خلفيات الملعوب
بوشتى الصامت
يطرح الشارع المغربي تساؤلات عديدة، في ظل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها حاليا، سواء تعلق بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، والاحتقان الاجتماعي في مستوياته المتعددة ، أو الأزمة الدبلوماسية المفتعلة مع أطراف عدة، أو انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة.
إن الناظر المتمعن لابد له أن يجد خيطا ناظما بين هذه الأطراف كلها، فما يعيشه الشارع المغربي حاليا من تساؤلات، لا يجد لها إجابة حقيقية سواء عند الفاعلين السياسيين، أو عند الفاعلين الاقتصاديين ، الشيء الذي يجعله دائما يعتمد التأويلات والتحليلات التي غالبا ما يجد نفسه معها في حيرة، ولا يستطيع أن يقدم إجابة حقيقية لهاته الإشكالات، فيعود تفكيره إلى أصل تكوينه الفطري المرتبط بطبيعة البيئة الاجتماعية ( باعتبارها كبنية وكمكون من مكونات شخصيته) التي تفرض عليه البساطة في كل شيء، بما في ذلك بساطة تفكيره، وبساطة تحليله للواقع، وبالتالي بساطة النتائج المحصل عليها من خلال تحليلاته.
لكن إن نظرنا إلى الإشكالية في شموليتها، بغية الوقوف على الخلفية الحقيقية للأزمة المصنوعة حاليا بالمغرب في مستوياتها الثلاث: السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، نجد خلف كل عنصر من هاته العناصر ملعوبا يقتضي تشريح الظاهرة برمتها حتى يتبين الخفي.
فعلى المستوى السياسي: نجد القرارات السياسية بالمغرب غالبا ما تكون استباقية باعتبار ما سيقع، وهذا تبين منذ هبوب الرياح العربية الأولى، لتعطي ما يسمى "بالاستثناء المغربي" عبر اتخاذ قرارات سياسوية، وليست سياسية من قبيل: صياغة دستور جديد يستجيب لشعارات رفعت في المرحلة، ولكن في جوهره أجهز على كثير من مطالب الشعب المغربي، ولتمرير هذا كان لزاما صنع حكومة - خلاص في نظر الشعب المغربي – قادرة على تسكين وتهدئة الوضع الداخلي مرحليا، فكان الجواب عن طريق العدالة والتنمية، نظرا لما أفرزه الربيع العربي من حكومات ذات مرجعية إسلامية أولا. ونظرا كذلك للخصوصية المغربية التي كانت تنبأ بأزمة سياسية مستقبلية من خلال ( مقاطعة شريحة واسعة للإنتخابات، وهذا بدوره فيه رأي) فالمغرب استنفد كل إمكانيات الاصلاح المحتملة من: تناوب كل المكونات السياسية في تدبير شأن البلاد ( حكومات يمينية، حكومة التناوب ...) ولم يبقى أمامه إلا خيار واحد لا ثاني له وهو: حكومة إسلامية استجابة لما أفرزه الربيع العربي من توجهات سياسية جديدة.
وتخفيفا للضغط المحتمل من طرف الشارع المغربي ، وخاصة من حزب قريب في خطابه من شريحة واسعة من الشعب، ويمكنه أن يشكل تهديدا حقيقيا للقرار السياسي بالبلاد، كان لابد من إجراء مفاوضات قبلية، وبالتالي تقديم تنازلات من طرف حزب العدالة والتنمية مقابل النزاهة في الانتخابات التي ستقلده المرتبة الأولى، وبالتالي تشكيل حكومة بقيادته ( وهذا هو المسكوت عنه) مهمتها الأساسية تفويت الربيع العربي فحسب. لكن السؤال المطروح هو ماذا كان سيقع لو رفضت العدالة والتنمية قيادة الحكومة في المرحلة؟ فهل فعلا حزب كالعدالة والتنمية كان يدرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه وخاصة أن الظروف التي أفرزته مغايرة تماما لظروف الحكومات السابقة؟ وهل فعلا حكومة العدالة والتنمية قادرة على تنفيد برنامجها الإصلاحي في ظل الظروف التي أفرزتها كقوة سياسية أولى في البلاد، وفي ظل شروط اقتصادية واجتماعية صعبة ؟
على المستوى الاقتصادي: الأمر أعقد بكثير مما يمكن أن يتصوره المتخصص في العلوم الاقتصادية، وبالأحرى من ينظر للاقصاد من زاوية بسيطة جدا، واللعبة في المغرب أعقد مما هو عليه حال اقتصاد بلدان عدة، فالحالة الاقتصادية بالمغرب لا يمكنها إلا أن تفرز لنا وضعية اقتصادية متأزمة وصعبة، رغم توفر البلاد على ثروات عدة ( فسفاط، حوامض، حديد، ماء معدني، سمك، مقالع رمال...) كفيلة بإنعاش الاقتصاد الوطني في علاقته بالاقتصاد العالمي، لكن الحالة الفوضوية في تدبير هذه الثروة ( سيطرة حفنة محدودة، واستفادتها من صلاحيات واسعة وموسعة) أغرق البلاد في مديونية ثقيلة، وبالتالي فرض شروط وقيود وبرامج من طرف صندوق النقد الدولي مقابل الاستفادة من قروض جديدة، أو تمديد المدة المحددة لأداء هذه القروض.
