الأسرة المغربية و التربية على القيم

عبد الرحيم هاشي

 

                                                     

       استجابة لرغبة اقرب الناس وأحبهم إلي ، بعد أن طلبت منه أن يحدد لي موضوعا يكون محور إحدى مقالاتي .. وبعد إذنه سأعدل نسبيا من العنوان الذي اقترحه علي ليصبح كما هو محدد أعلاه ، ليتناسب وموضوع الساعة خاصة مع أزمة القيم السائدة وانهيار المنظومة الأخلاقية في العالم بأكمله ، بالخصوص في مجتمعاتنا العربية ومنها مجتمعنا المغربي .. فأصبحت امتنا بحق جسدا بلا روح ، بعد أن ذهبت روحها وفاضت بسبب الانتحار القيمي لمجتمعاتها وشعوبها ..

1- بادئ ذي بدء ، إن الأسرة دون شك هي عماد المجتمع وركيزته الأساسية وهي المكان الطبيعي و المثالي لنمو الأطفال . هذه الخلية التي تبدأ بين زوج زوجة وتتطور إلى أب وأم وأطفال وأحفاد ... لها تأثير كبير على تكوين الطفل وتوجيهه . ففي هذه المؤسسة الاجتماعية يتربى الطفل على الحُب و يتعلم القيم الدينية والعقدية والأخلاقية و يكتسب المبادئ و الأصول ، وفيها ينمو ويكبر ويستعد لمواجهة مشكلات المجتمع أو يكون طرفا فيها . لكن بالتأكيد الآن بدأت الأسرة تعرف تفسخا وانحلالا ، وتراجع دورها في التوجيه ، مما تسبب في أزمة للقيم و المبادئ وانهيار للأخلاق الرفيعة ، وانتشار الفساد والانحراف  ...

2-  تجدر الإشارة إلى انه عندما نتحدث عن أزمة القيم ، فلا شك أن هذا الموضوع واسع ينتظم وفق نسق البناء الاجتماعي بمجالاته المختلفة والمتداخلة ، فهذا المفهوم لا يقتصر علي القيم الأخلاقية – التي هي محور مقالنا -  وإنما تتعدد أنواعه فهناك مجموعة من القيم  ومنها : القيم الدينية التي أصبحت تتخبط في خلل واضح من أهم تجلياته : التناقض الصارخ بين الخطاب والممارسة ، انتشار النفاق و الاهتمام بالمظاهر والغلو الديني أو  البعد عن الدين بشكل متطرف وممارسة الإلحاد ، بل ومحاربة الدين بأساليب مختلفة... و القيم الاجتماعية التي من المفروض أن تحمل في طياتها معنى المودة والتراحم والتكافل والتعاون و الأخوة ، أصبحت النرجسية والمادية والأنانية هي السائدة والبراغماتية - بمعناها الذاتي الانتهازي - لغة التفاعل والتعامل اليومي بين أفراد المجتمع المنبثقة من الليبرالية المتوحشة ... أما في القيم الثقافية فبتنا نتحدث عن اغتيال الإبداع تحت مسميات أخرى ومنها الفن العفن واغتيال الجمال و الفكر باستحداث أنماط ثقافية هجينة ومبتذلة ، والتطبيع معها بتوظيف خس لوسائل الإعلام ... أما القيم الاقتصادية فأصبح في زمننا  يسود الجشع والاستغلال و السلب و النهب والفساد والريع ، مما يزيد من ثراء الأغنياء على حساب الفقراء  ... و القيم السياسية أصبحت في بلدنا مائعة من حيث الخداع والتدليس و النفاق وأساليب المناورات والمراوغات و التزييف و تصفية الحسابات والصراعات الحزبية الضيقة وتحقيق المصلحة الخاصة مع طغيان الانتهازية والوصولية على حساب المصلحة العامة  إضافة إلى التقلب في المواقف ... ولعل الخيط الجامع بين هذه القيم هي الأخلاق ، فامتنا المتخلفة المتخلخلة انهارت أخلاقها ، وانطبق عليها قول الشاعر :

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ..فان هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا .

-3-  لا يمكننا الحديث عن انهيار القيم الأخلاقية دون إجراء مقارنة مبسطة بين الماضي القريب والحاضر ، ومثال ذلك : في الماضي ، و ضمن الأسرة الكبيرة ، كان أول شيء تتم التربية عليه هي الحياء و الحشمة والوقار.. فقد كان خلق الحياء جميلا يعلم احترام الكبار و توقيرهم وتقديرهم  .. كان خلق الحياء رفيعا يمنع خدش الأحاسيس ويضمن العلاقات الدافئة التي تجمع بين كل أفراد الأسرة والعائلة . وكان الكل يساهم في التربية ، الأب والأم والعم والجد والجدة ، الجار والجارة ..  وليس الحياء وحده ، بل مجموعة من القيم الأخلاقية التي  تربط بين أفراد الأسرة بل وحتى الحي  بأكمله ومنا أبرزها الصدق و الأمانة و الوفاء و الإخلاص والشهامة والإيثار والتدين كأبرز قيمة على الإطلاق  .. و كما ذابت الأسرة الكبيرة والممتدة وتلاشت ، فنشأت بدلا عنها الأسر النووية ، ذابت كذلك بعض القيم المتأصلة في النفوس من حيث احترام العادات و التقاليد الجماعية أو التمسك بالعقيدة الدينية وقيمها النبيلة و انتشرت بدل هذه القيم قيم الليبرالية  كطغيان النرجسية و الفردانية و سيادة الهاجس المادي بين الأفراد والحرية أو التحرر الذي يعني الانحلال الخلقي و الأخلاقي .

    سقطت القيم الأخلاقية التي تسمى بالتقليدية ، ومعها تلاشت الكثير من المبادئ التي تشكل أسس التربية السليمة لأطفالنا في مجتمعاتنا  .. و مع سقوطها بدأت مظاهر الشذوذ خاصة الجنسي و التطرف و الميوعة والانحلال تظهر فيه ومنها السحاق و زواج المثليين ...  ولعل فقدان الأخلاق لسلطانها على أفراد الأسرة التي تعتبر عماد المجتمع ، كان ذلك بمثابة الشوكة التي قصمت ظهره وأحدثت شرخا فيه وخلخلت بناءه وتماسكه ، فأصبحنا نعيش في تخبط يصعب التحكم في صيرورته و مآلاته و مصيره .

   4- من البديهي أن أول بذرة في الأسرة هي الأم الصالحة المربية ، وكما يقول الشاعر حافظ إبراهيم :" الأم مدرسة إذا أعددتها .. أعددت شعبا طيب الأعراق ".. ولا يمكن أن نطالب من أم تفتقد للقيم أن تربي أبناءها تربية فاضلة أو حسنة ، ففاقد الشيء لا يعطيه . وهذا معروف الرصافي  على حد قوله يميز بين الأبناء الذين ينبتون في جنان الأم الصالحة المعطاء المربية وبين الأم  الجافة المشاعر أو التي تخلت عن تربية أبنائها  (وليس النبت ينبت في جنانٍ   كمثل النبت ينبت في الفَلاة ) لكن الأهم من ذلك هو أن الأم الفاسدة لا يمكن أن ننتظر الخير من أبنائها :

    فكيف نظنُّ بالأبناء خيراً                 إذا نشأوا بحضن الجاهلات

    وهل يرجى لأطفال كمال                 إذا ارتضعوا ثدي الناقصات

 و الطبيعي أن الأم ليست وحدها المربية ، فللأب نصيب في هذه المسؤولية ، ولا يمكن كذلك أن يربى الأبناء على الصدق وأباهم يعلمهم الكذب المنزل ، وإذا كان الأب كذلك فاسقا أو فاجرا فلا يعقل أن ننتظر من الأبناء الصلاح .. فإذا كان رب البيت للدف ضاربا فشيمة أهل البيت الرقص .. و هنا لا نعمم بشكل مطلق ، فهناك بعض الاستثناءات  ، فقد يخرج الخبيث من الطيب و الطيب من الخبيث (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) وهاهو أبونا إبراهيم عليه السلام والده كان كافرا يعبد الأصنام ، و قوم الطائف اخرج الله من ذريتهم من يعبده ، عكس نوح عليه السلام ابنه مات كافرا .. مع هذه الحالات القليلة ، ففي معظم الأحيان يصنع الرجال من طرف الزوجين ولا يولدون كما يقال . وهنا يقول البعض : "أعطونا السنوات السبع الأولى للأبناء نعطيكم التشكيل الذي سيكون عليه الأبناء" ، أضيف  بل وحتى التشكيل الذي سيكون عليه المجتمع ويبنى عليه مستقبل الأمة ..

5- تتعد الأخطاء التي يقع فيها الآباء في تعاملهم مع الأبناء ، في صراعهم من اجل تربيتهم ، ومنها – على سبيل الذكر لا الحصر - المعاملة المتطرفة إما بشكل قاس جدا أو لين إلى حد الضعف ، ومنه العقاب الشديد والزجر والتوبيخ على ابسط الأشياء أو الإهمال المبالغ فيه أو التربية المدللة التي تخلق الأشخاص العبثيين أو الفوضويين ، إضافة إلى تناقض الآباء في القول والسلوك فتجد الأب ينهى على سلوك وهو أول من يخالفه ، كمن ينهى عن الكذب وهو يمارسه و التدخين و هو لا يفارق السيجارة .. آو الأم التي تنافق صديقاتها تتحدث عنهن بسوء في غيابهن  وتجاملهم في حضورهن ، وبالتالي فان الأبناء يتعلمون منهما مساوئ الأخلاق .. إضافة إلى الصراعات الزوجية و نشر أسرار البيوت وقلة الحياء وانعدام الغيرة أو التساهل مما يولد لدى الأبناء تطبيعا مع البذاءة والفحش  .. دون أن ننسى الفراغ الذي يستغله الأبناء في غير ما ينفعهم ومنها العاب الفيديو أو الموسيقى الماجنة والفيديو كليبات  الخليعة .

و للمقررات الدراسية نصيب مما ترك الوالدان ، والتي تخلق للطفل التناقض والتضارب حول القيم التي يمكنه أن يختارها ، فهذا مدرس ينهى عن الغش ويسمح بممارسته ، وأخر يحث عن المواطنة و لا يقوم بواجبه ، و ثالث يتحدث عن التضحية وهو أول من يتغيب بدون مبرر وينتظر بفارغ الصبر الراتب وحلول العطل .. كما أن التناقض بين الأسرة والمدرسة في الرعاية والتربية له أثار سلبية تفقد الأبناء الثقة فيهما معا .. فالعلاقة بين التربية والتعليم علاقة تلازم فإذا كانت التربية أداة التغيير، فان التعليم أداة البناء ، وأي خلل في التقاطع و التكامل بينهما يخلق فردا سكيزوفرينيا ومجتمعا مشوها .

وكل ما سبق تزكيه أو تكرسه وسائل الإعلام حسب اتجاهها .. في بلدنا وللأسف فدور وسائل الإعلام هدام ، و مؤثراتها خطيرة وسلبية ، موادها صهيونية مائعة ، ينطلق علينا قول شمعون بيريز الصهيوني المتطرف "لسنا نحن الذين سنغير العالم العربي، ولكنه ذلك الطبق الصغير الذي يرفعونه على أسطح منازلهم .."   ونشير إلى أن الأسرة لا تؤثر في الأبناء تأثيرا أليا آو ميكانيكيا فللمحيط دور هام في تنشئة الأطفال والى جانب الإعلام وهذا لم يعد خافيا ، فالشارع أصبح له تأثير خطير على تربية الأبناء ..

6- وعلى ما يبدو  أن الكثير من الأسر أصبحت مفككة و منخورة من الداخل ، حتى وان بدا بنيانها مرصوصا من الخارج . فقد أصبح كل فرد يعيش في عالمه الخاص ، وكل له همومه الخاصة و مشاكله التي يفضل أن يشاركها أصدقاءه عبر صفحات التواصل الاجتماعي على أن يشاركها أسرته .. وأحيانا لا يشعر الآباء أو الأبناء بأي التزام نحو أسرته ، مما يساهم في هشاشة العلاقات التي تقوم عليها الأسر و اهترائها . فالكثير من الآباء أصبحوا مهملين منشغلين بمهامهم خارج البيت ، يفضلون أن يمضوا أوقاتهم في المقاهي على أن يمكثوا في المنازل ، ولا يأتي بعضهم إليها إلا ليرقد ...

نتيجة لهذا التباعد بل والتنافر ، اغتيلت العاطفة و الحميمية الأسرية بين الآباء و الأبناء ، وأصبح الأطفال يجدون ضالتهم في أصدقائهم الذين يتفاعلون معهم ، فيبنون معهم علاقات عاطفية ، إما بين الجنس  الواحد حيث رفاق السوء يتعلمون التعاطي للمخدرات و المحرمات في غياب الرقابة أو بين الجنسين حيث تبنى العلاقات على أسس من الانحلال و التفسخ .. ونجد أحيانا بعض الآباء يتعمدون أن يؤدوا واجبات أبنائهم للاستفادة من دروس الدعم لإبعادهم أكثر من حياتهم الخاصة " باش نتهاناو منهم " ، مما يزيد في الساعات التي يقضيها الابن آو البنت في الخارج ويضاعف خطر انحرافه بسبب هذا الإهمال الأسري  .. الأم كذلك منشغلة إما بسبب العمل أو بالأفلام والمسلسلات و أخر صيحات الموضة والأزياء .. وإذا تحدثت مع احدهم يجيبك: "ّ اش خاصو ؟؟ يأكل ويشرب ويلبس ما يريد ونشتري له ما  يشاء " .. دون أن يدري انه يحتاج إلى الرعاية والمتابعة و تغذية أخرى من نوع خاص .. قال صلى الله عليه وسلم : " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول "  . 

 


-7- أمام كل ما سبق ، أصبحت الأسرة المغربية المحافظة تعيش في صراع يومي للتربية مع القيم ضد التيارات الانحلالية والتفسخية التي تمثلها وسائل الإعلام بمختلف أنواعها التلفزية و الالكترونية ، سواء كانت الوطنية أو الأجنبية ، الموجهة أساسا لهدم هذه المنظومة التي كانت تمثل إلى عهد قريب جدار منيعا يصعب اختراقه للتلاعب بمصير الأمة لكنه تهاوى.. ومع الشارع المتناغم مع الآلة الإعلامية الهدامة .. و المدرسة التي لم تعد تؤدي الدور المنوط بها في التربية والتكوين .  و لكي نرتقي فالتربية الأسرية على القيم الدينية – عبر الأسرة و المدرسة و الإعلام - هي المفتاح لإصلاح المجتمع وإصلاح أموره