نجاة حمص
كنت قد قررت الاكتفاء بكتابة مواضيع تعالج المشاكل الاجتماعية,وذلك بعد تجربتي مع إحدى المجلات العربية,التي يقع مقر إدارتها في إحدى العواصم الأوروبية,لأنني اكتشفت عمق المؤامرة على أهل السنة والجماعة خاصة,فرغم أن الأجر كان جد مغري,غير أن المقابل كان أشنع,المقابل كان خيانة الأمانة العلمية,ورمي كتب أهل السنة والجماعة التي شهد لها اليهود والنصارى بالأمانة والصدق,بالكذب والتدليس.المجلة شبه علمانية,ورغم ذلك فيها تحيز واضح للروافض,كنت قد كتبت بحثا مطولا,فاختاروا منه جملة,طلب مني تغييرها,والتغيير كان سيضرب البحث في مقتل,ذكاء ودهاء ولكن مع من؟ دامت المفاوضات فترة طويلة,انتهت بسحبي للبحث,والله الغني..
نعم..
هناك تعتيم مقصود,وتهميش متعمد لكل قلم يكتب محاولا عكس حقيقة ما يجري للقارئ اللبيب,كان فيه تحوير للحقائق,وشراء للذمم, وكنت قد بدأت أفكر في اعتزال الكتابة عن الشأن السني,لاني أحسست بضئالتي أمام كل هذه الأقلام المسنودة والتي تكتب بدون علم بواقع الأمر,ولأنني شعرت كما شعر ذلك الذي يصب الماء على الرمل, جمهور عريض من السهل خداعه, لكن إقناعه بأنه تعرض للخداع, أمر صعب بل مستحيل,هكذا كان الأمر,إلى أن رأيت ذلك الرجل..
كان من مخيم اليرموك,يعني انه لاجئ فلسطيني,سبعيني,أشيب الشعر,متغضن الوجه,يمشي بغير هدى,يترنح بغير سكر,عاري الصدر..كان العجوز قد جن من شدة الجوع,كان يتمتم بكلمات غير مفهومة,وينتفض انتفاضات مجنونة,أي جوع هذا الذي يجعل صاحبه يخرج عن طوره؟ تحركت عاطفة الأمومة التي غرسها الله عز وجل في كياني,فاضت عيناي شفقة على هذا الذي اشتعل رأسه شيبا,ونظراته الزائغة تبحث عن أي شيء يصلح للأكل, انتظرت أن يعطى للريبورتاج وقتا أطول,وللشيخ الفلسطيني اهتماما اكبر,كنت انتظر أن يتصدر مخيم اليرموك عناوين كل النشرات,وكل الخطب والندوات التي يعقدها "الإسلاميون",كنت انتظر أن تخرج المظاهرات,وتنظم المؤتمرات,لكن..
مر الخبر..
وسكت الكل..
كأن شيئا لم يحدث..
لان المحاصر لم يكن صهيونيا صريحا..
ولان المحاصر كان مجرد لاجئ بلا هوية..
مر الخبر..وبقيت كلمات عيونه تطاردني,كانت كلماته تنعي الإنسانية,العروبة والإسلام,ظننت انه كما تقول أمي,ليس هناك من يموت جوعا,لكن أمي كانت لا تعرف أن فيه ما يسمى "مخيم اليرموك",في عمق دولة الممانعة والمقاومة..
انتظرت خروج عدلاوة المغرب: عدل وإحسان,عدالة وتنمية..غير أن "الإخوان",كانوا يتورعون عن رمي الناس بالباطل,كانوا واثقين تمام الثقة بان الأمر مجرد مؤامرة على الدولة التي يرتجف لذكرها الصهاينة,وبان لاجئي اليرموك مجرد ممثلين,أتقنوا التمثيل,ليعيقوا المقاومة.تغافلوا عن هذا والتفتوا إلى خبر صغير ينعي إحدى الفلسطينيات المسنات,ارتجفوا منفعلين,بكوا بحرقة تلك المرأة التي ماتت في سريرها,وفي بيتها بقطاع غزة..
يا إلهي..
توشحوا الكوفية الفلسطينية,وحملوا أغصان الزيتون,ليغنوا على إيقاع الواحدة ونص أغاني حماسية,متوعدين إسرائيل بجيش محمد الذي سيعود,نفس خطابات حزب النهضة,الإخوان المسلمين,القاعدة,تنظيم الدولة...الخ, لا يتكلمون إلا فيما يسمح الكلام عنه,يتكلمون عن قطاع غزة,لكنهم لا يستطيعون التكلم عما يجري للاجئين الفلسطينيين بدول الجوار,يتكلمون فيما يتكلم عنه باقي الأحزاب الاشتراكية واليسارية,وفيما تتكلم عنه المنظمات الأجنبية,حتى في انتفاضاتهم..منبطحون.
بالرجوع إلى ذلك الرجل,تذكرت نظراته الخاوية..
تذكرت أقدامه الحافية..
