صناعة الموت في المستشفيات المغربية
يوسف أريدال
احتجاج وزير الصحة المغربي الحسين الوردي، عقب بث برنامج ترفيهي على إحدى القنوات العمومية، وعدم رضاه عن الرؤية التي أراد مقدم البرنامج أن يصور فيها الممرضات بأنهن لا يعاملن المرضى معاملة جيدة ويسرقن ما تجلبه الأسر من مؤن ولا يعتنين بهن، وما تلى ذلك من رسائل بعثها لوزير الاتصال مصطفى الخلفي الوصي على القطاع ومدير القناة الثانية سليم الشيخ ورئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري"الهاكا" أمينة المريني الوهابي، معتبرا ما تضمنته الحلقة "إساءة لمهنيي القطاع" وواصفا ما قاله المنشط التلفزي "تهما مجانية ورخيصة". غضبة الوزير، كانت ستكون ذات صدى ومقبولة، إن هو تعامل مع كل ما يشوه سمعة الصحة ويضر بالمواطن من زاوية متساوية، ويحتج في كل القضايا التي تمس بهيبة قطاع الصحة ويكون جريء في النبش والتنقيب عن مافيات الأدوية التي تقتل المواطن الضعيف بمضاربتها في أثمنة الأدوية، وميلشيات الأطباء والممرضات الذين يتاجرون في حياة المغاربة غير مكترثين بقسم أبو قراط ، وخفافيش الظلام الذين يتركون المستشفيات العمومية ويتسكعون في المصحات الخاصة باحثين عمن يدفع لهم أكثر.
كل الجرائد الوطنية طيلة أيام هذا الأسبوع، خصصت مساحات مهمة من مانشيتاتها ومقالات وتقارير صحفية، متابعة ومحللة للغضبة الوزير على مقدم البرنامج، ومتابعة الفعل ورد الفعل، ولا أحد أثاره خبر منشور في جانب مظلم من جريدة يومية، يتحدث عن رجل مريض يعاني من أورام في الرجل يمكن أن تتطور إلى بتر القدم، مما جعل الطبيب المتابع لحالته الصحية بمدينة سلا، أن يطلب منه زيارة مستشفى ابن سينا بالرباط لإجراء فحوصات وتحاليل طبية معمقة، لمعرفة مدى انتشار الورم، وهل يحتاج إلى البتر أم إلى عمليات جراحية فقط.
لكن صدمة عائلة المريض كانت كبيرة ووضعتهم في حيرة من أمرهم، فكيف يعقل لحالة مستعجلة جدا، تطالب بفحوصات لا تحتمل التأخير، لتبين درجة انتشار المرض والورم، لكن الشغيلة التي يناضل من أجلها سيد الوزير أعطت إلى المريض موعد لإجراء الفحوصات في سنة 2015، بأي منطق وبأي مهنية يمكن أن يمنع مريض وصل درجة الخطر من تمكينه من فحوصات طبية؟
ألا يعتبر تصرف من هذا القبيل في حق مواطن في أمس الحاجة إلى المعالجة الطبية وأخذ فحوصات، خطأ مهني يستوجب فتح تحقيق في القضية واستقالة الوزير؟، لماذا نسترخص حياة الفرد في بلد يتشدق مالكيه بحماية حقوق الإنسان؟
لماذا تستشهدون بديمقراطيات بلدان بعيدة عنا سنين ضوئية لتبرير قوانينكم وألاعيبكم الماكرة؟، ولا تذكرون هذه البلدان كيف تتصرف في مثل هذه القضايا،
نذكركم سيادة الوزير بما وقع سنة 2005، حينما قدم وزير المالية الفرنسي أيرف غيمار استقالته إثر الفضيحة التي أثيرت حول إقامته في شقة سكنية فاخرة يبلغ إيجارها 18.500 دولار شهرياً على نفقة الدولة فيما تحاول الحكومة المحافظة فرض مجموعة من الإجراءات التقشفية لخفض النفقات العامة، وجاء في بيان استقالته الذي نشر في وكالة الأسوشيتد برس : "أدرك أنني ارتكبت أخطاء فادحة وسوء تقدير شديد فيما يتعلق بظروف إعاشتي الرسمية". وفي فرنسا كذلك استقال وزير الميزانية جيروم كاوزاك في حكومة فرانسوا هولاند في أعقاب إعلان المدعين في فرنسا فتح باب التحقيق معه بشأن التقارير التي تحدثت عن احتفاظه بحساب مصرفي سري في سويسرا للتهرب من الضرائب.
