب القرار الصائب والمتبصر الذي أقدمت عليه دولة إسرائيل.
في مقدمة هؤلاء اليساريين نجد السيدة نبيلة منيب التي لم تقف عند حدود معارضتها للاعتراف الإسرائيلي بعد أن اعتبرت أن المغرب والمغاربة ليسوا بحاجة إلى هذا الاعتراف. قد عبرت عن هذا الموقف تحت قبة البرلمان في تعقيب لها على التوضيحات التي أدلى بها السيد ناصر بوريطة أمام لجنة الشؤون الخارجية. وادعت النائبة المحترمة ذات التوجه اللائكي واليساري أن "للبيت رب يحميه" في إشارة منها أن المغرب فيما لو تعرض لخطر الحرب فهناك طير أبابيل قد ترمي العدو بالحجارة. قد أتفهم ذلك فيما لو صدر هكذا تصريح من رجل دين أو غيره من أتباع التيار الإسلامي، لكن أن يأتي على لسان شخص أخذت منه اللائكية مأخذا عظيما فهو أمر مثير للاستغراب كما هو مثير للسخرية. والإشكال في هذه المنظومة الفكرية غير المتجانسة أننا لم نعد نعرف من أي منطلق ينطلقون وعن أي بيت يتحدثون وعلى أي رب يرتكزون بعد أن أصبح هناك اختلال في المفاهيم وما قد يترتب عن ذلك من صعوبة في الفهم والإدراك والوقوف على النوايا.
نفس التوجه يتم اجتراره في خرجة إعلامية معزولة لم نكن نحسب لها حسابا للسيد أنيس بلفريج الذي لا يسجل له حضور يذكر في المشهد السياسي. وحينما نطق الرجل تقيأ ما في أحشائه من مخلفات الحرب الباردة في مقال له يثير علامات استفهام كبرى حول المنطلقات وحول النوايا المبيتة. في هذا المقال كما نقلته وسائل التواصل الاجتماعي ، يتناول فيه العديد من المغالطات في موضوع الاعتراف الإسرائيلي بمغربية الصحراء، ويتخذ من ذلك مطية ليهاجم الخيارات الاستراتيجية للمغرب القائمة على بناء تحالفات وازنة ومتوازنة.
1 ـ يعتقد السيد أنيس بلفريج أن الدعم والسند لقضيتنا الوطنية يقتضي تقوية الجبهة الداخلية ويدعو في سياق ذلك إلى الانفتاح السياسي وإلى فصل السلط وإشاعة مبادئ الديمقراطية من حرية التعبير وغيرها. نقول من حيث المبدإ لا يمكن أن نختلف في ما جنحت إليه لكن الصورة تحاول التي تروجها عن المغرب وكأننا في بلد ديكتاتوري وفي نظام شمولي. والدليل على عكس ما تدعيه أن المغرب لو كان كما يتهيأ لك لما كان مقالك اليوم يتناقل بهذا الشكل عبر وسائط التواصل الاجتماعي. مقال يطنب في المغالطات ولا أحد يسائلك. كما هو الحال بالنسبة للسيدة نبيلة منيب التي تنتحل من الأكاذيب في حق المغرب ما قد يعرضها للمحاكمات، وبالرغم من ذلك فهي حرة طليقة. وهناك ما هو أقل بكثير من تصريحات المعارضين عند الجيران يتعرض أصحابها للاعتقالات من دون أية محاكمة. ولأنكم تؤازرون نظام الثكنات تسكتون عن زلاته وعن خروقاته بل أكثر من ذلك تتبنون أطروحاته المناوئة لوطنكم.
وإذا كان انشغالكم بتقوية الجبهة الداخلية كما تزعمون، فهذا الأمر لا يجب أن يمنعكم عن الدفاع عن مصالح بلدكم وفي مقدمتها القضية الوطنية فهي بحاجة إلى جبهة متماسكة ولا مبرر للتخلي عن وطنيتكم وعن مسؤولياتكم في الدفاع عنها أو التصدي للمؤامرات بحجة أنه ليس هناك فصل السلط ولا حرية التعبير ولا انتخابات حرة. فالوطن أولى من كل حسابات سياسوية حينما يكون هناك خطر يداهمك على مدى خمسة عقود.
2 ـ من بين المغالطات التي تضمنها مقالكم أيضا هو التقليل من أهمية مبادرة الحكم الذاتي إلى حد التشكيك في جدواها وفعاليتها التي تقدم بها المغرب إلى مجلس الأمن الدولي عام 2007 . وعلى عكس ما تدعون باتت هذه المبادرة واسطة العقد في كل المقررات التي تبناها مجلس الأمن الدولي، هذا المجلس الذي استبعد كليا من قاموسه كل ما يتعلق بالاستفتاء وبتقرير المصير. وبات الحل الواقعي للنزاع المفتعل هو الحل السياسي الذي تنص عليه المبادرة المغربية. وهي المبادرة التي أصبحت تختزل كل الشرعية الدولية.
يبدو أن هذه التطورات الهامة على مستوى مجلس الأمن لم تعد تعنيكم في شيء بل تحاولون عبثا إفراغها من محتواها من خلال ما ورد في مقالكم من تقسيم مواقف الدول إلى ثلاث مجموعات: دول تدعم المبادرة، ودول تتأرجح ما بين المبادرة والحل السياسي عن طريق الأمم المتحدة، ودول مساندة للاستفتاء وتقرير المصير. الظاهر أنكم وضعتم هذه المواقف كلها على درجة واحدة من التساوي وهو أمر يفنده الواقع. لكن في جميع الأحوال مجلس الأمن الدولي هو سيد نفسه وهو الذي يمثل الشرعية الدولية كما هو الماسك بالملف، أما الدخول في هذه التصنيفات فهي عبارة عن ترهات جادت بها قريحتكم إلى حد أنكم أنكرتم الاعتراف الإسرائيلي وحملكم هذا الإنكار إلى إدخال إسرائيل في خانة المجموعة الثالثة التي تدعو إلى الاستفتاء رغم استعداد تل أبيب كما أعلنت أنها ستقوم بافتتاح قنصلية لها في الداخلة.
فكيف لا تعتدون بهذه الشرعية الدولية في الدفاع عن قضيتكم الوطنية، وتستحضرون ذات الشرعية بالنسبة للقضية الفلسطينية في الدفاع عنها. لعلكم تكيلون بمكيالين.
3 ـ أما عن تشكيكم في مدى قدرة إسرائيل على التأثير على مواقف بعض دول العالم وخاصة الدول الإفريقية لتغيير مواقفها من القضية الوطنية تماثلا مع القرار الإسرائيلي. ففي اعتقادي أن هذا التشكيك لا يؤكده الواقع. وذهبتم إلى أبعد من ذلك بالقول أن الاعتراف الإسرائيلي قد يضر بالمغرب وقد يعطي انطباعا سيئا ويضع بلادنا في خانة المحتل كما تحتل إسرائيل فلسطين. مقاربة لا أساس أساس لها من الصحة، فإسرائيل، على عكس ما تزعمون، لها علاقات وطيدة مع مختلف دول العالم ولها تأثيرها ووزنها عند العديد من الدول الإفريقية. وما يتهيأ لكم هو عبارة عن إسقاطات شخصية كبرت فيكم من عهد الحرب الباردة. فالعالم تغير وأصبح مبنيا على المصالح المتبادلة. ومن أراد أن يفهم عليه أن يستيقظ من سباته وان يتحرر من مخلفات الماضي. وفي جميع الأحوال أن مسلسل الاعترافات لن يتوقف. فنحن من حيث المبدإ في أمس الحاجة لأي اعتراف ولو من جزيرة الوقواق فما بالك إن كان من دول وازنة وليس فقط من دولة إسرائيل وحدها.
وفي السياق ذاته، ذهبتم فيما ذهبت إليه السيدة نبيلة منيب وهو أن إسرائيل لسنا بحاجة إليها ولا يمكن أن تقدم إضافة جديدة لا لملف قضيتنا الوطنية ولا للعلاقات الثنائية مع تل أبيب. أعتقد أن قراءتكما هي قراءة فيها نوع من التحامل ومحكومة بأفكار مسبقة وبعيدة كل الواقع الذي نعاينه. ولذلك وجب علينا أن نكون على بينة من الوضع الذي كنا فيه ما قبل التوقيع على الاتفاق الثلاثي وما بعده. مباشرة بعد أحداث الكركرات كانت الجارة الشرقية تتربص ببلادنا في حرب ضروس وكانت على أهبة لفتح النيران في مجازفة لم يكن جيراننا يحسبون لها الحساب اللازم. لكن ما بعد ذلك تغيرت المعادلة وحملت خصوم وحدتنا الترابية على مراجعة حساباتهم وبات واضحا لديهم أن الحرب لن تكون نزهة فسوف يكتوون بنارها بعد أن ازدادت قوة المغرب بفضل تحالفاته الجديدة التي أمنتها بلادنا للدفاع عن نفسها فقط لا كما يروج له إعلام الخصوم ولا كما يتبناه بعض شركائنا في الوطن. ولعل مقالك سيدي يتضمن تلميحات تفيد أن استقدام المغرب لإسرائيل قد يكون السبب في إشعال حرب مع الجزائر. وقد حاولتم التستر على ما يقارب من خمسة عقود من العداء الدفين للنظام الجزائري تجاه المغرب.