والأزمة الاقتصادية الحقيقية للأقتصاد المغربي كانت مع حكومة اليوسفي، لكن استطاع الاقتصاد المغربي تجاوزها مرحليا من خلال السياسة التدبيرية التي نهجتها الحكومة أنذاك، وخاصة فيما تعلق بإطلاق مشروع الخوصصة لكثير من مؤسسات الدولة الانتاجية ، وكذا فتح السوق الداخلية للمستثمرين الأجانب وتشجيعهم، من قبيل الإعفاء الضريبي ... لكن الإشكال الحقيقي للحكومة الحالية هو كيف يمكن تدبير الأزمة التي يعيشها الاقتصاد المغربي، وإنعاشه من الموت السريري الذي يعيشه حاليا؟ فالعدالة أدخلت في حلبة صعبة لأن بوادر الأزمة الاقتصادية كانت بادية قبل وصولها للحكومة من خلال الأزمة الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الأمريكي والفرنسي والإسباني والأوربي عامة، والاقتصاد المغربي مرتبط باقتصاد هذه البلدان بشكل مباشر، وما تراجع احتياطي المغرب من الدولار إلا نتيجة للأزمة الاقتصادية التي ضربت البلدان السابقة الذكر، وكذا ضعف عائدات الصادرات المغربية، وموازة مع انهيار الاقصاد الأوربي، تم تسريح كثير من الجالية المغربية من العمل والتي كانت تدرَ عائدات مهمة على البلاد من الدولار.
فالاقتصاد الوطني في علاقته بالاقتصاد العالمي كان لابد له أن يخضع لقانون التأثير والتأثر نظرا لطبيعة المرحلة وما عرفته من أزمة اقتصادية في ظل شروط عالمية ككل، وازداد الأمر تعقيدا مع العدالة والتنمية بمجرد وصولها للحكم، وخاصة فيما تعلق بتصريفها لخطاب غليظ وفضفاض من قبيل محاربة الفساد... مما جعل كل الفاعلين الاقتصاديين يتراجعون إلى الوراء في انتظار خطاب واضح، يضمن لهم حرية الاستثمار، وهذا ما عجل بالأزمة الاقتصادية بالبلاد، وجعل هذه الأزمة تنعكس سلبا على حكومة بن كيران، وتجعلها محط اتهام من لدن الجميع ، معتبرين إياها سببا رئيسيا فيما وصل إليه الاقتصاد الوطني،- ومن حقهم أن يقول ذلك- بالرغم من أن البوادر الحقيقية للأزمة كانت قبل وصول العدالة للحكومة، لكن اللعبة السياسية تقتضي التنصل من المسؤولية، وتحميلها لطرف دون الأخر، في استعداد اللعبة القادمة، بالرغم من أن الكل شريك في الوضع الحالي، وهذه هي خلفية انسحاب حزب الاستقلال ، كي لا يتحمل مسؤولية العجز التام للحكومة في تدبير الأزمة الحالية، بالرغم من علمه على أن هذه الأزمة لا تستطيع حلها هذه الحكومة ولا غيرها، ولكن ما يريده من وراء خلفية الانسحاب هو إنقاد ماء الوجه فقط، ومنه توسيع جماهرية الحزب، استعدادا لما هو قادم.
المستوى الاجتماعي: يتميز المغرب ببنية اجتماعية معقدة، ومتباينة في نفس الوقت، بحيث إن شريحة واسعة من الشعب تعيش أوضاعا اجتماعية مأساوية، وتعاني من آلام الفقر والحرمان والمعانات التي تدفع الكثيرين إلى الانحراف،والتعاطي للخمور والمخدرات، وبالتالي ممارسة العنف والجريمة، وفي المقابل نجد فئة قليلة تسيطر على خيرات البلاد، وتستفيد من صلاحيات واسعة مما يجعلها تراكم رؤوس الأموال، وتزداد غنا بشكل سريع على حساب الفقراء والجياع، وهذه الفئة هي من يراكم الثروة ويتحكم في الاقتصاد، وبالتالي القرار السياسي، مما يجعل كل القوانين التي تصوغها لا يمكنها أن تخرج عن قانون حماية مصالحها الشخصية، وما سواها مسخر لخدمتها، وكل التحالفات الدائرة في هذا الباب، هي تحالفات مصالح، وهذا ما جعل المغرب يعرف تباينا واضحا على مستوى بنياته الاجتماعية، إذ نجد حالات اجتماعية صعبة، لدرجة أن كثيرا من الأسر تعيش بأقل من عشرة دراهم في اليوم، ومحرومة من التعليم، مما جعلها تصبح مسرحا لجميع مظاهر الأنحراف ( سرقة، دعارة، مخدرات، تطرف ...) وهذا بدوره سهل الأمرللقوى السياسية بالبلاد من أجل السيطرة التامة على فئة عريضة من الشعب و استدراجه داخل الأحزاب، وتجنيده لأهداف انتخابوية، أما العمال تم استدراجهم داخل إطارات نقابية، بدورها تعمل لذات الغرض، أي تجنيدهم وتفريغهم من محتواهم أولا، وجعلهم قوة ضغط لخدمة مصالح حزبية ضيقة ثانيا، مما أفرز داخلهم نخبة انتهازية مستعدة لبيع العمال في أي حين، وبالتالي جعل هذه الطبقة نفسها فارغة من محتواها، ويمكنها أن تنزل للشارع وقتما أرادوا لها ذلك، وهذا ما جعل الأمر معقدا وصعبا أمام العدالة والتنمية، بحيث إن أكبر نسبة للتظاهر والنزول للشارع حصلت في مرحلة هذه الحكومة، فأربكها ذالك وجعلها لا تستطيع حل أبسط الأمور رغم ما كانت تتظاهر به من خطابات، وهذه المشكلة لم تكن وليدة الحكومة الحالية بل لها امتداد سابق، لكن الأمر صعب جدا أمام هذه الحكومة بالذات، نظرا للصلاحيات الدستورية المقدمة لها ظاهريا، وكذا لحجم الشعارات التي رفعتها سواء عندما كانت في المعارضة أو من خلال البرنامج التي أعلنته في حملتها الانتخابية، لكن الأمر ليس كذلك، وليس من رأى كمن سمع، وما زاد الأمر تعقيدا هو رهان الشعب المغربي على حكومة كان رهانها هو تفويت الربيع العربي وتخليها عن مطالب الشعب المغربي، وهذا هو المستنقع الذي سقطت فيه، وهي مسألة كانت بادية واضحة، حتى يتم عزلها، وبالتالي سهولة التخلص منها.
ما يمكن استخلاصه هو:
- ان العدالة والتنمية قامت بواجبها وما طلب منها( تفويت فرصة التغيير) وهو الرهان الأكبر الذي وضع على عاتقها.
- إن مدة صلاحيتها انتهت منذ أن قبلت تحمل المسؤولية الحكومية في ظل شروط سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة جدا.
- إن التيار الإسلامي الذي كان من الممكن أن يشكل خطرا حقيقيا مستقبليا، تم تفتيته إلى مكونات وعزل بعضه عن البعض، (فعلاقة العدالة والتنمية بالعدل والاحسان قبل الانتخابات ليست هي نفس العلاقة الحالية، وخاصة إذا راعينا في ذلك الظروف التي انسحبت فيها العدل والاحسان من الشارع بعد لقائها مع عبد الإله بن كيران مباشرة).
- إن الأزمات الدبلوماسية التي وقعت في عهد حكومة بن كيران ( وخاصة مع موريتانيا وأمريكا) كانت محكا حقيقيا في مدى قدرة هاته الحكومة في تدبير هاته الملفات أم لا.