زَمنُ النّفاق
إيمان ملال
هناك سلسلة أفلام تعرض في السينما، القاعة مكتظة، كلهم مسلمون، فجأة يبدأ فيلم به مشاهد لاأخلاقيةـ بالمفهوم الإسلامي للكلمةـ هناك ثلاث فئات من الحاضرين:
فئة من سيخرج للعودة للبيت وهو المسلم الصادق معَ نفسه، وفئة من سوف يبقى للمشاهدة وهو المُتحرر، كما يشاؤون تسميته، وفئة من سيخرج و يشاهد الفيلم عبر ثقب باب السينما وهو المنافق !
في الواقع هذا ما يحدثُ بالفعل. نسمع يومياً عن محاولات اعتقال أشخاص يقومون بأفعال لا أخلاقية تنافي أعراف المُجتمع وكأن هذا المُجتمعَ كاملٌ ومَلائكيّ لدرجة أنه لا يمكن أن يسمحَ بسلوكات مشابهة. ولو بحَثنا في نفوس الجميع وخباياهم لوَجدنا أنّ المُحاكِمَ أرذَلُ من المحكوم عليه، وأن المدّعي أكثر إجراماً من المُدّعى عليه. لكننا في وطنِ النّفاق بشتّى أنواعه. نُحاكم النّاس على أساس المَظاهر وننسى أنفسنا. بل وفي الغالب ندعو لقتلهم باسم الإسلام الذي لا نفهمه إلاّ في نطاق ما يَتوافق وَ أهدافنا السّياسية بالدرجة الأولى.
يجبُ العودة لقراءة نصوص الإسلام قراءة مُعاصرة، والتّوقف عن الإستدلال بما طابَ لنا من الحَديث والآيات في مواضعَ غير مواضعها. فلا يمكن لشعب لا يزال مُقيّداً بالفهم الحرفي للنصوص الدينية أن يذهب أبعد من قَدميه. ذلكَ أنّه ما من مهمة أسهل من التحريم والتّكفير ومُحاكمة النّوايا.
مؤخراً أثارَت حادثة "قُبلة الفيسبوك" ضجة عارمة في صفوف المُجتمع المَدني، ولعل أي شخص كان قد سمع بالمطالبة بمعاقبة القاصِرين ظنّ نفسَه في مُجتمع مُحافظ لا أحد يمارسُ فيه الفَساد ولا أحدَ يتجاوز فيه القُبلة علناً، وما إن ظهرت الصورة حتى وُجدت جريمة بشعة وجَب التّصدي لها بالسّردِ الأدبيّ لنصوص القوانين المُتآكلة والأفكار الأخلاقية القديمة التي لا نسمعُ عنها سوى في مَحافلِ النّصابين الكبار الذين يقومون بدور الرّهبانِ في كنائس أوربا القرون الوسطى. إذ لا يمكن تنفيذ تلكَ القوانين إلاّ الصّغار، في الوقت الذي يستمتع فيه الكبار بولائم تكونُ فيها الأخلاق هي الأضحية والمبادئ هي المناديل التي يمسحون بها.
استراتيجية الإلهاء كانت من أبرز ما تحدّث عنهُ "نَعوم تشومسكي"، وهي من أكثر ما نعيشه نحنُ في مُجتمعاتِ القُشور الحضارية. يمكنك أن تُبعد الناس عن أهم المواضيع التي يجب عليهم التفكير فيها بحادثة بسيطة وتافهة. كما يمكنك أن تصنع لهم تيّاراتٍ أيديولوجية تَجرف بهم بعيداً عن الواقع. كلّ هذا أصبحَ مفضوحاً، لكثرة ما تكرّر في أكثر من مناسبة، ومن السُّخف اعتقاد أن اللّعبة التي تتكرر مئات المرات لا يمكن أن تفقدَ أهمّيتها.. لأنه أصبح من الواجب تغيير اللّعبة واستبدال قَوانينها بأخرى أكثرَ ذكاءً من سابقتها، لأن الوَعي يرتفعُ مَنسوبه هذه الأيام، ومُعدّلات الذكاء لم تعُد منخفضة أقلّ من التسّعين و الثّمانين، إنها أصبحت تتجاوز المائة بكثير لكن لا يمكننا إثبات ذلكَ ما داموا لا يهتمون بقياس مُعدّلات ذكائنا هنا. فهيَ لا تهم، ما يهمّ ما فقط هوَ قياس مقدار قابليتنا لتلقّي المُخدّرات التي تُبعدنا عن الواقع.
من طبائع المُجتمعات المنافقة أنها تكذب الكذبة وَ تصدّق نفسها. ليسَت المساجد هي الإسلام، وليسَ ترديد الأدعية واللّحية هي الإسلام، ولا حتى ممارسة الشّعائر وسطَ الجماعة، يكفي دخول مسجد ليلاً بعد انتهاء رمضان لنرى من كانوا يحبون النوافل وقد اختفوا وكأن الحفلة الإستعراضية قد انتهت أخيراً.
النّفاق هُنا عملة صعبة. بل هي الوحيدة المتداولة. لأن الجميع يكبر في النفاق وفيه يموت. حاكموا أنفسكم فللوطنِ عيونٌ ولشُرفائه عقول. زمنُ الخداع لا يؤكِل أصحابه الخُبزَ لأمدٍ طويل.