شبابنا و تشي غيفارا..أية علاقة؟

شبابنا و تشي غيفارا..أية علاقة؟

 

بوسلهام عميمر  

عادة ما تؤثث المسيرات الاحتجاجية بشخصية هذا الثائر الأحمر، الذي أصبح أيقونة الحراك العربي على الخصوص، في شكل لافتات كبيرة تحمل صوره بلحيته المنفوشة وبشعره المسدل وبقبعته المتميزة وأحيانا بسيكاره الكوبي. أو في شكل قمصان عليها صوره يتباهى الشباب بإبرازها على صدورهم. أو في شكل تقمص مظهره البراني بالنقطة والفاصلة، كنوع من الرفض والاحتجاج والثورة على الواقع المعيش، لتنهتي القصة بهذا المظهر الثوري عند رؤوس الدروب والأزقة مستندين على حيطانها النهار بطوله وعرضه، وجزء كبير من الليل بما أن لا شغل لهم ولا مشغلة، بضفائر مضفورة بعناية و تبادل لفافات الحشيش وإطلاق العنان لكل أنواع السب والشتم، والحقد على كل من يملك ولو دجاجة، اكتسبها بعرق جبينه...

ما أفدح كسلنا وما أفظع جهلنا، لما نختزل حياة العظماء، وإن اختلفنا جملة وتفصيلا، مع منطلقاتهم ومرجعياتهم، في مظاهر وأشكال لا تهش ولا تنش.

أتساءل مع نفسي، خاصة لما عدت إلى بعض ما كتب عن هذا الرجل، ما محل هوس شبابنا   و ما محل الافتتان به؟ بصوره من الإعراب، وتقمص شخصيته؟

 إنه عنوان تخلفنا بامتياز.

فالرجل طيلة حياته دائم الحركة. لم يستكن أبدا، ولم يعرف للراحة طعما، رغم مرض الربو الذي لازمه، وإصابة رئتيه.

 ينحدر من أسرة أرجنتينية. التحق في سن السابعة عشر بكلية الطب، بهدف مساعدة الفقراء طبيا لمواجهة داء "الجذام" الذي كان يحصد المئات، وماديا، بغية تحسين ظروفهم المعيشية. وقبل أن يتخرج منها طبيبا في سن الخامسة والعشرين، قام رفقة أحد أصدقائه بجولة طويلة، شملت جل دول أمريكا اللاتينية، على متن دراجة نارية.

لنلاحظ المفارقة. شبابنا المغرم بشكله وبهندامه، هم أيضا يملكون دراجات نارية وربما متطورة مقارنة بدراجته، ولكن للأسف ماذا يصنعون بها أكثر من ترويع الناس، بعد منتصف الليل؟

ساهمت رحلته هاته بشكل كبير، في تشكيل وعيه بخصوص تسلط الهيمنة الامبريالية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية على دول الجنوب الأمريكي. فلاحظ بؤس الفلاحين الهنود، واستغلال العمال في مناجم النحاس بشيلي مقابل سد الرمق، أو دونه بكثير.

 زار بوليفيا والبيرو مرورا بباناما وبلدان أخرى. كانت جولته مناسبة ليفتح نقاشات مع أهلها في كل مكان تقريبا، ساعده في ذلك ثقافته الواسعة نتيجة ولعه بقراءة الكتب الفلسفية والسياسية التي كانت في غالبها، تحكي قصص الشعوب المضطهدة التي تناضل من أجل استقلالها.

في 1954 توقف في كواتيمالا ليشارك في مقاومة الانقلاب العسكري دبرته المخابرات الأمريكية. و 1955 التحق بالمكسيك حيث تعرف على فيديل كاسترو الذي كان في حاجة إلى طبيب، فبرز تشي غيفارا أيضا كقائد ومقاتل شرس لا يهاب الموت، سريع البديهة يحسن التصرف في الأزمات. سجن لمدة شهرين مع كاسترو ومجموعة من المتمردين ثم أطلق سراحهم، ليواصلوا الثورة ضد الدكتاتور باتيستا، إلى أن تمكنوا من الإطاحة به.

