نور الدين الطويليع
ضمن فعاليات مسرح اللامعقول المنتصبة خشبته على امتداد التراب الوطني, تابع المغاربة بدهشة واندهاش مسرحيات جرت أطوارها على هامش انتخابات الرابع من شتنبر, أدى ممثلوها أدوارهم مخلصين لمنهج العبث الذي لم يفارقهم ولم يفارقوه على طول أدائهم للعروض, وبعد هذا الأداء, محققين ميزة التفوق على أبطال مسرحيات هذا الفن, بحيث تبدو المغنية الصلعاء والنادل الأخرس ( وهما بطلا مسرحيتين عبثيتين عنونتا باسمهما) مجرد تلميذين لهم, وهو ما يجعلني أعتقد أن الرواد الأوائل لمسرح اللامعقول لو قدر لهم أن يكونوا على قيد الحياة و يتابعوا أطوار هذه المسرحة, لمنحوا وسام الاستحقاق من درجة دمى وعرائس لممثليها الذين تفننوا في إظهار عجزهم عن امتلاك أي وجود مستقل وأي أبعاد سيكولوجية أو اجتماعية أو ثقافية واضحة, وعجزهم عن التواصل فيما بينهم، سوء تواصل يبدو جليا من خلال حوارات مبتورة تفتقد إلى التجانس والترابط, يتحدثون من خلالها بلغة غير مفهومة جعلت كلا منهم عاجزا عن فهم الآخر.
وكما لو أن مسرحيات "الكراسي" و"الخراتيت" و"نهاية اللعبة" و"البينغ بونغ" كتب لها أن تتجسد على أرض الواقع, فإن المتتبع لكثير من أطوار اللعبة الانتخابية في نسختها المغربية يستنتج أن التشابه بينها وبين النماذج المذكورة يصل حد التماهي والاندماج, فهي بدورها تميزت ببداية دون أن تعلن عن نهايتها, أو تؤشر على وجود نهاية, وبأفكار غامضة عرضت بشكل غير متسلسل وغير منطقي, وبلغة هي أقرب ما تكون إلى أصوات وكليشهات فارغة من أي معنى, لغة هي قاب قوسين أو أدنى من أن تكون سفسطة وملء فراغ وكلاما من أجل الكلام. هكذا إذن رأينا جميعا كيف أن مسرحية "البينغ بونغ" لكاتبها آداموف تجسدت بكل تفاصيلها على أرض واقع تمسرح, واقع تقمص فيه دور بطلي المسرحية، آرتور وفكتور، الذين عجزا عن الحب والإبداع والانتماء بعدما استعبدتهما آلة اللعب الواعدة بالمال والقوة والنساء, أقول تقمص دورهما منتخبون أفلحوا إلى حد بعيد في تجسيد وإعادة إنتاج نفس السيناريو باحترافية منقطعة النظير، جاعلين منا نحن ـ المواطنين ـ المستهدفين بلغتهم الخشبية تلك الكرة الصغيرة التي لا يكلون ولا يملون من دحرجتها بينهم إلى ما لا نهاية، دون أن تكون لها القدرة، أو تملك بعضا منها لاتخاذ قرار التوقف أو الشكوى أو التمرد.
ولمن فاتته المشاهدة، ولمن شاهد ويحتاج إلى تذكير، والذكرى تنفع المومنين، سأعرض فيما يلي جزءا من مقاطع اللامعقول السياسي والعبث التي تشهد على عبقرية ممثلين استطاعوا أن يحولوا أفكارا مجردة، وأن يخرجوا نصوص اللامعقول من رفوف المكتبات لتصبح واقعا معيشا.
ـ المقطع الأول: رئيس الحكومة المشرف الأول على الانتخابات يطالب الجهات المختصة بالضرب بيد من حديد على يد المفسدين الذين يستعملون أموال المخدرات في الحصول على أصوات المواطنين وشراء ذممهم، كما لو كان السيد بن كيران يتزعم المعارضة ولا يملك القرار، ولا يجد من حيلة إلا أن يتوجه بالخطاب إلى عبد الإله بن كيران رئيس الحكومة!!!
ـ المقطع الثاني: حميد شباط يتهم رئيس الحكومة بالانتماء إلى داعش، ويجعل أولى أولويات حملته الانتخابية تحصين مدينة فاس من دخول الدواعش إليها، وعشية يوم الاقتراع يعلن إيمانه بفكرهم ودخوله تحت لوائهم.
ـ المقطع الثالث: منتخبون يبنون مجدهم على أنقاض رؤساء جماعات تفننوا في تقديمهم إلى المواطنين في صورة بشعة، كلصوص أتوا على أخضر جماعاتهم ويابسها... حينما فازت لوائحهم وتمكنوا من الصعود إلى كراسي الرئاسة مرت عمليات تسليم المهام بينهم وبين هؤلاء "اللصوص" في جو أخوي هادئ يطبعه الاحترام المتبادل، في ظل حرص كل طرف على دغدغة مشاعر الآخر، حيث شكر اللاحق السابق على تفانيه في أداء واجبه، وتعبيره عن روح وطنية عالية خلال مدة انتدابه، وتمنى السابق للاحق بدوره أن يكون خير خلف لخير سلف.
المقطع الرابع: مستشارون شاركوا رؤساءهم في الولاية السابقة تدبير جماعاتهم، وكانت أصواتهم ومواقفهم دائما تحط الرحال بجانب الرئيس، ولم تصدر عنهم ولو شكاية واحدة حول طريقة تسييره للشأن المحلي، بل استعملوا كل مساحيق التجميل لإظهارها أمام الناس في أبهى وأحسن حلة، وأثناء الحملة الانتخابية تبرؤوا منه ومن طريقة تدبيره الفاشلة، وكشفوا للناس وجهها القبيح بتقرحاته وندوبه، محملين إياه وحده مسؤولية الوضع المتردي الذي آلت إليه جماعاتهم، وعند إعلان النتائج تحالفوا معه من جديد، وشكلوا وإياه مكتبا جديدا، معلنين استمرار التنسيق من أجل إتمام إنجاز المشاريع الكبرى التي دشنوها وإياه في الولاية السابقة.
ـ المقطع الخامس: مستشارون رفعوا شكايات إلى القضاء يتهمون فيها خصومهم بإفساد العملية الانتخابية وتوزيع المال الحرام، محذرين في الوقت نفسه المواطنين من مغبة التصويت عليهم، لأنهم مجرد "شناقة" سيعمدون إلى استنزاف ميزانية الجماعة لتعويض ما فقدوه من أموال... وفي آخر المطاف تحالفوا معهم، ومنحوهم أصواتهم، ليتأتى أخيرا لهؤلاء المسمون "شناقة" الجلوس على كرسي الرئاسة.
ـ المقطع السادس: مستشارون حذروا المواطنين من مغبة الوقوع في فخ شهادة الزور إن هم صوتوا لصالح الفاسدين، ومنهم من اجتهد فأفتى بأن المرء سيحشر يوم القيامة مع من صوت عليه، وأرفق فتواه بخطاب عاطفي أظهر من خلاله أنه إنما يخاف علينا أن يمسنا عذاب من الرحمان إن اتخذنا مع هؤلاء سبيلا، وبعد إعلان النتائج تحالف المحذرون (بكسر الذال) مع المحذر منهم (بفتح الذال)، وأخذوا معهم الصور التذكارية، ووقعوا وإياهم مواثيق الشرف، مبشرين المواطنين بأنهم سيجعلون وحلفاءهم من جماعاتهم جنات فوق الأرض.
هاهنا قاطعني رائد العبث واللامعقول يوجين يونسكو، وحال بيني وبين إتمام مقاطعي، حينما تدخل قائلا: " يبدو لي هذا الواقع وكأنه خال من المعنى، وهو واقع غير واقعي... هذا الشعور بزيف الواقع عبرت عنه شخصياتك التائهة في عدم الانسجام، والتي لا تملك شيئا خاصا خارج قلقها وندمها وإخفاقاتها وهجر عالمها، كائناتك غارقة في غياب المعنى... هكذا بدا لي عالمكم غير مفهوم، وأنتظر أن تفهموني إياه".[1]
اطمئن سيدي يونسكو لن تفهم شيئا من هذا الواقع، ولن نفهم نحن كذلك، ولن يفهم الممثلون الأدوار التي يؤدونها، فكلنا سائرون في درب العبث واللامعقول و "كيف ما شفتيها خليها"، وقبل أن تنتهي المحاورة تدخل العبثي صمويل بيكيت، واقترح علينا أن ننتظر "غودو" ليخلصنا من يأسنا وحيرتنا ويزيل عن تساؤلاتنا القلقة نقط استفهامها العريضة، ثم توارى عن الأنظار، مضيفا إلى عبثنا عبث انتظار تلظينا فوق جمره وسط يأس قاتل، عبث تحول إلى رعب، بعدما عمر طويلا دون أن تلوح في الأفق بوادر ظهور هذا "الغودو" الذي عمر انتظارنا له طويلا حتى هرمنا وهرم وشاخ هذا الانتظار ، وهو الذي خرج إلى الوجود منذ الخمسينات من القرن الماضي.
عتيق لماذا تركتي ولدكي المعاق في المستشفى