فن التعلم وأسطورة الخريف
مريم بويدارن
كلما أقبل الخريف خلت الزمن يعيد حياكة الحلم للمرة الألف، طفلة أراها تمشي بكل عنفوان الطفولة ووثوقها،بجرأة الماء ويقين الشجر،متناغمة خطواتها مع موسيقى الأوراق الصفراء، حالمة كأميرة من ورق.
تزامن الدخول المدرسي مع الخريف أسطر هذا الفصل في ذاكرة الطفلة التي كنتها، للخريف أكثر من معنى وأكثر من رائحة وأكثر من رمزية.في سمفونية الفصول الأربعة للفيفالدي يبدو الخريف وكأنه أبو الفصول كلها هادئ متقلب رقيق رتيب فرح غامض واعد، إنه التحول البطيء نحو هجعة الشتاء وحنين الرياح.
نبدأ التعلم مع الخريف والشتاء،نرسم الحروف بأنامل رقيقة باردة، متورمة من شدة البرد.
في قلب الأطلس البارد والساحر تعلمنا بأقل التكاليف، تعلمنا في الهامش، وتربت الثورة في نفوسنا،تعلمنا في فصول خالية من شروط التمدرس ومن شروط الحياة ، ننفخ في أصابعنا الزرقاء لتستعيد دفقة الحياة والدفء وتدون تاريخا لسنا جزءا منه
بؤس التعليم ورداءته وضعفه ولد في النفس مخاضات عدمية ومواقع إشكالية ورغبة في التحرر، رغبة في القفز، في الطيران، رغبة في السفر إلى النجوم، رغبة في لغة غير اللغة أكتب بها، ولكي أكتب ينبغي أن أتحول إلى فراغ سحيق. خلف التعليم بمختلف مراحله في النفس ندوبا كثيرة، غير أنني انتصرت في النهاية على فاجعة المدرس الفاشل والمقرر الفقير والدرس الصغير وكان لي شارع في البحر وقدم من ضباب، وإن ظللت أسيرة اضطرابات محمومة وأساطير خريفية ونوافذ من رمل.
النظام التربوي التعليمي المغربي فاشل بامتياز وبدرجة الشرف الرفيعة، فاشل مذ كان. نظام سكوني خائف مزدوج، مستورد تقليدي غير جريء غير ثوري، قائم على التلقين والحفظ وحدهما وعلى تقديس أصنام المعرفة، قائم على التجويع والتخويف والتفقير، نظام وظف للمحافظة على الأوضاع وإبقاء الحال على ماهو عليه، ولد نخبة مهزوزة غير وفية إلا لمصالحها الطبقية وأناها النرجسي الضيق،نخبة إما أنها مستغربة مستلبة مسحورة بحداثة تتجاوزنا باستمرار أو نخبة نوستالجية تقليدية مسكونة بماض لن يعود.
قلة هم المعلمون الذين كلما تذكرناهم إلا وأشعلنا شمعة حب في صدورنا وفاء لذكراهم.
لقد طال بي مسار التكوين الأكاديمي، يحفزني عشق المعرفة، ومر علي أصناف من المدرسين لا أذكر إلا واحدا منهم.كان مدرسا للغة الفرنسية،فنان شغوفا بعمله، كان يمسرح الدرس لا يلقيه ، تعلمنا الكثير على يديه. تعلمت منه المغامرة المعرفية ولذة الاكتشاف وحلاوة السؤال، أشركنا في تفاصيل حياته الصغيرة والعابرة، كنا نحوم حوله كالفراش في وداعة وبساطة.معه عشقت المسرح وجسدت شخصيات راسين وكورنيه وجيل رومان وضحكت مع جاك القدري ومعلمه وتذوقت طلاوة الموسيقى الكلاسيكية. عرفنا روائع الأدب الكلاسيكي الفرنسي بأسلوب ملؤه الجمال والسكينة والإبداع في وقت كانت فيه مقررات وزارة التربية هزيلة مخجلة، لا تسمن ولا تغني من جوع، يتقيأ منها الكلاب. كان استثناء في بوقة من الأصوات المقلدة. كان هذا المدرس آخر الرعيل الذي تربى على يد عباقرة مدرسي الاستعمار ، لم يكن الاستعمار كله صفحة سوداء بل كانت له إيجابيات منها فن العمارة الذي مازال يزين واجهة المغرب الحضارية إلى اليوم وقلة من المدرسين الأفذاذ ذوي الكفاءة المعرفية العالية والروح الاستكشافية والفلسفة الإنسانية، والمتحررين من عقدة فرنسا العظمى الغازية.