4 ـ لقد تبين أن قراءتكم كما جاءت في مقالكم لم تكن موفقة وكانت تعوزها النظرة الثاقبة حينما اعتبرتم أن كل نظام تحالف مع إسرائيل لم يكن يؤمن الحماية لنفسه، واستشهدتم في ذلك بنظام شاه إيران. وهنا أخلفتم الموعد مع الحكمة والتبصر بدليل أن إسرائيل ليس من مهامها أن تحمي الأنظمة فالأنظمة محمية بشعوبها وبخياراتها الاستراتيجية الوطنية في المقام الأول والإقليمية والدولية في المقام الثاني. وأن المغرب ليس من طينة الدول التي تحدثت عنها فالمغفور له الحسن الثاني كان دائما ينصح شاه لإيران بالانفتاح السياسي وبإطلاق مسلسل الحريات والتعددية وإشاعة مبادئ الديمقراطية مع مراعاة خصوصيات المجتمع. ولذلك لا ينبغي وضع المغرب في خانة تلك الدول التي أتيت على ذكرها .
5 ـ وبخصوص الحروب التي تحدثت عنها فهي حروب سجلت توالي الهزائم العرب وليس العكس الذي تدعيه بعد أن حولت الهزيمة إلى انتصار. وهنا لست مدافعا عن إسرائيل. فالواقع يتحدث عن نفسه ولا يحتاجني كي أجده له مبررات.
حرب إسرائيل مع حزب الشيطان التي دارت رحاها في لبنان عام 2006 كنت فيها شاهد عيان. عشت 33 يوما بلياليها تحت القصف الإسرائيلي للضاحية الجنوبية ببيروت . لقد كلفت هذه الحرب نزوح مليونين من اللبنانيين هاجروا مساكنهم، منهم من فر إلى شمال لبنان ومنهم من لجأ إلى سوريا. لقد دمرت هذه الحرب البنية التحتية في المناطق الشيعية جنوب لبنان. وتكبد هذا البلد الصغير خسائر فادحة بلغت إلى حدود 15 مليار دولار.
وبعد انتهاء الحرب قمنا بزيارة الضاحية الجنوبية معقل حزب الشيطان وهي لا تبعد عن مقر السفارة المغربية بمسافة على مرمى حجر. وقفنا على مشهد مرعب وكأن زلزالا ضرب الضاحية ب 10 درجات حسب سلم ريشتر. وبالرغم من حجم الخسائر الفادحة التي تكبدها لبنان خرج حسن نصر الله ليعلن بأن حزبه قد ألحق هزيمة نكراء بإسرائيل ووصف ذلك "بالنصر الإلهي". واليوم أراكم تسجلون هذه الحرب من ضمن الانتصارات المحققة على إسرائيل بينما النتائج تشير إلى عكس ذلك بعد أن اضطر حزب الشيطان على الموافقة على إنهاء الحرب بموجب قرار صدر عن مجلس الأمن الدولي تحت عدد 701 أجبر ميليشيات حسن نصر الله إلى الرحيل عن خطوط التماس التي تؤمنها قوات "اليونيفيل" والانسحاب إلى شمال نهر الليطاني.
إجمالا المغرب لا يراهن على أي اعتراف كما لا يستهين به، بقدر ما يراهن على إمكانياته وعلى رجالاته وعلى دبلوماسية ملكية غيرت المعادلات وأسقطت كل طابوهات العلاقات بين الدول. المغرب هو بلد التحديات كما هو بلد المفاجئات والمعجزات، تاريخه يشهد عن ذلك كما هو حاضره وكما هو مستقبله. بلد قائم على التعايش والتسامح لكنه لا يفرط في الثوابت من حيث الحفاظ على المفاهيم والقيم الإنسانية التي هي نقطة ارتكاز قوته. واليوم أجبر المغرب العالم بأسره لكي يتبنى توصية أممية لمحاربة الكراهية والعنف والدفاع عن القيم والمبادئء السمحة لديننا الحنيف. إنها دبلوماسية ملك.