المهدي والإهانة

المهدي والإهانة

احمد اضصالح

 

إنه المهدي الذي جف قلمه بسبب داء الباركنسون:

البروفسور المهدي المنجرة، مفكر مغربي وعالم في الدراسات المستقبلية، من مواليد 1933م بمدينة الرباط. أتم دراسته في أمريكا بعد أن طرد من ثانوية ليوطي بمسقط رأسه سنة 1948 لا لشيء إلا أنه جادل أساتذته في شأن الاحتلال الفرنسي للمغرب وقتئذ.

عين الرجل مديرا للإذاعة والتلفزة المغربية سنة 1954، واشتهر برفضه للعديد من المناصب الوزارية بحجة التفرغ للعلم والمعرفة.

حصل على أكثر من جائزة في الكثير من البلدان، كما تقلد أسمى المناصب في المنظمات الدولية وفي مقدمتها “اليونيسكو”.

ويوجد هذا الهرم الكبير في بيته بمدينة الرباط طريح الفراش بسبب داء “الباركنسون” حتى وافته المنية يوم الجمعة الماضي (15 يونيو) دون أن يلتفت إليه المسؤولون ووسائل الإعلام الرسمية التي طالما انتقدها في طيات محاضراته، وهو المؤلف للعديد من الكتب الفكرية الرائعة يأتي في مقدمتها الكتاب الموجود بين أيدينا: “الإهانة في عهد الميغا امبريالية”.

 الإهانة في عهد الميغاامبريالية:

“الإهانة في عهد الميغا امبريالية”، عنوان كامل لكتاب تضمن درر المعاني للمهدي المنجرة تحدث فيه عن النهاية الطبيعية الوشيكة للغطرسة الأمريكية وعن الحرب الحضارية الثانية التي هي حرب ضد “القيم غير اليهودية والمسيحية”، كما أقر بقدوم تغيير نحو الأفضل منتقدا بشدة بعض المنظمات الدولية وفي مقدمتها “اليونيسكو” التي خبر أغوارها جراء الصمت المفضوح الذي شاب إتلاف المآثر الحضارية العراقية عقب التدخل العسكري الأمريكي واشياء أخرى..

 

المنجرة: “زرع الرعب نتيجة طبيعية للخوف وفقدان الثقة”:

 

بعد تسلم الولايات المتحدة الأمريكية مشعل الزعامة من الاتحاد السوفياتي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، حاولت وبشكل كبير بسط نفوذها وسيطرتها على العالم لتحقيق أهداف إمبريالية محضة بطريقة جديدة تتخذ من وسائل التكنولوجيا الحديثة والأجهزة الاستخباراتية الآلية والبشرية سندا لها.

وهكذا حشرت هذه القوة الجديدة نفسها في “حروب حضارية” أولاها حرب الخليج (الحرب الحضارية الأولى) وما صاحبها من تبعات سيئة الذكر على الصعيد الإنساني وتواطؤ الكثير من التنظيمات العالمية التي نصبت نفسها حكما بين شعوب الأرض.

لم تمر حرب الخليج 1991 دون أن تتنازعها أطروحتان رئيسيتان: الأولى للدكتور المهدي المنجرة الذي اعتبر أطروحته مجرد رؤية استشرافية توجيهية (الحرب الحضارية) تقتضي من الإنسانية تدارك الأمر قبل فوات الأوان وجعل الحضارات وسيلة للتقارب، إذ هي “البذرة الأساسية للسلام”. أما الثانية فهي ل”صمويل هتنجتون” في (صدام الحضارات) كأن الأخيرة وجدت أصلا لتتصارع وتتصادم دون قبول بالآخر كلية.

ولهذا نجد السياسة الإمبريالية الأمريكية منساقة بشكل كبير مع الأطروحة الثانية فجنت على البشرية حروبا ودماء، مما عجل بسقوط إمبراطورية هذا الزمان في دوامة الخوف من الآخر المفضي إلى الإسراع في زرع الرعب فيه كوسيلة مثلى للدفاع اقتداء بتوجيهات الفهرر الألماني: “أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم”.

هذا إذن ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية توظف عنصر “الخوف “في سياساتها الداخلية والخارجية لإخضاع الشعب الأمريكي دافع الضرائب الذي لم يعد يطيق الإنصات لبروباغندا مسؤوليه وكذبهم المتواصل، خاصة وأن أحداث 11 شتنبر 2001 ستستغل أبشع استغلال لشن الحرب الحضارية الثانية على أفغانستان وشرعنة كل التدخلات العسكرية والاستخباراتية في العالم الإسلامي.

حين صرخ المنجرة: “التغيير قادم لا محالة..”

 بعد أحداث 11 شتنبر 2001، سارع صانعو السياسة الامريكية إلى إطلاق أحكام مسبقة وتصنيف العالم دونهم إلى صديق وعدو أدى ذلك إلى حروب كبرى وصدامات خلفت الملايين من القتلى والجرحى.

كان على رأس تلك الحروب: “الحرب الحضارية الثانية”، حرب أفغانستان وتشخيص لها في: (أسامة بن لادن)، صناعة المخابرات الأمريكية كخطوة ذكية لتوجيه الرأي العام الدولي. وقد جربت في هذه الحرب شتى صنوف الأسلحة الثقيلة والقنابل المميتة على رؤوس الأبرياء دون وجه حق يذكر.

