خطاب العرش.. الصياغة والتأويل
محمد الساسي
النبـرة النقدية التي مهـرت خطاب العـرش الأخير، الذي أُلقي في الذكرى الـ15 لاعتلاء الملك محمد السادس العرش، جعلت الكثيرين يعتبرون مضمون الخطاب مفاجئا وغير مألوف وسابقة أولى في تاريخ الخطب الملكية.
لقد ألف الرأي العام أن يعمد أغلب النخب إلى وصف كل خطاب ملكي بالتاريخي؛ لكن الإقرار،في الخطاب الأخير، بإمكان حصول خطإ أو أخطاء تهم مجال التقرير العمومي، خلال الفترة السابقة من حكم الملك محمد السادس، في صيغة لا تستبعد المسؤولية المباشرة للملك، نفسه، هو، في جميع الأحوال، شيء مهم، رغم ما قد يكون هناك من خلاف في تحديد طبيعة "الخطإ" ومصدره ونوع النتائج التي يجب أن تترتب عنالاعتراف به. إن ما جاء بالخطاب هو، بكل تأكيد، أفضل من قيام حاكم من الحكامبمخاطبة الشعب بعبارة: الآن "فهمتكم" والتصريحبأن المقربين منه قد أوقعوه في الغلط، ولكن بعد فوات الأوان.
اعتبر الملك، إذن، أن تخصيص خطب العرش لتقديم الحصيلة والمنجزات لا يجب أن يمثل طقسا أبديا، ولهذا اختار، بمناسبة خطاب العرش لـ 30 يوليوز 2014، أن يتجه إلى مباشرة نوع من "النقد الذاتي" وأن يدعو إلى إجراء "وقفة مع الذات" وإلى التساؤل عن إيجابيات وسلبيات المرحلة السابقة.
على مستوى الإصلاح السياسي والمؤسسي، صرح الملك بأن "لا أحد يمكنه أن ينكر التطور الديمقراطي الذي يجسده دستور 2011، ومنظومة الحقوق والحريات التي تتوفر عليها بلادنا، والإقدام على ورش الجهوية المتقدمة؛ غير أن الأثر الملموس لهذه الإصلاحات وغيرها يبقى رهينا بحسن تنزيلها وبالنخب المؤهلة لتفعيلها". أي أن المشكل، هنا، هو مشكل تفعيل ومشكل نخب فقط. ويجب التنبيه، في هذا المقام، إلى أن النظام، من جهة، يرفض، الخضوع،حتى الآن، لبنود دفتر التحملات الذي تلج به البلدان، عموما، فضاء الانتقال الديمقراطي، وأن هناك علاقة وطيدة بين هذا الرفض وبين حصول "خطإ" في القرار الاقتصادي؛ كما أن نفس النظام، من جهة ثانية، لم يتوقف، منذ عقود متوالية،عن السعي إلى صنع نخب على المقاس ومحاربة استقلاليتها ومنع توفير الشروط الكفيلة بتأهليها.
وعلى مستوى الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، يتساءل الملك: "هل ما نراه من منجزات، ومن مظاهر التقدم، قد أثر بالشكل المطلوب والمباشر على ظروف عيش المغاربة؟ وهل المواطن المغربي، كيفما كان مستواه المادي والاجتماعي، وأينما كان، في القرية أو في المدينة، يشعر بتحسن ملموس في حياته اليومية، بفضل هذه الأوراش والإصلاحات؟" ويضيف: "أتساءل باستغراب مع المغاربة: أين هي هذه الثروة؟ وهل استفاد منها جميع المغاربة، أم أنها همت بعض الفئات فقط؟" وينتقل الملك من التساؤل إلى صياغة الجواب الحاسم الذي لا يقبل الجدل: "الجواب على هذه الأسئلة لا يتطلب تحليلا عميقا: إذا كان المغرب قد عرف تطورا ملموسا، فإن الواقع يؤكد أن هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين، ذلك أنني ألاحظ، خلال جولاتي التفقدية، بعض مظاهر الفقر والهشاشة، وحدة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة".
