محمد الساسي
بمناسبة صدور كتاب (عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي "المجهض") لمحمد الطائع، عاد النقاش ليُثَار، مجددًا، حول تجربة حكومة التناوب التي انطلقت يوم 14 مارس 1998. ومن بين الأسئلة الجوهرية التي تفرض نفسها، في هذا الصدد، هناك سؤال متعلق بما إذا كان هذا التناوب، في الشروط التي تَمَّ فيها، يمثل عملية سياسية ضرورية للمغرب أم لا؟ وبعبارة أخرى، هل كان تناوب 1998 ممرًا إجباريًا لبلوغ الحالة السياسية التي نحن عليها، اليوم، أم إننا كنا سنعيش وضعًا أسوأ بدون هذا التناوب؟ هل كان قرار الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، بقبول خوض هذه التجربة، كما خِيضت فعلاً، وتجنيد كل الوسائل لحمل الحزب، رسميًا، على متن سفينتها، صائبًا؟ يظهر، ربما، أنه كلما مضت السنون وابتعدنا، زمنيًا، عن التجربة يزداد الشك أكثر في مدى سلامة القرار المشار إليه.
جرت الانتخابات التشريعية التي مَهَّدَت لتناوب 1998 في 14 نونبر 1997، وعرفت فضائح تزوير مدوية، وعِيث فيها فسادًا، وأخلف النظام وعده بضمان نزاهتها. ورغم أن العادة جرت على أن تُدعى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي إلى الانعقاد، بغية تقييم الانتخابات التي تكون قد جرت، أيامًا قليلة بعد تنظيمها، فإن اليوسفي اختار، أول مرة، تجميد جهاز اللجنة المركزية (برلمان الحزب) بدعوى "عدم وجود جديد"، ولكنه، في الأصل، كان يخشى أن يؤدي أثر الظروف التي جرت فيها الانتخابات إلى اتخاذ اللجنة مواقف"راديكالية" قد تفسد، على الرجل، جو الإعداد لمسلسل التناوب الذي ظهر، في ما بعد، أنه، قَدَّمَ، إلى للملك، التزاما نهائيًا بالسير فيه أيَّا كانت الظروف والحيثيات ومهما كان الثمن. وهكذامَثَّلَ تجميد أعلى جهاز حزبي بعد المؤتمر أول جزء من الثمن الذي قُدِّمَ في مقابل التناوب، ثم توالى، في ما بعد، تجفيف الكثير من منابع الحياة الحزبية بشكل جعل الحزب كله، تقريباً، يُقَدًَّمُ قربانا على مذبح التناوب.
يوم 4 فبراير 1998، أُذيع، عبر وسائل الإعلام الرسمية، خبر تعيين الملك لعبد الرحمان اليوسفي وزيرًا أول، فَتَمَّتْ دعوة اللجنة المركزية إلى الاجتماع. وطُرحت، على اليوسفي، في بداية الجلسة المنعقدة يوم 7 فبراير 1998 بقاعة المهدي بنبركة في مقر الحزب المركزي، نقطة نظام ذات صلة بـ"موضوع جدول الأعمال"، تتمثل في ما يلي : هل يتعلق الأمر بدورة مخصصة للبت في قبول أو رفض مشاركة الحزب في الحكومة، وبالتالي إذا لم تُقبل المشاركة فإنه يتعين على اليوسفي الاعتذار إلى الملك و"سحب" قبوله للتعيين امتثالاً لقرار الحزب، أم يتعلق، فقط، بـ"تدبير" مشاركة أصبحت أمرًا واقعًا ومحسوماً؟ لم يجب اليوسفي، طبعًا، لأن التأكيد، من طرفه، على مبدإ الانضباط لأي قرار يتخذه الجهاز الحزبي سيمثل، في نظره، مسًّا بـ"الأصول المرعية". حزب الاستقلال المحافظ عقد مؤتمرًا وطنيًا لتقرير المشاركة في الحكومة، أما الاتحاد الاشتراكي فقد تَمَّ تعليق عقد مؤتمره الوطني، لمدى 12 سنة، حتى استُكملت خطة تغيير توجهاته الرئيسية (التصويت لفائدة دستور أسوأ من ذلك الذي سبق رفض التصويت عليه في 1992 - المشاركة في الحكومة بدون توفر أغلبية ديمقراطية منسجمة – التحالف مع الأحزاب الإدارية – ترشيح الأعيان الوافدين على الحزب من هذه الأحزاب..إلخ).
وبالرغم من أن الأغلبية الساحقة، من أعضاء اللجنة المركزية، زكت تعيين اليوسفي في منصب الوزير الأول وقبلت مشروع التناوب، بدون تحديد أية شروط أو احترازات، فإن بعض هؤلاء الأعضاء نَبَّهَ، بطريقة مؤدبة، إلى أن قواعد العمل الحزبي السليم كانت تفرض استشارة اللجنة المركزية قبل الموافقة على التعيين، لكن رد اليوسفي كان مفاجئا ومثيرًا للدهشة، إذ جاء فيه : أن الفصل 24 من الدستور، الذي ينص على أن الملك يعين الوزير الأول، لا ينص على أن هذا الأخير ملزم باستشارة اللجنة المركزية لحزبه. وفهم الجميع، عندها، أن الاتحاد الاشتراكي هو في طور الانتقال إلى مرحلة حزبية جديدة تصبح فيها لقرارات النظام الأولوية على قرارات الحزب.
في اجتماع اللجنة المركزية، صَوَّتَ ضد قرار المشاركة أربعة أعضاء فقط (سيتولى، في ما بعد، ثلاثة منهم، بمعية مناضلين آخرين، تشكيل تيار الوفاء للديمقراطية)، وذلك بعد نقاش، امتد لعدة ساعات، بُسطت فيه حجج مؤيدي المشاركة وحجج معارضيها، وسُجِّلت المداولات كاملة على أشرطة ممغنطة؛ ولا شك أن نشر التسجيل، اليوم، قد يوفر على الباحثين والصحفيين، الراغبين في استجلاء طبيعة "التأسيس النظري" لمشروع التناوب داخل الاتحاد الاشتراكي، الكثير من الجهد، من جهة، ويسمح بتمييز الفريق الذي زكت الأحداث توقعاته وتخوفاته،عن الفريق الذي استصغر قيمة "الضمانات"، والذي لَخَّصَ ذ. اليوسفي وجهة نظره بقوله "إن السياسة ليس فيها شركة تأمين" و"إننا حجزنا تذكرة الذهاب، فقط، دون تذكرة الإياب". هذا الفريق قَدَّرَ أن رأسمال "الثقة" الذي اعتبر أنه كان قائمًا، آنذاك في البلاد، بين اليوسفي والملكية، يحول أي حديث عن الضمانات إلى مجرد هراء وتشويش وصراخ في الهامش.
الذين رفضوا المشاركة لم ينطلقوا من رفض مبدئي للمشاركة، إذ غاية كل حزب هي تدبير الشأن العام وتطبيق برنامجه من موقع السلطة ، إلا أنهم رفضوا صيغة المشاركة التي كانت مطروحة آنذاك، خلال اجتماع 7 فبراير، ورأوا أنها لا توفر إمكانات حقيقية لتطبيق برنامج التغيير والإصلاح وفتح الطريق أمام التناوب الديمقراطي، وأنها أشبه بمشاركة مجازية أو معاقة تفتقد مقومات الفعل في التاريخ ووسائل الولوج بالمغرب إلى مرحلة سياسية مختلفة، نوعيا، عن السابق. الذين رفضوا المشاركة يعتبرون أنفسهم دعاة المشاركة الحقيقية التي لم تُستنفذ كل إمكانات الوصول إليها في ظرف واعد ومُوَاتٍ.
تشكيك هؤلاء في مدى قدرة المشاركة، في الإطار الذي حُدِّدَ لها عام 1998، على إنجاز ما ينتظره الناس منها وتطبيق عناصر التوجه الإصلاحي الذي رسمه الحزب في أدبياته، قُوبل، من طرف اليوسفي، بترديد مقولة (أرض الله واسعة)، أي دعوة الرافضين إلى مغادرة الحزب لمجرد أنهم اختلفوا معه في تدبير سياسي مرحلي، من داخل الاختيارات الكبرى للإتحاد الاشتراكي، ورغم أن تحليلهم استند إلى مقررات مكتوبة للحزب وإلى التزامات سبق أن عبر عنها اليوسفي نفسه، مرارا وتكرارا.
قال البعض إن اليوسفي إنما ردد مقولة سبقه إلى ترديدها المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، لكن هذا الأخير، على الأقل، تفوه بالمقولة في مؤتمر الشبيبة الاتحادية عام 1983، بعد صراع مرير امتد لسنوات، داخل الحزب، تبودل فيه ارتكاب الأخطاء، وتعذر معه التعايش، وأصبحت فيه القطيعة أمرا واقعا، وفشلت بشأنه كل المساعي الهادفة إلى رأب الصدع وتجاوز الأزمة؛ أما اليوسفي فقد ردد المقولة في سياق "استباقي" قبل حصول أي شرخ تنظيمي، وفتح بها معركة، ضد جزء من رفاقه في الحزب، قبل تشكيل الحكومة، أي قبل الانطلاق العملي للتجربة.
الكثيرون من مؤيدي اليوسفي آلمهم أن يحيد الرجل عن المعهود فيه من حكمة ورزانة وتبصر، ويردد مقولة لا يتماشى مضمونها مع ما يتطلبه المقام من حرص على تجنب كل ما من شأنه أن يمس بوحدة الحزب. لم يسحب اليوسفي ما قاله ولم يعتذر وقتها،ولكنه، في افتتاح المؤتمر الوطني الخامس للشبيبة الاتحادية (نونبر 1998) فاه بكلمات طيبة فُهِمت على أنها اعتذار ضمني.
إن الأخطاء التي قد يكون الاتحاديون، الذين عارضوا تناوب 1998، ارتكبوها لا تجعل منهم مخربين أو حلفاء لجيوب المقاومة أو أعداء للحزب، فنقد التجربة ليس تخريبا، وهم حافظوا على السير الطبيعي للقطاعات والتنظيمات التي كانوا يعملون داخلها، ولم يغادروا الإطار الرسمي للحزب بمجرد بروز الخلاف داخله، بل انتظروا عقد المؤتمر (مارس 2001) على أمل أن تُعتمد فيه صيغة تكفل لوجهة نظرهم حق التعبير عن نفسها في إطار نظام داخلي قائم على تعدد التيارات.
وفي 1999، بعد انتقال العرش، لم يطالبوا بمغادرة التجربة فورا بل دعوا إلى "إعادة تأسيسها" عن طريق المبادرة إلى إعلان برنامج وطني للإصلاح تحضيرا للانتقال الحقيقي عبر دستور يعكس الخيار الديمقراطي البرلماني وانتخابات سابقة لأوانها "مع السعي لاستخدام الآلة الحكومية، كوسيلة ضمن وسائل أخرى، هي وسيلة ستُوضع موضع اختبار، في ظل وضع جديد، وستكون للدولة، في التعاطي معها، فرصة تقديم الجواب" كما جاء في وثيقة (الوفاء للديمقراطية).
وفي سنة 2000 سيدعمون، بدون تحفظ، حكومة التناوب في سعيها إلى تطبيق خطة إدماج المرأة في التنمية.
وبعد انطلاق التحضير للمؤتمر الوطني السادس، تقدمت مجموعة من المناضلين بوثيقة (الوفاء للديمقراطية) وطالبت بعرضها على التصويت كمشروع أرضية، بجانب مشروع أرضية اللجنة التحضيرية، والسماح للموقعين عليها بحق تأسيس تيار، على أساس البقاء في الحزب ولو حصلت أرضيتهم على 3 أو4 في المائة من الأصوات. بهذه الطريقة، كان يمكن الحفاظ على وحدة الحزب وإتاحة الفرصة لتعايش الرأي والرأي المخالف، داخل نفس البيت الحزبي، مع الاحتكام رسميا، في التدبير السياسي، إلى الأرضية الفائزة بأعلى الأصوات، والتزام الجميع بعدم عرقلة تنفيذ مقتضياتها، واحتفاظ المخالفين لها بحق إبداء آرائهم.