المعلم شخصية محورية في الثقافة الإنسانية والوعي الجمعي عموما وفي الثقافة الإسلامية خصوصا، والتلمذة قدر إنساني، تصنع المصائر وتغير المسارات وتلون الشخصية.. والإنسان عبر مسار حياته الطويل يخلق معلميه: آباء وآلهة ونظريات ومرجعيات وأفكارا وقادة وتاريخا...لكن المعلم العظيم هو الذي دائما يترك أمام المتعلم مسافة للحرية والحب لينظم أفكاره ويلائم اختياراته ويسهم في صناعة المعنى.
لذا ينبغي للمدرس الناجح أن يعي دوما بأن الطفل مشروع وجود، يتبرعم أمامه، وأن العلاقة بينهما قائمة على التفاعل السيكولوجي وعلى التقدير المتبادل والمواقع المتكافئة.
الطفولة عالم مندهش باستمرار، والأنا الطفولي سؤال للدهشة متواصل. يسعى الطفل المتعلم إلى إكساب الأشياء من حوله معنى، يبحث عن قيمة الموجودات.وتجربة الفهم هاته هي الأساس في هندسة الخطاطة المعرفية التي على أساسها سينظم الطفل مدركاته و أحاسيسه، ويراكم خبراته ويتقدم في التحصيل، ويبني حياته مستقبلا.
إن ما نلقنه في الواقع ليس هو المعلومة، بل نمط الثقافة ولغة السؤال وأشكال اللبوسات التي سترتديها الشخصية مستقبلا. ليست المعلومات التي يتلقاها الطفل شذرات متطايرة معزولة عن أي سياق، بل هي ما يؤثث تجربة الوعي الجمالي والهوية عند الطفل. ما يتعلمه الطفل هو نظام القيم والنمذجات ورؤى العالم، وهذا هو التلقين اللاواعي الذي يقوم به المدرس وتساهم فيه المدرسة. المعرفة التي نكتسبها أصنام من ملح، لا يبقى منها إلا الأطر الفارغة، تبقى الأشكال وتتبخر المضامين والمادة، والطفل حينما يتعلم فأجهزة الاكتساب وتنظيم الخبرات عنده تميز بين القوالب والصيغ والفراغات والدوال وبين المحتويات والمواد والأفكار.إن الطفل يتعلم كيف ينظر إلى العالم، كيف يبني القيمة وكيف يفكر، فسؤال الكيف في التعلم هو المهم.العقل الإنساني يحين على الدوام القوالب والهياكل والصياغات الصورية، لكنه لا يتذكر المحتوى إلا لماما، ولهذا وجدنا فلسفة العلوم في مرحلة متأخرة من النضج تبحث في أطر المعرفة والبنى الإبداعية والنماذج.
يفترض في المدرسة ألا تتحول إلى نظام عسكري وقلعة للسكونية والنظامية، بل ينبغي أن تعلم الإبداع وتحفز عليه، وتترك ينابيع الدهشة متفجرة في شخصية المتعلم، وإلا سيغرق التعليم في تحرير الجذاذات وتحبير الأوراق وحفظ المضامين.
التعلم فن وعبقرية وعزف، وإلى جانب الحرفية العالية والدراية والتكوين المتين لابد فيه من مشاعر حية يقظة، وأخلاق إنسانية وروح وثابة.
إن اللحظات السعيدة هي بحق تلك التي يتذكر فيها المرء أولائك الذين اندغموا في نسيج شخصيته، وخلفوا آثارا موشومة لا تمحى، وكانوا أعمدة مضيئة في سفره الوجودي ورحلته على الأرض.
نحتاج إلى مدرسة ترقى إلى مستوى تطلعات الأنا السيكولوجي للطفل المغربي بدون إقصاء ولا تهميش ولا تمييز جغرافي أو ثقافي أو مؤسساتي، ولا أدلجة في صياغة المقررات والبرامج والمناهج والبيداغوجيات ، مع مراعاة التعددية اللغوية بلا شرخ في الهوية، بل الحرص على التنوع اللغوي الذي يولد الثراء لا الذي يزرع الفصام والحقد والعنصرية والتخلف.