الخلفيات المكشوفة حول طرح فكرة التدريس بالدارجة
محمد كمال بلحاج
في خضم النقاش الذي راج أخيرا حول فكرة التدريس بالدارجة بدل العربية الفصحى في المراحل التعليمية المبكرة والذي أخذ حيزا مهما من زمن التداول الإعلامي الوطني والمبالغ فيه أحيانا، ولأن القضية محسومة مسبقا على عدة مستويات، حيث على المستوى التشريعي تعتبر اللغة العربية هي اللغة الرسمية الأولى للدولة (وعندما نقول اللغة العربية نقصد مباشرة اللغة العربية الفصحى بأسسها وقواعدها وإعرابها وليس اللهجات المحلية المتعددة المتفرعة عنها)، وهناك على المستوى العلمي والمعرفي، لطالما أكد المختصون في علم اللسانيات وفي عدد من المعارف الأخرى على ضرورة التفريق بين العامية "الدارجة" المستخدمة والصالحة للتواصل الشفهي في البيت والشارع فقط، وبين اللغة العربية الفصحى كلغة المدرسة المعتمدة للقراءة والكتابة. وأمام هذا الحسم، علينا أن نميز بين كيف نحسن التعامل للتصدي لبعض الأفكار والدعوات القزمية والمنحرفة كفكرة التدريس بالدارجة التي أُثبتت فشلها سلفا، وبين عدم إضفاء أهمية قصوى أكثر مما تحتمله قيمة الفكرة أو الدعوة المطروحة للنقاش. وحتى ندرك ذلك في هذا الموضوع الذي نحن بصدد تناوله آنياً، يجب الوقوف عند أبرز الخلفيات المستترة والمكشوفة في نفس الآن، والتي دفعت أصحاب هذه الدعوة لتبني هذا الموقف الماكر وإطلاقها في قالب توصيات ثم رفعها إلى الماسكين بمقاليد السلطة في البلاد:
1- هناك تقارير ودراسات دولية متقاطرة من مختلف الجهات أجمعت على أن اللغة العربية تزداد انتشارا عبر العالم وتصنف كإحدى اللغات التي تحتل المراتب الأولى من ناحية الاستخدام، وذلك أمام تراجع وانحصار اللغة الفرنسية، حيث تحتل اللغة العربية حاليا المرتبة الخامسة بين اللغات الأكثر استخداما في العالم والمرتبة الرابعة كأكثر لغة مستخدمة على شبكة الأنترنيت، وهناك مؤشرات تنبئ بأن تسبق اللغة العربية عبر السنوات القادمة اللغة الإنجليزية وتقفز إلى المرتبة الثانية خلف اللغة الصينية من حيث اللغات الأكثر انتشارا في العالم، فيحين أن اللغة الفرنسية تحتل حاليا المرتبة الحادية عشر، مما جعلها خارج تصنيف اللغات العشر الأولى الأكثر استخداما في العالم، بل هناك توقعات توحي بأن تنزاح اللغة الفرنسية نحو مزيد من التقلص والانزواء، حيث لن تبقى تُستخدم وتتداول إلا داخل فرنسا فقط.
لا شك أن هذه المعطيات الميدانية العامة والاستشرافية المؤكدة، أقلقت مضجع الطبقة الفرنكفونية المهيمنة بالمغرب، نقول الطبقة الفرنكوفونية وليس النخبة الفرنكوفونية، حتى لا نخلط بين أولئك المفرنسين الذين يرتبطون بالمغرب جغرافيا فقط، وبين فئة المتعلمين والمثقفين الذين يكتبون ويدرسون باللغة الفرنسية. وهنا يجب التفريق بين اللغة الفرنسية كلغة للتعلم والتواصل والتي من المستحب على الجميع تعلمها وإتقانها كأي لغة أخرى، وبين الفرنكوفونية كتيار يسيطر على مجالات المال والأعمال والإعلام وينشغل فقط بالدفاع عن مصالحه ووجوده الاستعماري داخل المغرب وخارجه، حيث تيقن أنصار الفرنكوفونية أصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية والاستثمارية بالخصوص من أن مصالحهم تلك أصبحت مهددة بالإنهيار في ظل الوضع القائم الذي أكدته الوقائع والمعطيات العلمية والميدانية حول مستقبل اللغات في العالم، وبناء عليه، لا تتوجس الطبقة الفرنكفونية الحاكمة والمتحكمة في دواليب الاقتصاد المغربي المدعـومة من فرنسا الوصية، لا تتوجس ولا تتخوف من اللغة العربية فحسب، بل هي قلقة من الانتشار المهول للغة الإنجليزية في العالم وبالأخص في البلدان التي تصنف كبلدان