تأملات فكرية
محمد اليونسي
سأبدأ مقالي هذا بهذه القاعدة في علم الاجتماع السياسي والتي مفادها أنه كلما كانت المسافة الزمانية أو المكانية أو كلاهما معا أكبر،كان تنقل المفاهيم والأفكار أقل وأفقر مما يؤدي إلى سوء التفاهم وطريقة مغايرة لأساليب التفكير و العيش.
في الماضي كانت هناك صعوبة لانتقال الأفكار و المفاهيم والمواضيع من حضارة إلى أخرى.الآن ومع تطور التكنولوجيا و التحولات العميقة التي شهدتها الإنسانية،أصبح من السهل انتقال قيم وأفكار و اتجاهات وأنماط حياة من حضارة إلى أخرى،فأضحى واقعنا المعيشي يتغير بسرعة فائقة مما ينتج عنه إفرازات سامة صادرة من مجتمع بالأمس كان متخلفا بالنسبة لغرب دامت فيه عملية التحديث قرونا فتحولت تلك الدول بشكل طبيعي عبر فترات حرجة.
ولكن اليوم في غياب استراتيجة تربوية تعليمية ،فان مجتمعاتنا العربية أصبحت عرضة لقصف آت من غرب يروم هدم الأسس الثقافية و التاريخية لمجتمعاتنا ،فبدت سلطة الحضارة الغربية قوية لأنها استطاعت أن تغير من سلوكاتنا،وتوجهها نحو قدر لاندري كنهه،وذلك من خلال الإقناع تارة والإذلال تارة أخرى.
مايحدث الآن من تحولات عميقة أحيانا تكون جذرية داخل مجتمعاتنا حدث في الغرب منذ ما يزيد عن 300 سنة،فالملاحظ أن هناك اضطرابات في المواضيع و الوظائف والتوجهات و حتى المنطلقات.
يقال إن ماتعيشه مجتمعاتنا ماهو إلا انخراط في موجة مايسمى ما بعد الحداثة.
ما بعد الحداثة عند الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار تعني اختفاء كل السرديات الكبرى الدينية والسياسية من اجل التشريع،استقلالية الفرد وفقدان المرجعيات عند الشباب.
فالذات Sujet باللاتينية Subjectus تعني حالة من يكون خاضعا، السؤال خاضع لمن؟
إن الكائن الإنساني يستمد جوهره من شيء آخر غير نفسه لوحده(الإله، الطبيعة، الأفكار، التنظيمات، كائن من كان.......)
فالتاريخ الإنساني ماهو إلا عبارة عن سلسلة متتالية من أشكال الخضوع ،إن إخضاع الفرد يعني إنتاجه بطريقة تمكننا التحكم فيه قدر الإمكان،ما نلاحظه الآن ،أن مجتمعنا أصبح يعج بنوع جديد من الإفراد متخلى عنهم وليسوا أحرار كما يتخيل لبعضهم ،لقداصبحوا للأسف ضحايا يسهل السيطرة عليهم بدعوى إشباع مجموعة من الرغبات والحاجيات وهي تتولد في كل لحظة يصبح فيها الفرد قادرا للحصول على وعي يمكنه الانفلات من قبضة هذا المخضوع له.
ولهذا فالامبريالية الثقافية ما هي إلا اغتصاب رمزي يضرب عمقنا الإنساني التاريخي وإخضاعنا لقوى نظنها مرنة ومحبوبة لاتحمل في طياتها أي سلوك عدائي.
فحسب ابن خلدون إن السلطة هي القدرة على فرض نظامها ألقيمي وتغيير سلوك الخاضع.
إن الغرب الآن متفوق إعلاميا وثقافيا وتكنولوجيا وعسكريا،لهذا جل المعلومات التي تتناقلها وسائل الإعلام بكل أصنافها تأتينا ملوثة وذات أهداف معينة في الزمان و المكان.
فالملاحظ و المؤكد أن هناك عملية تقويض للأساسيات التي تعتبر المصدر الوحيد لإنتاج المعرفة القادرة لمسائلة ونقد واختيار المعلومات الأصلح التي تأتينا من غرب قوي.
وفي الأخير ما يمكن رصده من خلال سرعة التحديث (المزيفة) التي تحدث في مجتمعاتنا، قد أدت إلى إحياء النغرات الثقافية و الاثنية و المذهبية المحلية مما يهدد تماسك الدول واستقرارها وبقائها،بالموازاة مع ذلك نلاحظ تزايد الفردانية كمذهب ونموذج للحياة الاجتماعية،وتفشي ظواهر كانت بالأمس غريبة عن مجتمعاتنا المحافظة،وظهور أزمة تمس هويتنا لأننا أصبحنا مغتربين لاندري ما موقعنا في عالم تسومه تغيرات وتحولات متسارعة ،لذا فإننا مطالبون إما التلاؤم مع هذا الواقع ،وإما مقاومته بدون طرح بدائل وإما تغييره في اتجاه يخدم وجودنا وتاريخنا وحضارتنا.
إن مجتمعاتنا بحاجة لحصانة معرفية يساهم فيها الكل، المجتمع، الدولة، الأسرة، المدرسة، الإعلام، قصد التصدي للهجمات الآتية من غرب أراد لعالمنا التبعية والإذلال و الخضوع.والله اعلم.