ويستحضر الملك، بكل وضوح، فرضية حصول خطإ، على مستوى الاختيارات، من خلال قوله: "هل اختياراتنا صائبة؟ وما هي الأمور التي يجب الإسراع بها وتلك التي يجب تصحيحها؟ وما هي الأوراش والإصلاحات التي ينبغي إطلاقها"، ويضيف: "إذا كان الإنسان يعتقد أنه دائما على صواب، أو أنه لا يخطئ، فإن هذا الطريق سيؤدي به إلى الانزلاق والسقوط في الغرور". لكن الغريب أن فقرة أخرى من نفس الخطاب تعود لتؤكد أن المشكل، ربما، ليس في الاختيارات المنتهجة والتوجهات المتبناة، مما يعني ضرورة الإبقاء عليها وعدم مراجعتها، وجاء بالفقرة المشار إليها ما يلي: "التساؤل وإجراء هذه الوقفة مع الذات، لا يعني الشك أو التردد، أو عدم وضوح الرؤية. بل على العكس من ذلك، فطريقنا واضح واختياراتنا مضبوطة، فنحن نعرف أنفسنا، ونعرف ماذا نريد، وإلى أين نسير". فإذا كانت هناك ثقة في صواب الاختيارات والأولويات، واطمئنان إلى سلامة السبيل المنتهج، فأين يكمن، إذن، وجه الخطإ المفترض، وكيف يمكننا ضمان استفادة جميع المواطنين المغاربة من ثروات بلادهم ومن ثمار الأوراش المنجزة ومحاربة الفوارق الاجتماعية ومظاهر الفقر والهشاشة، دون المساس بالاختيارات؟ فطبيعة الخلل، كما جرى توصيفه، تقتضي، بالضرورة، استعمال أدوات للمعالجة لها تأثير مباشر على عملية رسم الاختيارات. وتكفي الإشارة، هنا، إلى أن الخطاب الملكي يوصي بـ "اعتماد معايير متقدمة وأكثر دقة لتحديد جدوى السياسات العمومية، والوقوف على درجة تأثيرها الملموس على حياة المواطنين"، فالعمل بهذه المعايير سيؤدي إلى استبعاد سياسات عمومية كانت متبعة وتبني سياسات عمومية جديدة لم يجر اعتمادها من قبل. وهذا يمثل، في حد ذاته، اختيارا جديدا بخلفية وآثار جديدة. لكن الخطاب، مع ذلك، سيسمح للبعض بتقديم تأويل مفاده أن الملك يشير إلى انتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى، لكن داخل نفس الاختيارات الأصلية، ولهذا أكد على أن "اختياراتنا مضبوطة"، وأن ذلك يعني الانتقال من مرحلة "التراكم المادي للثروة" إلى مرحلة "إعادةالتوزيع، بصورة أعدل، للثروة"، وأن المرحلة الأولى كانت ضرورية لتهيئة الظروف لبلوغ المرحلة الثانية، وأن هذه الأخيرة هي تتويج منطقي لتلك التي سبقتها. إن طرح التساؤل عن مدى صواب الاختيارات، من جهة، ثم الحديث، من جهة ثانية، عن كون الاختيارات "مضبوطة" قد يضع، أمام البعض منا، صعوبة في الإدراك الشامل والوافي لمعاني خطاب العرش. وتزداد الصعوبة عندما نريد، بالدقة المطلوبة، أن نتبين ماهية العلاقة القائمة بين الفقرة، من الخطاب، التي سبق أن أوردناها، والتي تشكك في مدى تأثير "التقدم" الاقتصادي الحاصل على ظروف عيش مختلف فئات المغاربة، من جهة، والفقرة التي جاء فيها أن "التقدم"الذي حصل "لم يكن على حساب النهوض بالتنمية البشرية" ! من جهة أخرى، هل المقصود أن التقدم الإجمالي المفترض الذي أفرزته السياسة الاقتصادية المتبعة لم يكن على حساب التنمية البشرية، وبالتالي فقد كان له "أثر مباشر في تحسين ظروف عيش المغاربة" ودور في "محاربة مظاهر الفقر والإقصاء والتهميش ببلادنا"،أي أن "النقد" السابق لم يعد له أساس، أم إن المقصود هو التمييز بين:
-محدودية الأثر الذي خلفته الأوراش والمنجزات الكبرى على مستوى ظروف عيش المغاربة؛
-أهمية الأثر الذي خلفته برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية باعتبارها خطة موازية، وفَّرَتْ للمستفيدين منها خدمات ساهمت في تحسين ظروف عيشهم؟
بمعنى أن أثر السياسة الاقتصادية والاجتماعية ليس واحدا، بل يجب أن يُقرأ على ضوء التمييز بين مستويين: مستوى الأوراش والمنجزات الكبرى، ومستوى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، المستوى الأول يستحق النقد والمستوى الثاني يستحق التنويه.