لا اعرف لم كنت ادقق النظر لأرجل كل مضطهد,ولأعين كل مظلوم,هل لان تلك الأرجل كانت تحكي بصدق عن صاحبها؟,أ لأنها كانت تتحدث عن المسافات التي قطعتها جريا وراء قطعة الرغيف؟,أم لأنها كانت تعكس ما لاقته وهي تدوس الشوك مكرهة؟ هذا الشوك الذي لم تكن قد زرعته,ولا تخيلت أن هناك من يزرعه ,وان هناك من يستمتع وهو يرى من يدوسه,وأخر تبلدت مفاهيمه حتى انه لا يصدق علامات الألم و صرخات التوجع التي يطلقها ذاك الذي يدوس,ولا ضحكات السخرية التي يطلقها الزارع..
وأما تدقيقي في الأعين,فلا ادري اهو بسبب دفق الكلمات المنسابة بصدق,لتعبر عما لاقته من أهوال,وما لاقته من إهمال؟ أم لأنه حينما تكمم الأفواه,تنطق الأعين بكلمات من جمر,بل من نار؟ فلا عجب أن القاتل يعصب أعين المقتول حتى لا ينظر إليه,وكم من قاتل خسر حياته حينما نظر لأعين ضحيته,فصار مطاردا بكلمات لا يعرف ترجمتها,كلمات تأكل من جسده ومن عقله,كلمات ليست كالكلمات..
تلك الأعين..
ذكرتني بأعين مماثلة..
كيف أنساها,حتى لو أردت أن أنسى؟..
كيف أنسى ما رأيته؟ كيف أنسى رئيس ذلك الوفد الفلسطيني" توفيق عبد الخالق" الذي سار إلى "مقتدى صدر" في بداية الاحتلال؟ الوفد الذي أراد نقل حقيقة إخوانه لمن لا يعرف الفلسطينيين حقا,رغم انه يسمي ميليشياته بعاصمة فلسطين,ويحتفل بيوم القدس العالمي في بذخ,أراد الوفد أن يقول لخليفة "موسى الصدر" رئيس حركة" أمل",بان فلسطينيي منطقة البلديات,مجرد ضيوف لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا,مجرد أصحاب ارض هجروا من ديارهم على يد عصابات " الهاغانا",فلجئوا إلى بلد شقيق مجاور رحب بهم وأنزلهم منه منزلة المهاجرين إلى إخوانهم الأنصار,كان أعضاء الوفد الشباب متحمسين نوعا ما,بينما الشيخ العجوز وأقرانه يتوجسون خيفة من الذي هو من نسل " موسى الصدر",الرجل الذي يعرفه كل فلسطيني اشد المعرفة خاصة وان جراح صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة,لم تندمل بعد.ذهب الوفد حاملا بعض الهدايا,برئاسة الشيخ :" توفيق عبد الخالق",هذا الرجل السبعيني الذي سيقتل لاحقا بعد تعذيب جعل من الصعب تعرف وجهه,هذا الرجل كنت قد قرأت في وجهه يوم أن شاهدت زيارة وفده لمقتدى,ما يقرأ في وجه من شرب ما لا يعجبه,كان يتبادل نظرات مشبعة بخيبة الأمل مع رفاقه و"مقتدى الصدر" يعدد لهم ما عليهم فعله مقابل وقف القتل والتمثيل بالجثث,يومئذ شبهت الرجل ووفده من المشايخ,بالذي كان قد وهب بيتا من رجل توفي فورثه مجبر طاغ,فلم يجد الرجل بدا من بيع أثاثه القديم لشراء هدية تزلف إلى الوارث,أما نظراته التي تبادلها مع رفاقه,حينما طلب منهم عض اليد الذي أحسنت لهم,فذكرتني بالذي يبيع روحه وقلبه, وفي الأخير لا يجد الثمن الذي يطلب منه..
ذكرتني نظرات الشيخ " توفيق" رحمه الله,بنظرات اليتيم,الذي ذاق اليتم على كبر,يتم الوطن,يتم الانتماء,يتم العروبة,فبعدما كان الشيخ وباقي الفلسطينيين قد استقبلوا وأعطوا بطاقات التموين قبل العراقيين,هاهم الآن يطاردون,وتكتب على جدران منازلهم تهديدات بالموت إن لم يخلوا بيوتهم,فأين المفر؟ عصابات الصهاينة في أمامهم,وميليشيات إيران بالخلف..
كيف أنسى أعين ذلك المسمى "أمير موسوي" في المؤتمر الوطني العراقي,حينما صرح أن العراق الجديد سيقيم علاقات جيدة مع إسرائيل ولن يكون هناك مكان للفلسطينيين,كما اعتبر الموسوي أن الجالية الفلسطينية العريضة يعتبرها العراق الجديد " طابور خامس",وسانده ابن عمه " بهاء موسوي" وهو صحفي عراقي معلنا أن الفلسطينيين "مستوطنين" عليهم الخروج من العراق وان يطردوا خارجها..كيف أنسى نظرات الحقد والغل؟ نظرات الوارث الذي قتل صاحب البيت,ثم جاء دور الابن بالتبني..
وذاك الرجل..كيف أنساه؟
الذي نجى من المجازر التي تعرض لها مخيم "برج المراجنة",والذي عاصر ما حدث بمخيمي" صبرا وشاتيلا",خسر أولاده وأحفاده,يدور حول بيته المتهدم,باحثا عن بصيص أمل,بعدما فعلته "حركة أمل",قبل أن ينال منه التعب,فيجلس القرفصاء,مطلقا العنان لدموعه,وكم هو صعب مشاهدة دموع الرجال,ولك أن تتخيل ما قد يجعل الرجل الفلسطيني, يفقد السيطرة على كبح جماح دمعه,وهو الذي لم يعرف قط معنى الطفولة,فقد ولد رجلا..
هذا الرجل الذي كان ينظر لكاميرات الإعلام العربي بتقزز,يشيح بوجهه عنهم,حتى لا يفوزوا بسبق صحفي يفيد بان الفلسطيني قد بكى يوما..
بل كيف أنسى..
ذلك الشيخ المسن "عدنان الدليمي",مرت ازيد من 10 سنوات ومازال اسمه يؤرقني,هذا الذي قام يخطب في اجتماع للقمة العربية,كان يصرخ ويبكي,وعيناه كانتا جاحظتين من هول ما رآه,كان رئيسا للوقف السني,لازلت أتذكر ارتجافه من شدة الانفعال,وهو يعدد للعرب كم قتل من إمام ومن مؤذن,بابشع الطرق,كم فجر من مسجد,كم ذبح من عراقي على الهوية, يسكت فجأة ليجيل نظره في أوجه الحاضرين,حينها لازلت اذكر أني أوقفت المشهد,وركزت على عينيه..
يالهي..
ما الذي رأته تلك العينان؟ فقد كان يرتسم فيهما مزيج عجيب: خوف ورعب,أمل وخيبة,تذكرت أعين زرقاء اليمامة,لابد أن الرجل يرى ما لم يره احد,يرى موتا قادما..موت قادم من الشرق,يرى هرجا وقتلا..قتل على الهوية.
ما هذا الذي جناه علي حبي لمادة التاريخ وولعي بالبحث والتدقيق في كل عنوان يثير اهتمامي؟ لماذا تعلق قلبي بالوثائقيات والركض وراء النادر من المعلومات؟ ..
وما الذي جناه علي كوني فتاة؟ كوني أنثى ينخلع قلبها كلما سمعت بكاء طفل,تبكي لمرأى شيخ ذاق الذل في شيبته,تنسكب دموعها كلما مد لها متسول يده فلا تجد سوى دريهمات تتقاسمها معه,فتتمنى لو تستطيع إعطاءه منزلا يأويه,عملا يغنيه,غير أنها لا تملك إلا قلبا يبكيه ودمعا تجاهد لتخفيه..
وما الذي جناه علي تعلقي بكبار العلماء بدل الدعاة؟ هؤلاء العلماء الذين كنت استمع إليهم بسبب الفضول أولا,ثم كان أن وجدت في كتبهم وكلامهم ما ينشط خلاياي الرمادية كلما اقتربت الامتحانات والاختبارات, كانت شروحات علمية طويلة تختتم بأسئلة الوفود القادمة من مختلف الدول,وفود المسئولين, المواطنين,المجاهدين وكذا المستضعفين,كانت الأخبار تصل للعلماء أولا بأول,حتى أن بعضها يمر عليه الشهر والعام قبل أن يصل لوسائل الإعلام,وبهذه الدروس عرفت..ما حدث,وبناء عليه ما سيحدث,ليس شعوذة بل استدلال منطقي.
وعرفت..كم فات شباب الأمة من علم,حينما نفروا من ورثة الأنبياء,وساروا وراء الأدعياء والدهماء,وبذلك عبدوا من دون الله كل من قال : الموت لأمريكا..الموت لإسرائيل,حتى ولو كانت يداه مخضبتان بدماء الأبرياء,تفهمت من سار مطبلا للممانعة والمقاومة,ومن صفق بإعجاب لخفافيش الدواعش ربائب القاعدة..وكذلك يأكل الذئب من الغنم القاصية.
لك الله يا فلسطين..
لكم الله يا أهل فلسطين..
والله أني حينما ادقق في أعينهم,أرى شبح ابتسامات ساخرة,أعرف أنهم يعرفون من قتل إخوانهم,يعرفون عدوهم ولو احتفل معهم بيوم القدس العالمي..
يعرفونهم ولو علقوا صورهم التي تؤرخ لزياراتهم إلى قطاع غزة, ولو علقوها على جدران صالوناتهم ومكاتبهم,وفي بروفايلات حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي, فكما أن هناك من يتباهى بزيارة " هاواي" فهناك من يتباهى بزيارة "غزة",وأنا جد متيقنة, بأنهم حينما يغادرون بيوت الفلسطينيين فان هؤلاء يقومون بحرق ما جلس عليه كل عربي,وحينما ستتحرر فلسطين,سيسمح بدخول الكل إلا العرب,وسيعلق على مدخلها :
"اللي يقول يا عرب..بدل يا رب..يعطيه جرب "
موح
كان عليك ان تفضحي هده المجلة الرافضية ليعرفها الناس