الراديكالية والكرة الذهبية: تاريخ حرية الاختيار
عبداللطيف أجدور
أعلنت مجلة فرانس فوتبول الرياضية قبل أيام عن الفائز بجائزة الكرة الذهبية للسنة، واندلع نقاش حاد حول مسألة حرمان لاعب برازيلي من الجائزة، واصطف المتتبعون في هذا الجانب أو ذاك حسب الانتماء. لم يكن أخذ موقف رمادي إمكانية. وعلى نفس المنوال، يضطر الكثير منا، يوميا، لاتخاذ موقف يمينا أو شمالا، تجاه النزاعات السياسية والعسكرية في العالم بالتعاطف أو الشماتة، تجاه معتقل سياسي بالتنديد أو الثناء، تجاه مفكر يعيش خارج الأنساق بالتكفير أو التسامح... وهكذا.
تحرص الجماعة على استخلاص موقف الفرد من كل قضية، من أجل تصنيفه في إحدى خانتين ضيقتين هما: مع أو ضد، في اغتيال واضح لإمكانات التأويل التي توفرها الحياة، التي لحسن الحظ ليست بميكانيكية إشارات ضوئية وامضة، أو زِريْ مصعد.
لم تقم الحضارة الأوروبية خلال فترة التنوير سوى على مبادئ القبول بالاختلاف من حيث هو فرصة للاقتراب أكثر من الحقيقة ومن الكمال، اللذين أثبتت التجارب الإنسانية أنه مطمح متمنع من الراغبين في بلوغه بشكل انفرادي. كانت حقبة زمنية شجعت على استخدام العقل والتفكير النقدي وتجنب التعصب والراديكالية. الفلاسفة مثل جون لوك وكانط وديكارت أصروا على أهمية الحرية الفكرية والتسامح. كم أبدعَ في قوله فولتير: "قد أختلف معك في الرأي، لكنني مستعد أن أموت دفاعًا عن حقك في التعبير عنه."
تحدث سعيد ناشيد في كتابه الجميل الطمأنينة الفلسفية عن حساسية الاختيار، ورد صعوبة الأمر إلى مسألة دقيقة، هي أن القيام باختيار بغض النظر عن طبيعته، هي تنطوي على اغتيال مرير لعدة خيارات أخرى، تحمل معها مسارات حياتية أخرى رحبة. لذا فإن اختزال توجهات البشر واختلافاتهم الغنية في طرفي نقيض، في نعم حاسمة أو لا جامدة، بدون استدراكات، بدون احتمالات تأويل، هو اغتيال لجمالية التنوع التي يتيحه التسامح.
وأنا اليوم شاكر لأبي أنه لم يكن عن قصد أو غير قصد أصوليا، لم يكن راديكاليا، لم يفرض في البيت توجها معينا، لم يكن سكيرا ولا كان عابدا، لم يكن معربدا ولا راهبا، أشار علينا على الدوام، بالتزام الأمانة، وحسن المعاملة، وبالصدق والنزاهة، لا من منطلق ديني بحت، بل نن حيث هي دأب الإنسان السوي.
وبفضله اليوم، أصلي صلاة الحر لا صلاة العبد، وأدعو دعاء المحب لا دعاء المضطر، وحتى عندما أتوه، وأعربد، وأفسق، لا يكون ذلك دأب حياة، ونمط عيش، ونظام سلوك. ولا مبدأ توجه في الحياة، بل لحظات صعود وهبوط اعتيادية في الحياة، لا تليها مشاعر جلد ذات، ولا ندم مرضي، يفترض في الإنسان باستحالة، ما يُفترض في أهل الملكوت من ملائكة.
أتساءل وأنا أصيب كل من أعرفهم من أقارب وأصدقاء وتلامذة بلوثة القراءة، ألا أدفعهم بذلك إلى المأساة. الأدب في النهاية يتغذى على معاناة العالم، ويشير أينما وجد، ويصدح بالحقائق جهرا. والحقيقة مرعبة، صلدة، وقاسية.
ألست بشكل أو بآخر راديكاليا؟ وإن بشكل ناعم، بشكل يبدو ذا قصد وجدوى، لكنه يقلص مساحة الشك، ويضيق رحابة الاختيار. ويلغي إمكانيات التيه والتج يب في عوالم أخرى غير هذا العالم على رحابته وسحره.
يمكن لنا أن نستفيد بشكل بالغ من ترسيخ ثقافة الانفتاح على تنوع وغرابة الاختيارات التي نقوم بها يوميا، في المدرسة، والسوق، والعمل، في دور العبادة والحانات، في الملاعب والمجالس المختلفة، والإعراض عن ضيق أفق التصنيف في خانات، والرص في رفوف فكرية، والزج بالأفراد في أنساق اجتماعية معينة، في الكرة كما في الزواج كما في الإيمان.. يقول محمد إقبال الشاعر الصوفي الهندي الرائع: أنا أؤمن بالله وأحبه، لأنه منحني الحق في أن أكفر به.