في موعد الامتحان
شهيد ابوالعزم
في كل موعد امتحان، وفي كل محطة تقويمية، تتجدد نفس الأسئلة، وتطرح نفس الإشكاليات، وكلها أو جلها تتمحور حول عقم المنهاج التربوي في تحقيق الكفايات المنشودة ، وحول القصور الوظيفي للمؤسسة التربوية بشكل عام.وحول تراجع دورها في مد الناشئة بأسلحة التحصين القيمية والمعرفية المرجوة . فينفلت نور التفاؤل في القراءات الاستشرافية، ويزداد المشهد حلوكا وتبتعد كوة النفق ابتعادا.وتشرع دائرة المجهول في الاتساع.
فمن خلال اطلاعنا على عينات مختلفة من أجوبة المتعلمين، ومن خلال استقراء بسيط لآراء الزملاء والزميلات خصوصا هؤلاء الذين يحملون هم القضية التعليمية ومآلات مراميها، يبدو أن فلذات أكبادنا لا تزال تعاني من نفس الأسقام ، ولاتزال تنتج نفس الأخطاء بنفس الطرق الخاطئة وبنفس المبررات غير المبأرة على أسس موضوعية وواقعية. ولاتزال سفينتها جانحة في كبد المحيط.وبصفتنا ممارسين تربويين، وبحكم المسؤولية الملقاة على عاتقنا كان لزاما علينا أن نرمي بحبالنا المتواضعة أو على الأقل التلويح بملاحظات للتقاسم والاغناء:
1- فمهما تعددت البدع الديداكتيكية ومهما تلونت المحاولات البيداغوجية َ، تظل الكفاية اللغوية العمود الفقري لكل العمليات التعليمية التعلمية. والتمكن منها أو عدمه العنصر الحاسم في المسار الدراسي للطلاب والمتعلمين. ومن تملك ناصيتها فقد قطع أشواطا مهمة في تسلق الدرج. وانزاح انزياحا عظيما نحو مصاف النخبة المميزة. فبفضل التمكن من الكفاية اللغوية يتيسر الفهم والتركيب والتطبيق والتحليل وكل المراقي الممكنة.
لذلك وجب العناية بها عناية تليق وحجمها. وإعادة النظر في الحيز الزمني والمكاني المخصص لاكتسابها. والاستراتيجيات والأساليب الديداكتيكية المعينة على ترسيخها. والقطع مع الممارسات المضرة بها سواء كانت تقليدية أو حديثة والاستناد الى أهل الاختصاص من اكاديميين وباحثين والارتكاز الى مرجعيات علمية حقيقية. والابتعاد عن السجالات الشعبوية العقيمة في هذا الباب.
2- وما يرتبط بالعنصر الأول ارتباطا وثيقا، هو تنمية الخيال عند المتعلم. هذا العنصر الذي تعرض لشتى أنواع التنكيل من طرف الصورة القادمة من مختلف زوايا الزحف التكنولوجي. فضاع الإبداع وانكمش الابتكار. فتم تنميط وقولبة الأفكار. وندُر التفرد والتميز والأسلوب الشخصي. وانتفت أصالة الإنتاج . وبات التفكير خارج الصندوق محكوما عليه بالخروج عن النص.
وتعتبر القراءة الحرة، غير المقيدة لا بتلخيصات تكبيلية، ولا بتقييدات كلاسيكية ،السبيل الأميز للنفخ في روح الخيال وبعث الحياة فيه. ولعل أفضل قراءة هي ما يختاره الطفل لنفسه من كتب وقصص تعكس اهتماماته وميولاته ويجد فيها ضالته. حيث يحمله بساطه الحالم إلى مرسمه الغني ليحلق فيه بين الألوان والشخصيات المفضلة. فيخلق بريشته لوحات، ويصنع ديكورات تكون أفضل وعاء لإنبات شخصيته وتنميتها.
ولهذا فضْلٌ عرضاني ينسحب على باقي المواد.
3- ففي مادة الرياضيات بالخصوص ،أصبح المتعلم يجد صعوبات جمة في إنجاز التقنيات الاعتيادية البسيطة،ولايزال في صراع مع تمارين أو أنشطة كانت إلى عهد قريب تعتبر من البدائيات. وحتى النقاش الدائر بين ذوي الاختصاص نقاش سطحي منسحب إلى هذه المهارة أو دونها،أو متوقف عند هذه التقنية أو تلك متناسين أن الآلة الحاسبة أو الحاسوب قد يقوم مقام الإنسان في أحايين كثيرة.
لكن النقاش الحقيقي يجب أن يمتد إلى أبعد من ذلك بالسبر في أغوار ما هو ميتا معرفي، وكيفية بناء استراتيجيات التفكير السليم وتنمية المدارك المنهجية الكفيلة بالوصول الى الحل. كما يجب أن تتوسع دائرة النقاش إلى ضرورة ضبط المفاهيم ضبطا صارما. ورسم الحدود بخط واضح بين المصطلحات.وتضييق دائرة التأويلات. مما يسهل إمكانية ترويض المطلوب مهما بلغت درجة صعوبته بكل ثقة. والتحلي بذلك التصور الجشطلتي الذي يرفع مكانة الطريقة على حساب النتيجة.وأن اللذة تكمن في المكافأة الذاتية بعد بدل مجهود معين.
كما يجب أن يعلم الممارس التربوي أن الانتصار لطريقة مهما بلغت وجاهتها العلمية والاعتراض على أخرى مهما حوت من أخطاء ،والتشبت بثقافة (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) يسجن الإبداع ويقولب التفكير.وفي المحصلة، جيل يقتل ذاته كي يقتات على مساعدات الآخرين. ولايرى حرجا في الاتصال بأرقام النجدة في كل حين، وإن أشكلت عليه مسألة بسيطة جدا .
4- أمور كانت ستعالج لو خصصنا جهدا كبيرا للمنطلق على حساب خط الوصول.فبدل الانكباب على ساعات الدعم المؤسسي وغير المؤسسي، كان من الأفيد أن يخصص كل هذا الجهد لفترات اكتساب الموارد وترسيخها بالشكل الصحيح والسليم.وفق صيغ تأخد بعين الاعتبار خصوصيات متعلم اليوم. الذي فقد تركيزه وشرد ذهنه شرودا مرضيا. ونخرت جسيمه المواد المسرطنة. وتكالب عليه ضعف الوعي الأسري. وحاصرته النماذج المشوهة. فصارت كل الطرق المشروعة وغير المشروعة تؤذي إلى هذه "الروما" الفقاعية. حيث الربح السريع والمجد المزيف.
ولتوقيف المشهد التراجيدي الذي يتكرر سنويا على ركح الإمتحان، باعتباره لحظة مهمة لتقييم منظومة برمتها، كان لزاما توفير هذا الجهد الكبير في دعم المتعثرين (رغم ايجابياته المحمودة) وتوجيه بوصلته نحو البحث عن أسباب التفريخ السنوي لأعداد كبيرة من هذه الفئة. فالطبيب الكفؤ لا يصف مسكنات الألم بقدر ما يفتش عن مصدر المرض ليستأصله من جذوره.وقديما قال حكماء المغرب:(مالو طاح.. راه اخرج من الدار مايل).