في هذه الحرب، استنزفت موارد بشرية ومادية منقطعة النظير أدت بالقيم الإنسانية إلى الهاوية وحكمت في العالم منطق الغاب بحيث يغلب القوي الضعيف ويسلبه ويستذله ويوجهه كيفما اتفق ويرغمه في الأخير على القبول بأمر الواقع، حتى إن جورج بوش قال في حق أول جندي مات هنالك: “ما أشرف أن يموت الإنسان في سبيل وطنه”.

وإذا كانت هذه الحرب صدام “مع القيم غير اليهودية والمسيحية”، فإنها ستكون نقطة انطلاق لشن هجوم كاسح على العراق سنة 2003 في خطوة تصعيدية ستؤسس لمفهوم (الخوفقراطية) باعتباره أسلوبا جديدا وظف من الولايات المتحدة لضمان استقرارها المزعوم.

إن الحرب على العراق هي بالأساس كسابقتها حرب قيم حضارية، وهي خوف من الإسلام ولنسمي الأشياء بسمياتها – يقول المنجرة-، كما أنها حرب ضد الجمال وضد الإبداع والتراث وضد الفن الذي يعتبر المعيار الحقيقي للتقدم وليس الطائرات والأسلحة الجديدة.

ولما كانت أمريكا فارغة من حيث الشق الحضاري والتاريخي لجأت إلى كسر أزيد من 200 ألف قطعة أثرية ونهبها، جمعت خلال 7 آلاف سنة.

أما اليونسكو فقد وقفت جراء هذه الكارثة الإنسانية وقفة المتفرج لذلك اسحقت التوبيخ وقد أخذت -يقول المنجرة- لأكتب رسالة لمديرها حول ما حدث ولكن لما رأيت تواطؤا تراجعت عن الأمر ما دامت الرسالة لن تنفع في مثل هذه الظروف.

وإذا كانت الخريطة السياسية العالمية اليوم مبنية كلها على مفهوم (الخوفقراطية) فإن التغيير لا محالة قادم مع سقوط الولايات المتحدة الأمريكة الوشيك ووعي الشعوب وأنظمتها بضرورة مسايرة أي تحول مرتقب على اعتبار الكرة الارضية اليوم قرية صغيرة بفعل وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة.

 “نحن نعيش بالخوف.. !!”

 

لم يكلف الدكتور (المهدي المنجرة) نفسه عناء الإطناب في بيان بعض المصطلحات التي يطلقها بين الفينة والأخرى في طيات مؤلفه الذي بين أيدينا من قبيل “الذلقراطية ” والخوفقراطية”..، بقدر ما فصل الكلام في كيفية خضوع نخب البلاد العربية والإسلامية لضغوطات “الميغا امبريالية” وتم بذلك تجسيد هذا الخضوع على مستوى القاعدة الشعبية تبعا لنظريتي الخوف والذل المركبين.

إن الخوف من “الآخر” الذي يسكن دواخلنا هو أهم تحد أمام التقدم الذي به تحصل الريادة الحضارية للأفراد والمجتمعات. وما دام الأمر على هذا الحال فإن التغيير آت لا محالة وفق قواعد الطبيعة التي لا تستقر على حال رغم أننا اليوم نعيش “في ظل عولمة فاشية شبيهة بالنازية على المستويات القطرية “، والتي لم تدع مجالا إلا وتدخلت فيه، حتى إنها أضحت تنفق 80 في المائة من ميزانية البحث العلمي على مجال التسلح الذي صار نقمة على القيم الإنسانية على شكل حروب حضارية مبيدة، والحرب الحضارية على العراق أكبر دليل بحيث ساهمت في تدمير شعب وحضارة دامت زهاء سبعة آلاف سنة ، وبالتالي “وجب إقامة محكمة دولية لمتابعة ومعاقبة المسؤولين أفرادا وجماعات..”.

وإذا كانت أحداث 11 شتنبر 2001، ساهمت إلى حد ما في توجيه الرأي العام الدولي نحو شن حروب حضارية على بعض البلدان الإسلامية وفي مقدمتها أفغانستان والعراق، وخلفت بذلك دمارا فظيعا أعلن موت القيم الإنسانية وموت المنظمات المدافعة عنها فإن “القوة الناعمة” المتمثلة في الإعلام تواطأت بشكل كبير فيما حدث ويحدث اليوم في الدولتين المذكورتين آنفا.

أما اليابان التي ساهمت هي الأخرى في حرب العراق فلن يشفع لها عذر الضغط أمام هذا التدخل العسكري السافر في بلد مسالم لم يصدر منه أي تهديد أو اعتداء، والشعب الياباني رافض للأمر لما تجرع هو نفسه من ويلات الغطرسة الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية، وبالضبط لما أسقطت قنبلتان نوويتان على “ناكازاكي” و”هيروشيما” سنة 1945. وفي هذا تحالف دولي مفضوح على الدمار الشامل للحياة والذاكرة والبيئة والقيم.

خاتمة:

 

هكذا أعلنت “الميغا امبريالية” حربا ضروسا على القيم في إطار “الإهانة” استنادا إلى نظرية “صمويل هتنجتون”، فيتوجب علينا بالتالي إيجاد مخرج لمعضلتنا هذه والتخلص منها عن طريق البحث عن كينونتنا ووجودنا، واعتماد لغة وطنية (عربية/أمازيغية) في البحث العلمي، واستثمار الطاقات البشرية مع الاستفادة من الحضارة الغربية دون الانسياق وراءها كلية وفق ما يدعو إليه “المهاتما غاندي” ودون محاولة نقلها “مباشرة كما هي عليه إلى بلداننا تماما، مثلما لا يمكن نقل نخلة من جنوب تونس إلى موسكو وننتظر أن تنبت بعد كل هذا!!”.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة