حين يسقط التحليل في آفة التعميم
محمد إنفي
ثقافة التعميم تكاد تكون ظاهرة إنسانية عامة تعرفها جل المجتمعات؛ لكنها تبدو "مستشرية عندنا أكثر من غيرنا، وتأخذ، أحيانا، طابعا مثيرا ومُقزِّزا؛ خاصة وأنها تتميز بالسطحية وترتكز أساسا على أحكام القيمة التي تبقى بعيدة عن معيار الموضوعية والنزاهة الفكرية" (أنظر "المغربي وثقافة التعميم"، محمد إنفي، "لكم 2" بتاريخ 22 شتنبر 2017).
وقد وصفنا هذه الثقافة بالآفة لكونها تركز على ما هو سلبي في أغلب الحالات. ولا شك أن للتنشئة الاجتماعية والثقافية والسياسية دورا في انتشار ثقافة التعميم وفي نزوعها إلى السلبية؛ خصوصا وأن مؤسسات متعددة (الأسرة والمدرسة والمسجد والفضاءات الثقافية والمؤسسات الإعلامية بكل أصنافها والمؤسسات الحزبية على اختلاف مرجعياتها وتوجهاتها) تساهم في هذه التنشئة؛ مما يعني أن ثقافة التعميم هي سلوك توجهه وتغذيه العادات المكتسبة. وهذا ما يعطي لهذه الثقافة بعدا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا ونفسيا؛ ويشكل هذا البعد المتعدد دافعا حقيقيا لِتَمثُّلها وترويجها مع تغليب نزوعها إلى السلبية.
ودون الإغراق في التفاصيل وتعداد الأمثلة والغوص في خلفياتها، سوف نكتفي بالمجال السياسي، وبالتحديد المجال الحزبي الذي ينال حصة الأسد من التعميم والتقييم السلبي وأحيانا القدحي. فكثيرا ما تتعرض الأحزاب السياسية للتبخيس والتنقيص من دورها لدرجة أن بعض النشطاء في التواصل الاجتماعي المحسوبين على مجال التحليل، يدعون إلى الاستغناء عنها بحجج واهية لا داعي للخوض فيها هنا.
لكن لا بد من التذكير ببعض البديهيات التي ليست في حاجة إلى من يدافع عنها. فهل من الضروري أن نذكر بأن إنكار دور الأحزاب السياسية هو إنكار للديمقراطية؛ إذ لا ديمقراطية بدون أحزاب وبدون تعددية حزبية حقيقية؟ كما أن إنكار دور الأحزاب السياسية، هو إنكار لقسم هام من تاريخ المغرب الحديث والمعاصر؛ بل هو جهل بهذا التاريخ الذي لعبت فيه الأحزاب الوطنية دورا أساسيا سواء خلال فترة الكفاح الوطني من أجل الاستقلال أو خلال مرحلة النضال من أجل مغرب الحق والقانون ومغرب المؤسسات. وقد قدمت هذه الأحزاب تضحيات جسام في مواجهة الاستبداد وتعرضت لصنوف من القمع والتنكيل، خصوصا خلال ما يعرف في التاريخ السياسي المغربي بسنوات الجمر والرصاص.
ولطي صفحة هذا الماضي السيئ، أنشأ جلالة الملك محمد السادس هيئة الإنصاف والمصالحة كصيغة من صيغ العدالة الانتقالية الكفيلة بتضميد جراح الماضي. وأحيل هؤلاء الجهلة الحاقدين على الأحزاب السياسية، أحيلهم على تقارير الهيئة المذكورة لعلهم يدركون بأن ما يتمتعون به اليوم من حقوق وحريات، لم يأت بالصدفة ولم يكن هبة أو عطية؛ بل كان له ثمن باهض. وقد قدمت هذا الثمن الأحزاب التقدمية، وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؛ وتقارير هيئة الإنصاف والمصالحة شاهدة على ذلك (ثمانون في المائة من ضحايا سنوات الجمر والرصاص كانوا من هذا الحزب).
صحيح أن المشهد الحزبي في بلادنا يعاني من التضخم؛ وقد أفسد هذا التضخم التعددية الحزبية لدرجة أن هذه التعددية لم يعد لها معنى. فعدد الأحزاب في المغرب يفوق الثلاثين حزبا. فهل من المنطقي ومن المعقول أن يكون لدينا أكثر من ثلاثين مشروعا مجتمعيا؟ إن الكثير من هذه الأحزاب مجرد دكاكين سياسية. فليس لها وجود فعلي في المجتمع؛ ولا تتوفر لا على إعلام ولا على تنظيم حقيقي. فوجودها موسمي لا غير.
لكن هذا التعدد الحزبي الغير طبيعي لا يُسَوِّغ السير وراء التيار الذي يُرَوِّج عن الأحزاب المغربية مقولة "أولاد عبد الواحد كلهم واحد" حتى لا يتم التمييز بين الغث والسمين. وتقف وراء هذا التيار جهات تعمل على تمييع العمل السياسي وتبخيس دور الأحزاب؛ وبالأخص الجادة منها. ولا شك أن ظاهرة العزوف الانتخابي، التي تشغل بال الصف الديمقراطي، تجد أحد أبرز أسبابها في هذا التحامل على الأحزاب السياسية الحقيقية؛ وهذا يخدم مصالح سماسرة وتجار الانتخابات ويؤسس للفساد الانتخابي.