وبخلاف ما ذهب إليه الكثيرون، فإن "خطاب السكتة القلبية"، الذي تَقَدَّمَ به الملك الراحل أمام البرلمان عام 1995، كان أقوى في إبراز سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد والتي تنذر بحصول كارثة، واستند إلى البيانات الخاصة بالمغرب، في التقارير الدولية، ليقول: "قرأت هذه التقارير فوجدت فيها فصاحة موجعة وأرقاما في الحقيقة مؤلمة، ومقارنات تجعل كل ذي ضمير حي لا ينام". الحسن الثاني اعتمد نفس أُسسالتحليل النقدي للواقع الذي كانت تردده المعارضة، آنذاك، لإقناعها بضرورة قبول التناوب؛ ولكنه، في نفس الوقت، حَمَّلَ الجميع مسؤولية الحالة التي وصلت إليها البلاد، بما في ذلك المعارضون، أنفسهم، والذين اعتبر أنهم يؤثرون في التسيير، من خلال مواقعهم ومسؤولياتهم الإدارية. أما خطاب 30 يوليوز 2014 فلم يلجأ إلى تحميل مسؤولية ما حصل، من تأخر في تعميم ثمار النمو، إلى كل أطراف العملية السياسية، ولكن النخبة التقليدية التي كانت حريصة، في الماضي خلال عهد الحسن الثاني، على نقد كل ما يحتاج إلى نقد، تحاشت، على العموم ومنذ مدة طويلة، نقد السياسة الاقتصادية والاجتماعية الملكية التي اصْطُلِح على تسميتها، أحياناً، بسياسة الأوراش الكبرى؛ ولنقل، على سبيل التفكه، إنها فضلت نقد "الأوراش الصغرى" التي تتقرر في مستوى أدنى من ذاك الذي تتقرر فيه الأوراش الكبرى..
الخطاب الملكي الأخير، ورغم ما قد تثيره صياغة بعض فقراته من استفهامات، فانه وَجَّهَ، رسميا، ما يشبه الدعوة إلى إعادة تقييم سياسة الأوراش الكبرى، في حدود معينة ربما؛ وهي السياسة التي تنضوي تحت لوائها مجموعة من البرامج القطاعية (مشاريع البنية التحتية – أزور – المبادرة الوطنية للتنمية البشرية –إيميرجانس– المغرب الأخضر..إلخ)، وخاصة من خلال محدودية أثرها في تحسين ظروف عيش المغاربة قاطبة وفي تمكينهم من جني ثمارها وتقليص الفوارق القائمة بينهم.
وهكذا يتضح، مرة أخرى، أن الملكية هي التي تحدد لأغلبية مكونات النخبة التقليدية جدول أعمال النقاش الواجب خوضه، ولا عجب أن نرى، اليوم، عددا كبيرا من السياسيين يفتون، بألمعية، في فقه نازلتي توسيع ثمار النمو والرأسمال غير المادي، وقد يطوي بعضهم ملف الجهوية "الموسعة" للانضمام إلى "ورش" النقاش الجديد.
لكن، لا بد من الإشارة، مع ذلك، إلى أن بعض الأصوات، من خارج تلك النخبة، سبق لها أن طرحت، بصراحة ووضوح، طبيعة الاختلالات التي تنطوي عليها سياسة الأوراش الكبرى..