تقلد عدة مناصب بعد استقرار الحكومة الثورية في كوبا، تولى رئاسة البنك المركزي ووزارة الصناعة ومسؤولية التخطيط وسفيرا منتدبا لدى الهيئات الدولية الكبرى.      

تصدى بحزم لكل أنواع التدخلات الأمريكية، بقراره تأميم جميع مصالح الدولة، بالاتفاق مع كاسترو. مما جعل الولايات المتحدة تشدد الحصار على كوبا.

لم يمكث بكوبا طويلا، إذ سرعان ما اختفى عن الأنظار، متجها نحو الكونغو الديموقراطية    لينضم للثوار هناك بجانب لومومبا. فشاع بين الناس أنه اغتيل إلى أن  بعث برسالة إلى رفيق دربه. فبعدما أكد له تحلله من كل مناصبه في كوبا، قال له:

"إن الثورة تتجمد وإن الثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي. وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة داخلي".

 فظهر أخيرا في بوليفيا قائدا للثورة التحررية هناك، إلى أن ألقي عليه القبض ووقع في الأسر بأحد وديانها الضيقة، بعد تضييق الخناق عليه، رفقة ثلة من رفاقه 16 ثائرا، مقابل حوالي 1500 جندي من القوات البوليفية. نفذوا فيه حكم الإعدام رميا بالرصاص في أكتوبر 1967، دون الإعلان عن مكان دفنه، حتى لا يكون محجا للثوار من كل أنحاء العالم.

لم تمنعه حياته هاته، الحافلة بكل هذه الأحداث الجسيمة والمحفوفة بكل صنوف المخاطر، من كتابة مجموعة من المؤلفات. نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر:

حرب العصابات// الإنسان والاشتراكية في كوبا// ذكريات الحرب الثورية الكوبية// الأسفار تكون الشباب..والوعي// الإنسان الجديد..

فهذا غيض من فيض من حياة هذا الرجل. فطريقه هذه، كما رأينا، لم تكن مفروشة بالورود.

فما رأي شبابنا المغرم بشكله الخارجي ؟

ماذا لو حاولوا تجاوز العتبات المتمثلة في مظهره البراني، لاكتناه حياته النضالية؟

من نافلة القول ليس المقصود التأسي بولعه الثوري بحمل السلاح في الغابات والأدغال. فالوضع غير الوضع، والزمن غير الزمن، ولكن المقصود هوإبراز إرادته الصلبة، واقتحام العقبات، وطموحاته النضالية التي لم تكن تحدها حدود؟

 نتفهم  جيدا شكل غيفارا "المهمل". فالرجل لم يكن يتنقل بين الفنادق خمسة نجوم، تتوفر فيها كل وسائل الراحة وأدوات الزينة، بقدر تنقله في الغابات والأدغال والجبال والوديان المقفرة جنبا لجنب مع الثوار. لكن المثير ما بال شبابنا يبزون النساء أمام المرايا قبل الخروج من بيوتهم. "فشتان بين من يده في الماء ومن يده في النار" كما يقال؟

ما أحوج مجتمعاتنا إلى إرادات حديدية كهاته، لتسخيرها في البناء. إرادات منتجة لا تركن للظروف. فبدل أن تشعل الشموع تنير بها طريقها، تظل تلعن الظلام. الزمن يمر و لا يرحم الكسالى والخاملين الذين لا هم لهم غير أشكال لحاهم الهندسية، وطول ضفائرهم، ومدى انحطاط سراويلهم عن مؤخراتهم، ولفافات الحشيش وصور غيفارا، وانتظار الذي يأتي أو لا يأتي.

ترى لو ركن غيفارا لمرضه، وقعد في بلدته الأرجنتينية يلعن الظلام فهل كان سيذكره أحد؟

 

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة