أمين أمكاح
أريد أن أسلط الضوء اليوم كاشفاً عن التربية النفسية باعتبارها عاملا أساسيا في التطرف وأثره السيئ في المجتمع.
بعد أن ظهر لكل ذي لبّ ضرر التطرف، ولاسيما في وقتنا الحاضر الذي يشهد على واقع مؤلم يعيشه المسلمون حيث أصحبحنا نحيا فراغاً سياسياً واجتماعياً مكشوفاً لا تتوافر فيه أبسط مقومات الأمان.
ولا سيما أن الكثير من الشباب المسلم غرر بهم بهذه الأحزاب والجماعات التي لا ترى إلا فكرها واجتهادها، وكأنه قد صار ملزماً بإتباع طائفة أو حزب أو جماعة لدرجة الانصياع والانقياد، كما أن التطرف قد ظهر فيه بأبشع صوره وأقبحها فلزم التحذير والإنذار.
لنعد قليلا إلى الوراء بعيدا عن ما يقع في مرحلة الشباب ولنعرج الحديث إلى مرحلة الطفولة أو الصبا باعتبارها أهم طور تبنى فيه شخصية الفرد أو كما يصطلح عليها بالمرحلة الذهبية للتربية.
كثير من الناس فرطوا واستهانوا بأمر وعظم تربية الأولاد من جميع الأبعاد وبالخصوص البعد النفسي الذي سأتطرق إليه في هذا المقال، ولم يرعوا أولادهم حق الرعاية بإهمالهم لتربيته النفسية، فإذا رأوا منهم انحرافا-في السلوك والمعاملة- لا يسألون عن ذلك ولا يوجهونهم، فقط يبدؤون بالتذمر والشكاية من تلك الحالة، وما علموا أنهم هم السبب الأساسي في ذلك الانحراف والتطرف، كما قيل:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء[1]
فنجد أن هناك ركام من الأسباب النفسية التي باختلالها تؤدي إلى إلحاق الضرر في بناء الذات السوية، وعند توافر هذه الظروف والأجواء الملائمة لها تجعل الفرد يلحق الضرر بمن يحيطه خاصة وبالمجتمع عامة.
قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).[2]فالنفس البشرية تتضمن بداخلها عنصري الخير والشر، حيث تكون غلبة أحدهما على الأخر هي التي تحدد سلوك الإنسان.
هذا إضافة إلى أن التنشئة الاجتماعية بالأساس هي التي تحدد التوجيه السلوكي للفرد اتجاه الجماعة من خلال العمليات التفاعلية المستمرة بين الأفراد، وهذه التفاعلات ممتدة وتلعب دورا هاما في تحديد سلوك ووظيفة الفرد داخل المجتمع و بالتالي إما أن يكون سويا أو غير سوي، وعلى ضوء الكيفية التي يقع فيها الاختيار قد يتعرض الفرد للفساد بسبب المؤسسات (الشريرة) المحيطة به.
وقد عبر جون جاك روسو عن هذه الرؤيا للطبيعة البشرية من خلال مقولته الشهيرة في كتابه "العقد الاجتماعي"، إذ قال: (يولد المرء حرا، ولكنه مقيد بالأغلال في كل مكان)، كما قال أيضا: (يخلق الله الأشاء كلها خيرة، ولكن الإنسان يتطفل عليها فتصبح شريرة).[3] لكن نحن المسلمين نمتلك إرثا تاريخيا يسبق روسو بعشرات القرون في هذا المجال المتعلق بحرية الإنسان، وقولة عمر الفاروق رضي الله عنه لخير دليل: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتكم أمهاتكم أحرارا)، وغيرها من الأثار الواردة في هذا الجانب.
من هنا يتضح أن الطبيعة البشرية ليست خيرة فحسب بل طيعة، وهذه الرؤيا التفاؤلية للطبيعة البشرية تعد جوهرا أساسيا لعملية التعايش والتفاعل مع الأخر، وتنظيم الرغبات واكتساب مجموعة من المعايير الاجتماعية وكذا الثقافية.
فهناك طوفانا من الدواعي التي تؤدي إلى ترسيخ هذا التطرف والتمرد انطلاقا من الأثار التي تخلفها التربية النفسية، وذلك من خلال مظاهر وتجليات نوعية لهذه التربية.
وكما قيل "من شب على شيء شاب عليه"، فالتربية على سفاسف الأمور، مرذول الأخلاق، وسيء العبارات يغرس في نفسية الفرد (الطفل) التطرف والتعصب، وفعل المنكرات وممارستها أمام الأولاد، أو إقرارهم عليها من خلال الوسائل التي تؤدي إلى تخريب دور الأسرة وتنحية مكانتها كمؤسسة قائمة بالتربية لإنعدام مصداقيتها.
فتنشئة الطفل على الجبن والخوف وما يلاحظ على أسلوبنا في التربية كتخويف الطفل حين بكاءه ليسكت؛ فنخوفه بالغول، وعائشة قنديشة، وأسوأ ما في هذا أن نخوفه بالأستاذ أو المدرسة أو الطبيب؛ فينشأ الولد جباناً لا يفرق من ظله، ويخاف مما لا يخاف منه، وهذا يجعل منه شخصاً غير سوي، أو ضعيفاً يسهل انقياده.
كما أن معاملته بالشدة والقسوة، إما بضربه ضربا مبرحاً إذا أخطأ، أو بكثرة تقريعه وتأنيبه عند كل صغيرة وكبيرة، أو غير ذلك من ألوان الشدة والقسوة، فتتولد في الطفل شخصية انتقامية يسعى إِلى الانتقام من المجتمع، أو يكون شخصية انهزامية، وأما إن كانت تربيته على التهور، وسلاطة اللسان والتطاول على الآخرين، باعتبارها شجاعة، والتعود على هذه المستقبحات،تؤدي إلى بناء فرد ذو شخصية لا تراعي القيم والتقاليد.
بالإضافة إلى أن تعويده على الترف والنعيم والبذخ وإعطاؤه كل ما يريد، وتربيته على الميوعة، والفوضى، فيصبح همه نفسه وتحقيق ملذاته فقط،ولا يبالي بحقوق الآخرين، فلا يراعي الآخرين، فيقتل هذه الاستقامة، ويقضي على المروءة والشجاعة.
فالاستجابة لطلبات الطفل عند بكاءه، إما بالشفقة عليه والرغبة في إسكاته والتخلص منه، أو غير ذلك؛ فهذا من الخلل بمكان، فهو يسبب الميوعة والضعف للأولاد، نقل أن رجلاً جاء إِلى مالك بن نبي يسترشده لتربية ابن له أو بنت ولد حديثاً، فسأله: كم عمره؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار، قال: وكنت أظن بادئ الأمر أني مبالغ، ثم إني عندما نظرت وجدت أن ما قلته الحق، وذلك أن الولد يبكي، فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن يظن أن البكاء يوصله حقه.
يمكن أن نخلص في الأخير إلى أن سوء الفهم لنفسية الأولاد وطبائعهم من طرف الأبوين،وانقيادهم نحو التطرف والتمرد،راجع إلى كيفية تعاملهم مع أبنائهم ومدى فهمهم لنفسيتهم، فعدم فهم نفسية أولادهم لإختلاف طبائعهم وأمزجتهم؛ فمنهم من يغضب بسرعة، ومنهم من يتسم بالبرود، ومنهم من هو معتدل المزاج، فمعاملتهم بنمط واحد على الرغم من تباين نفسياتهم، يتسبب في انحرافهم وميلهم، ومن ذلك عدم مراعاة الفوارق النفسية بين الأبناء، فتجد من الوالدين من يعامل الولد على أنه طفل صغير، على الرغم من أنه قد كبر، فتشعره هذه المعاملة بالنقص، فلكل مرحلة من مراحل العمر معاملتها الخاصة التي يجدر بالوالد مراعاتهاوالأخذ بها.والخطأ الأكبر هومعاملة الطفل على رفض الخطأ، والخلط في التربية بين ما هو عادة وتقليد وما هو ديني فيكبر الطفل وهو غير متوازن نفسيا ومتخبط دينيا. كما نجد في الغالب الأبوين يعتبرون أبناءهم امتداد لمسيرتهم ويبنون مسارا خاصا ليسير ذلك الطفل على نفس خطاهم.
[1]قصيدة قد قال من قال من جهل وإغواء، الشاعر عبد الغني النابلسي، وهي قصيدة من العصر العثماني، من بحر البسيط، وعدد أبياتها 39.
[2]سورة الشمس "من الآية 7 إلى 10".
[3]مقدمة في الانحراف الاجتماعي ، للدكتور مصطفى عبد المجيد كاره ، مؤسسة الدراسات الاجتماعية والانثربولوجية، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1985م : 47 ـ 48 .