وتجدر الإشارة إلى أن الدافع للخوض في هذا الموضوع من جديد (موضوع التعميم)، مرده إلى خروج البعض عن معيار الموضوعية والنزاهة الفكرية في التحليل الذي يتطلب الدقة في المعطيات والصرامة في المنهاج التحليلي المتبع. وسوف نكتفي بالإشارة إلى محلل واحد، دون ذكره بالاسم، معروف بصرامته العلمية وباجتهاده في البحث عن المعلومة الصحيحة وعن الحقيقة؛ ومع ذلك فقد وقع في فخ التعميم. فمن خلال تتبعه لردود الفعل على الخطاب الملكي السامي في افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية، والذي تم تخصيصه حصريا لقضية الوحدة الترابية، توقف عند تحرك بعض الأحزاب للبحث عن سبل تفعيل الديبلوماسية الحزبية استجابة لما ورد في الخطاب الملكي حول هذا الموضوع، ليستنتج من ذلك أن الأحزاب لا دور لها في الديبلوماسية الموازية.
وهنا وقع المحلل المذكور في المحظور لاعتقاده أن الديبلوماسية الحزبية غير موجودة وأن التفكير جاري لوضع أسسها. ولجهله بهذا الصنف من الديبلوماسية، فقد اقترف زلة التعميم بحيث ساوى بين كل الأحزاب ووضعهم في خانة أو سلة واحدة دون تنسيب (من النسبية) ولا تبعيض (من البعض)؛ أي دون أخذ أي احتياط من الوقوع في الخطأ. ويبدو أن المعني بالأمر لم يتمعن جيدا في الخطاب الملكي السامي ولم يدرك فحواه ومغزاه. فلو كانت الديبلوماسية الحزبية غير موجودة وغير فعالة لما ساوى جلالة الملك بينها وبين الديبلوماسية البرلمانية والديبلوماسية الرسمية؛ "وهو ما يعد إشادة ملكية سامية بما تبذله القوى الوطنية الجدية في سبيل خدمة الهدف الوطني الأسمى، بالترافع والمواجهة والحضور القوي في المحافل ذات الصلة" (من بلاغ المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المجتمع يوم الأحد 13 أكتوبر 2024). ويضيف نفس البلاغ: "وهو ما دأب عليه حزبنا منذ تأسيسه، وأيا كان موقعه من الخارطة السياسية الداخلية، أغلبية أو معارضة. وهي مناسبة لتجديد التحية والتثمين لما تقوم به منظماتنا النسائية والنقابية والمدنية والشبابية".
فالمنظمات الموازية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبالأخص الشبيبة الاتحادية والمنظمة الاشتراكية للنساء الاتحاديات، تقوم، إلى جانب لجنة العلاقات الخارجية للحزب وبتنسيق معها، بعمل ترافعي يغني الرصيد الوطني الحي للاتحاد من المنجزات في الدفاع عن الوحدة الترابية في المنظمات والهيئات والتجمعات والتنسيقيات العربية والقارية والدولية. ويدخل هذا الرصيد في خانة ما تم تثمينه من قبل جلالة الملك كدور فاعل للديبلوماسية الحزبية.
ويكفي، في الختام، أن نشير إلى أن الاتحاد الاشتراكي يستقبل في شهر دجنبر المقبل الأممية الاشتراكية بحضور 80 حزبا اشتراكيا من مختلف القارات ومشاركة أزيد من 250 مندوبا "لعقد اجتماعات هياكلها التقريرية وذلك حسب الأجندة التالية: اللجنة الأفريقية للأممية الاشتراكية يومي 17 و18 دجنبر 2024؛ مجلس الأممية الاشتراكية للنساء يومي 18 و19 دجنبر 2024؛ مجلس الأممية الاشتراكية أيام 20 و21 و22 دجنبر 2024" (من بلاغ المكتب السياسي السالف الذكر).
وقبل هذا، احتضن المقر المركزي للحزب بالرباط نشاطين دوليين استضافتهما الشبيبة الاتحادية خلال شهر شتنبر الماضي؛ ويتعلق الأمر بالمنتدى الدولي للبرلمانيين الشباب الاشتراكيين والاشتراكيين الديمقراطيين. وعلى هامش هذا المنتدى، التأمت رئاسة الاتحاد العالمي للشباب الاشتراكي، "اليوزي"، في اجتماع هو الأول في إفريقيا. ولهذا الحديث الأخير أهمية كبرى بالنسبة لقضية وحدتنا الترابية نظرا لما عانته الشبيبة الاتحادية في السابق مع هذه المنظمة التي اصطفت إلى جانب البوليساريو. وقد حظي هذان النشاطين بتغطية مهمة من القانتين الأولى والثانية.