الطفل العربي يهجر "خير جليس" كما هجرت بلاد العجائب أليس

الطفل العربي يهجر "خير جليس" كما هجرت بلاد العجائب أليس

أجدور عبد اللطيف

لا يختلف اثنان أن الطفولة من أكثر مراحل العمر حساسية، وأن ذاكرة الإنسان خلال تلك الفترة جبارة، ولا شك أن المشاهدات والمعاينات والتجارب التي تعرض للطفل، تشكل ما يصير عليه، عندما يشتد عوده.

إن إحدى أعظم التجارب التي تحصلت لي وأنا طفل غض، وبلا شك فتحت لي أبواب مسار الكتابة الذي أسير فيه الآن، هي ذكرى يوم جميل في المستوى الخامس ابتدائي، عندما أحدث المعلم مكتبة صفية، وبدأ بتوزيع قصص مختلفة علينا دوريا كل سبت، من أجل قراءتها وإعداد ملخص عنها، ومناقشته مع الزملاء.

أذكر أن قصة "أليس في بلاد العجائب"، الشهيرة، التي تحولت لعمل سينمائي وفيلم كرتون. كانت اول قصة تمنح لي، وربما من أول الكتب التي أقرؤها، على الإطلاق، ما ازال أذكر ورقها اللين، غلافها الأحمر الباهت، لكن تجربة قراءتها واكتشاف ما يمكن للقراءة أن تورد الإنسان، من خيالات وعوالم، كان شبيها بتجربة القيادة أو رؤية البحر أو ركوب الدراجة بشكل صحيح لأول مرة، نفس تسارع نبض القلب، التنفس بصعوبة، والإحساس بانتفاخ الأوداج، إنها أعراض الدهشة العظيمة التي تدفعنا للاكتشاف والتخييل، الدهشة التي تستلبها منا الحياة بمرور السنوات، والتي تسكن كل الأطفال، ولا شيء أفضل من تغذيتها بالقراءة والقراءة ثم بالقراءة.

إن تحصلي على أول كتاب في الفصل الخامس ابتدائي، يسائل خمسة أساتذة مروا بي مرور الكرام، يسائل أبواي، ويسائل كل أقربائي وجيراني، ومكتبة المدينة ودار الشباب، والوزير، والمحافظ، والمثقفين، والكتاب، والجمعيات، ودور الشباب، كيف لم يخطر لأي منهم أن يضع في يدي كتابا؟ عوض قطعة حلوى او قطعة نقدية طوال اثنا عشرة سنة؟! بينما في ثقافات أخرى يوضع الكتاب في حجر الطفل في اللحظة نفسها التي توضع حلمة الثدي في فمه لأول مرة!

إن جهلنا بقوة وجبروت القراءة، وعظم نفعها وجلال أثرها على المخيلة أولا، على تنمية ملكة التحليل المنطقي والتساؤل، والتوقع والربط والتحليل، وتنمية مهارات التذكر، وتفجير ملكات التخيل والإبداع، وعلى الصبر والتعود على الوحدة والتدرب على الصمت والاستكانة والتأمل، وبناء شخصية هادئة مقنعة معبرة، وأشياء أخرى عديدة مديدة، إن جهلنا وجهالتنا بذلك كله، يجعل مستويات العزوف عن القراءة تصل مستويات مخجلة في أوطاننا العربية.

يذكر مؤشر القراءة عن معهد آل مكتوم أن معدل قراءة الطفل العربي - دون احتساب النصوص المقررة دراسيا - لا يتجاوز ست دقائق سنويا، وهذا رقم صادم لا يحتاج إلى تعليق.. وسأكتفي باستقاء قول برتراند راسل : " تعلم الصبر وسيعلمك كل شيء آخر " لأقول ربما فاته أن يقول: تعلم القراءة - ويشمل علموا أولادكم بالله عليكم القراءة! - وستعلمكم وإياهم الصبر وستعلمكم كل شيء آخر!

 

 

 

 

 

 

 

 

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة