انقلاب مصر وتلبيس من يصنفون أنفسهم ضمن النخبة المثقفة
نورالدين الطويليع
يتهم العقل العربي المعاصر بالعقم وغياب الإبداعية و الاقتصار على نسخ النماذج الغربية في الديمقراطية وحقوق الإنسان وكل مجالات الحياة السياسية، مع عجز كامل عن الإتيان بنموذج من شأنه التعبير عن الواقع العربي.
عقدة الإحساس بالنقص هذه تكفلت نخبة الواجهة، أوما يسمى بالنخبة تحت الطلب التي تطل علينا من نافذة الليبرالية تارة، ومن نافذة اليسار تارة أخرى، أو حتى من نافذة الدين في أحايين كثيرة بعلاجها، فأبدعت مفاهيم جديدة ألغت بها ما يمن علينا الغرب به بهذا الصدد، ووصلت بها حصافتها الأكاديمية وعبقريتها الفكرية إلى تسفيه المفاهيم التقليدية في مجال الديمقراطية، فاستعاضت عن مفهوم صناديق الاقتراع بديمقراطية الحشود، وقزمت مفهوم الصوت الانتخابي لصالح ما تسميه عظمة الرموز التي يعتبر الواحد منها كمئة ألف مما يعدون من العامة السذج الذين لا يفقهون ــ وفق شريعتهم ــ شيئا، ولا يستحقون أن يكونوا من المصوتين.
إن هؤلاء الذين يسوقهم النظام السياسي في كثير من الأنظمة العربية، ويمارس تعتيما كبيرا على المثقفين الحقيقيين يكرسون مقولة العربي المتخلف الذي لا يملك بوصلة الأكاديمية، ويدور مع السياسي حيثما دار، ممارسا الدجل الذي لم يعد ينطوي على أحد في إطار ما يسميه ابن القيم الجوزية "تلبيس إبليس"، أو التمويه الإيديولوجي بتعبير المفكر الجزائري محمد أركون، ومقيدا نفسه بسياج دوغمائي مغلق، مخندقا إياها في شرنقة السياسة بمعناها المتعفن.
إن رصدا بسيطا لسيرورة الأحداث في مصر الشقيقة يبرز حالة الترهل الفكري والفصام الشديد لمن يتوهمون، أو يوهمون بأنهم طليعة المجتمع العربي، حتى لربما خيل إليهم أن لهم من القداسة والسمو ما يجعلهم فوق البشر.
فالمثقف الحقوقي الذي كان يتباكى على وضع حقوق الإنسان وينادي بحرمة الدم، وبرحيل الرئيس محمد مرسي لأن فترة حكمه أزهقت فيها أرواح بضعة مصريين، هو نفسه الذي يبارك المجازر ويدعو دون مواربة إلى التصفية الجسدية لمن يسمونهم الإرهابيين، ومحوهم من الوجود.
والمثقف الإعلامي الذي أفرغ جعبته من الكلام القبيح والسافل والرديء في حق رئيسه مرسي، واصفا إياه بشتى الأوصاف القادمة من معجم البذاءة والانحراف الأخلاقي دون أن يتعرض إليه أحد، يدعو الآن إلى تكميم الأفواه التي تدافع عن حقها المغتصب، ناعتا إياها بأصوات الفتنة المشوشة على العهد الجديد.
والمثقف السياسي الذي كان يتهم رئيسه مرسي بالإقصاء وبأخونة الدولة، ووضع أمامه مذ تولى منصب الرئاسة كل العقبات والمتاريس، مقزما ومسفها كل خطوة أقدم عليها معتبرا إياها تكريسا للاستبداد ولدولة الديكتاتورية بحجة إقصاء من يسمون أنفسهم بالمعارضة، هو نفسه الذي يستمرئ بطريقة سادية تعبر عن نفس مريضة إلغاء الدستور واحتجاز الرئيس وحل المجالس المنتخبة وإقصاء فئة أثبتت تجذرها في المجتمع ــ بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معها ــ وجعلته يلوك العلقم في كل المحطات الانتخابية ككائن لا يصلح إلا للرمي في مزبلة التاريخ، في إشارة ذكية ممن يقزمهم ويحتقرهم من المصوتين إلى انتهاء صلاحيته.
كما يقول فولتير:"قد لا أتفق معك، لكنني مستعد لأن أموت من أجل أن تبدي رأيك"، يتوجب على من يدعي النخبوية الثقافية الالتزام باحترام الذات والتحلي بالموضوعية التي قد تكون مؤلمة في بعض الأحيان، واستبعاد الحسابات الحزبية والإيديولوجية الضيقة، لكن مادام هؤلاء أتباع من غلب وأتباع من يعطي أكثر فنحن أقرب ما نكون إلى تصور المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي يرى أن "الأحكام في العالم الإسلامي لا تصنع طبقا لعالم الأفكار، وإنما طبقا لعالم الأشخاص".
وفي الوقت الذي نجد فيه مثقفا من طينة خاصة في الغرب، لا تغريه الرشاوى ولا يلهث وراء السياسي، لأنه صانع نفسه وصانع مجده، نجد مثقفي واجهة في العالم العربي غايتهم وأسمى أمانيهم نيل رضا أسيادهم ممن صنعوهم على المقاس، ولذلك نجد فرقا كبيرا في تعامل هؤلاء وأولئك مع الحدث، وسأشير هنا إلى الشامخ خوان غويتيسيلو الذي رفض بشدة تسلم جائزة القدافي العالمية في الأدب زمن جبروته وسطوته رغم أنها محملة بالملايير، لأنها ستفرض عليه مصافحة يد ملطخة بالدماء، ليجدها مفكرنا جابر عصفور مناسبة ذهبية للانقضاض على الجائزة بغض النظر عن جرم صاحبها، لأنه وخلانه اختاروا النوم في العسل وانفصلوا بالكامل عن قضايا شعوبهم، إلا ماكان غطاء لسلوك أسيادهم، حينذاك سينزلون إلا الشارع برباطات العنق ويأخذون الصور لتذاع في وسائل الإعلام عن الثوار الذين يتحدون الاستبداد!!!