فرنكوفونية ومن بينها المغرب، وحيث أن اللغة الإنجليزية هي لغة فارضة نفسها لا محالة حاضرا ومستقبلا شأنها شأن اللغة العربية، بل باتت تهدد وجود اللغة الفرنسية بالمغرب اليوم وغدا، فقد دفع ذلك حماة الفرنكوفونية في المغرب أصحاب المصالح الاستثمارية للتفكير في قلب الآية، فعوض ترك اللغة الإنجليزية في المغرب تحل محل اللغة الفرنسية من حيث الإقبال والتعلم والاستخدام، فكروا في جعل اللغة الإنجليزية تحتل مكان اللغة العربية وبذلك تكون العربية الفصحى هي الضحية وليس العكس، وذلك حتى لا يُراوح دور الفرنسية مكانه بالمغرب ويظل ثابتا، وتستمر وضعية الفرنسية الاعتبارية قائمة كما هي وأحسن. وعليه، من أجل تحقيق ذلك، عملوا في البداية على الالتفاف حول القضية من خلال المطالبة باعتماد الدارجة في التدريس واستبدالها باللغة العربية الفصحى في المراحل الأولية والابتدائية، وبعد ذلك سيطالبون بإدخالها في المراحل الإعدادية والتأهيلية وربما الجامعية أيضا (لم لا فقد هزُلت)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى انبرى بهم الأمر إلى إيهام المغاربة كذبا وزورا بتلفيق حزمة من المغالطات والخرافات من جملتها أن اللغة العربية هي السبب في الهدر المدرسي، وإنما العكس هو الصحيح. ولكن المغاربة أذكى من أن ينجرفوا وراء مخططات يتمحور الغرض منها تسطيح عقولهم واستغبائهم.
2- مادام الاقتصاد المغربي لا يزال مجرد محمية فرنسية، هناك رؤوس أموال جديدة مرشحة للإنزال لتوظيفها في السوق المغربية على المدى القريب والمتوسط على شكل استثمارات أجنبية كبرى، لهذا قامت الفكرة على إعداد الأرضية لتيسير تطبيق هذا الأمر، وذلك من خلال خلق فئتين أو طبقتين داخل المجتمع المغربي، الأولى على شاكلة فئة نخبوية عبارة عن قلة قليلة تستفيد من امتيازات الاعتناء والتعليم الجيد حتى يتسنى لها بمفردها أن تحكم وتنفذ وتدبر وتسير، وهذا موجود الآن فعلا، والثانية على شاكلة طبقة متوسطة وضعيفة، محدودة من ناحية الدخل المادي وشاسعة من ناحية العدد، يتم إعدادها حتى تُستغل وتُستخدم كيد عاملة ليس أكثر، وهذا ما يبرر أيضا خلفيات الخطاب الملكي الأخير حول قضية التعليم.
3- إن أصحاب ندوة الدارجة ومن يحركونهم، لا يطالبون طبعا باعتماد الدارجة في التدريس من أجل تدريسها لأولادهم، هذا أمر بين، فهم يعلمون أولادهم في مدارس البعثة الفرنسية وبعدها يرسلونهم إلى معاهد وجامعات الخارج، وإنما يرتضونها فقط للأغلبية الساحقة من أبناء الشعب المغربي بغاية تكوين جيل آخر من الضباع على شكل قطيع أينما وجهتهم يقولون سمعنا وأطعنا، حتى يتم بذلك إنتاج جيل جديد لا يمتلك القيم والمقومات التي تؤهله لكي يحتل وينافس على مواقع الريادة في شتى المجالات، جيل غير قادر على الإنتاج المعرفي وغبر قادر على النقد العلمي والسياسي والاجتماعي والثقافي، وغير قادر على التمييز بين الصالح والطالح، جيل تجده لا يعلم شيئا عن أبسط أبجديات اللغة العربية الفصحى، لا يفرق بين المبتدأ والخبر وبين الجملة الفعلية والجملة الاسمية ولا يستطيع كتابة أبسط جملة مفيدة مكونة من فعل وفاعل ومفعول به، وعندما ينشأ جيل بأكمله على هذا المسار الشاذ، فالنتيجة تكون هي التمادي والاستمرار في مسلسل الانحطاط التربوي والتعليمي والقيمي، ثم تكوين جيل تائه وجاهل لنفسه من يكون وما هويته وما تاريخه وما لغاته الأم، ولا أود أن أقول أن استهداف اللغة العربية -لغة القرآن الكريم- هو استهداف للدين، حتى لا يقفز أحدهم متبجحا بأننا نتأثر بنظرية المؤامرة التي يفضل البعض التغني بها، مع أن نظرية المؤامرة هي نظرية حقيقية وصحيحة علميا وواقعيا وموجودة فعليا.
إن النقاش المنحرف والمفتعل حول الدارجة، لا يجب أن يشعرنا بأن هناك حربا لغوية في المغرب، فالصواب أن هناك من يريد أن يجعل من المسألة اللغوية قضية أزمة داخلية في المغرب، تظهر في شكلها أنها قضية ثقافية، والحقيقة أن الدوافع التي تحرك صانعيها هي دوافع اقتصادية وسياسية قبل أن تكون تربوية أو ثقافية أو هوياتية، حيث يرغب البعض في إدخال المغاربة في متاهات وانحرافات لا حصر لها، وإقحام الشكوك في قناعاتهم عبر الترويج لمغالطات وطراهات جاهلية، مفادها أن اللغة العربية الفصحى لغة غير نافعة وغير صالحة للبحث العلمي وللاستخدام في مجال الأعمال، في الوقت الذي تؤكد فيه الدراسات الميدانية والمستقبلية في العالم عكس ذلك، بل ونجد العديد من الأنظمة التعليمية الأجنبية الأوروبية منها والأمريكية تهتم باللغة العربية الفصحى وتعمل على تدريسها لتلامذتها وطلابها. فهل يليق ويعقل أن نشاهد الأوروبيين والأمريكيين وجل دول شرق آسيا يهتمون بتعلم اللغة العربية الفصحى ويُـسَخرون لذلك إمكانيات مادية وبشرية وفكرية هائلة، فيحين نفرط نحن في لغتنا الكنز وفي إرثنا التاريخي والحضاري بكل سذاجة وتخاذل؟ ولربما قد نجد الأجانب الغربيين يوما ما أعلم منا في اللغة العربية الفصحى، بل وقد يأتوا إلينا ليدرسونها لنا (أمر غير مستبعد) !
على هذا المحمل وإعمالا للمنطق السليم إن شئنا، ليس هناك إذن أزمة لغة في المغرب أو صراع وجودي بين اللغات كما يحب البعض أن يصوره لنا، مثلما صوروا لنا سابقا الصراع بين الحضارات والصراع بين الأديان، والحقيقة أن الأشخاص هم من يصنعون هذه الصراعات، فاللغة العربية هي اللغة الرسمية الأولى في المغرب بمنطوق الدستور الحالي وبإقرار الدساتير السابقة، وقد ألزم الدستور المغربي الجديد الدولة بأن تعمل على حماية اللغة العربية وتطويرها وتنمية استعمالها، وقبل كل هذا فاللغة العربية هي لغة وجود وكيان وهوية، في المقابل لا يمنعنا العمل على حماية اللغة العربية الفصحى والحفاظ عليها كمكسب للمغاربة من تعلم وإتقان اللغات الأجنبية المتداولة عالميا كاللغة الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية والصينية، حتى وإن اقتضى الحال أن يتعلم المغاربة اللغة الروسية أو الهندية أو ربما البنغالية فلا مانع في ذلك، الأهم أن نظل نُصر ونفرق بين أهمية تعلم اللغة العربية الفصحى وإتقانها كلغة الهوية والثقافة والدين والإرث التاريخي والحضاري مع ضرورة التدريس بها، بل وضرورة اعتمادها واستخدامها داخل المؤسسات، وبين تعلم اللغات الأجنبية الحية كلغات نكتسبها من أجل الانفتاح والتواصل مع الآخر ومواجهة مخاطر العولمة، دون أي انسلاخ واستيلاب نحو الغـرب.
الاستنتاج المستخلص الذي يبعث نسبيا على الارتياح من هذا النقاش جله، والذي شغل المغاربة الفترة الحالية، أن فكرة التدريس بالدارجة قد قوبلت بالرفض والاستهجان المجمع عليه من غالبية شرائح المجتمع المغربي، مما يدل على الوعي المجتمعي بالخبث والمكر الذي يضمره أصحاب هذه الفكرة. كما يجب أن يملأ أهل الدراية والتخصص الفراغات المتروكة لأهل العبث والجهالة التي يستغلونها لتناول قضايا وموضوعات هامة كهاته، والتي تهم وترتبط في غالب الأحيان بالمصير والمستقبل المشترك للمغاربة كافة.