نموذجان من ديمقراطية فرنسا القريبة من قلوب سياسيين المغاربة، الذين ترعرعوا في حضنها ودرسوا في معاهدها، للإستفادة قليلا وأخذ دروس محو الأمية السياسية وتعلم أدبيات العمل السياسي في حالة الوقوع في خطأ سياسي يمس مصالح البلاد والعباد. فالإستقالة مسألة واردة في أي لحظة من لحظات الحياة السياسية لأي وزير أو سياسي في بلد ديمقراطي. والإستقالة هي اعتراف بالتقصير في خدمة الشعب والوطن واعتراف بخطأ وقع فيه الوزير أو اختلالات كيفما كانت في وزارته تدخل ضمن اختصاصاته.
إيجار شقة سكنية فاخرة وامتلاك حساب بنكي سري في بلد أخر دون التصريح به ضمن ممتلكاتك، كفيلة بأن تنهي مشوارك السياسي وتفرض عليك التخلي عن منصب الوزير وتقدم استقالتك في الحين بدون التفكير أو محاولة إقناع الشعب بأنك وقعت في غبن أو خطأ.
إن كانت الشقة والحساب البنكي، تستدعي الاستقالة والمثول أمام القضاء، فما بالك بمن يسترخص حياة المواطنين ويعرضهم إلى الخطر، ولا يقدم الخدمة الضرورية والواجبة عليه ولا يستطيع بسط نفوذ السلطة التنفيذية على القطاعات المتداخلة مع وزارة الصحة، وجعلها تحترم صحة المواطن ولا تتاجر في حياته من أجل التربح. فرق شاسع بين من يحاسب على حساب بنكي يحوي بضعة دولارات، وبين من يتلاعبون بصحة الملايين في غياب أدنى محاسبة ومساءلة.
أخبار ولادة نساء أمام أبواب المستشفيات بعد رفض الممرضات استقبالهن، وشراء عائلات المرضى لوازم العمليات الطبية وإحضار الأغطية والأفرشة مع المريض إن هو أراد المكوث في الفندق الغير المصنف صحيا للسيد الوردي، وسهر عائلة الأم حديثة الولادة طيلة الليل خوفا من سرقة مولودهم من طرف القطط التي تتقاسم الأسرة والمستشفى مع المرضى.
ومن مظاهر معاناة قطاع الصحة في المغرب أيضا، وجود نقص مهول في الأطر الصحية، ففي بلد يتجاوز عدد سكانه 30 مليون نسمة لا يتجاوز عدد الساهرين على الصحة العمومية فيه 47 ألف موظف، حيث لا يتجاوز عدد الأطباء 46 طبيب لكل 100 ألف نسمة (مقابل 70 في تونس و300 في فرنسا) و10 ممرضين لكل 10 ألف نسمة، وهو ما جعل منظمة الصحة العالمية تصنف المغرب من بين 57 دولة تعاني نقصا حادا في الموارد البشرية، إذ يعاني المغرب من خصاص في الميدان الصحي لا يقل عن 6000 طبيب و9000 ممرض. ومع أن تدبير قطاع الصحة يدخل في إطار تدبير القطاعات الاجتماعية إلا أن ذلك لم يغير شيئا من الواقع المريض الذي تئن تحت وطأته الصحة العمومية، حيث يجد الآلاف من المغاربة صعوبات بالغة في الولوج إلى الخدمات الصحية إما بسبب البعد الجغرافي والذي مازال عائق كبير جدا، لم تستطيع أي حكومة مذ الإستقلال القضاء عليه، أو غياب الضمانات المالية، وعدم مسايرة السياسة الصحية في المغرب للتطور الديمغرافي مما خلق إشكالات بنيوية خطيرة.
كان الأولى أن يكون احتجاج سيادة الوزير ومعه جميع الوزراء وكل الأطر الصحية، في سياق البحث عن الحلول التي تقضي على مثل هذه الاختلالات التي أصبحت وصمة عار على المغرب بصفة عامة والقطاع الصحي بصفة خاصة، فلا يعقل أن نجد مستشفيات في القرن الواحد والعشرين، خارجة الخدمة ولا يوجد فيها أبسط المستلزمات الطبية، وتفتقر إلى الأطر الطبية اللازمة.
فالسياسة الصحية في المغرب، كمثيلاتها في جميع القطاعات بدون استثناء، فغياب مشروع مجتمعي متكامل يجيب على إشكالات الشأن العام بوضوح ومسؤولية، ويعري الواقع بكل جرأة سياسية ويجسد مكامن الضعف والخلل، ويرسم سياسة واضحة للمستقبل بمشاركة جميع الأطياف والفصائل السياسية بدون استثناء. أنذاك يمكن لنا القول بأن المغرب خرج من غرفة العناية المركزة وبدأ يتعافى من السكتة القلبية.