إدريس جنداري
تعيش منطقة المغرب العربي، خلال هذه المرحلة الحرجة من تاريخها، على وقع صفيح ساخن سيكون له ما بعده، بالتأكيد، و لعل أخطر ما يجري في المنطقة ليتعلق بالتحولات التي تعرفها العلاقات المغربية-الجزائرية، هذه العلاقات التي أصبحت تعيش اليوم أخطر مراحل تدهورها، و هذا ستكون له تأثيرات على الصعيد المغاربي و العربي.
- من جهة، هناك الموقف الجزائري من قضية الوحدة الترابية للمغرب، و هو موقف إيديولوجي متزمت لم يتزحزح منذ مرحلة الحرب الباردة، بحيث تم توظيف قضية الصحراء المغربية بأهداف استراتيجية أبعد، بكثير، من النيات الحسنة المعبر عنها جزائريا في إطار دعم الشعوب لتحقيق مصيرها ! و ذلك لأن ملف الصحراء المغربية قد تحول، في التصور السياسي الجزائري، إلى حصان طروادة يوظّف في الهجوم على المغرب، خارجيا، كما يوظف كذلك من أجل ضبط التوازنات السياسية و الاجتماعية داخليا.
- من جهة أخرى، هناك الموقف الدبلوماسي المغربي الجديد، الذي عبر عنه ممثل المغرب في الأمم المتحدة، و الذي يدخل في إطار دعم موقف الحكومة الانفصالية القبائلية المشكلة في المهجر الفرنسي، كرد فعل على التعنت الدبلوماسي الجزائري الذي يهدد الوحدة الترابية للمغرب، عبر دعم الانفصال، و هذا الموقف المغربي رغم طبيعته الدبلوماسية، لأنه لم يُجَسَّد على أرض الواقع لحدود اليوم، فإنه يشكل سابقة في التاريخ الدبلوماسي المغربي، الذي تميز دوما بالتركيز على بناء مواقفه في منأى عن أي ضغوط خارجية، مما طبع مواقفه الدبلوماسية دوما بالاتزان و الموضوعية.
و لمحاولة تفسير هذا الوضع السياسي الجديد، لابد من التوقف عند العوامل المؤدية إليه، و التي تدخل في إطار صراع استراتيجي بين قطبي منطقة المغرب العربي، و قد تبلور هذا الصراع على شكل دعم جزائري لمخطط تقسيم المغرب عبر توظيف إيديولوجية الانفصال. و قد تمسك النظام الجزائري بهذه المؤامرة الانفصالية، لعقود، إلى أن تحولت إلى إيديولوجية موجهة للسياسة الجزائرية، داخليا و خارجيا، مما صعّب على صانع القرار الجزائري الدخول في أي مراجعات تؤدي إلى حل القضية عبر الطرق الدبلوماسية. و في ظل هذه الوضعية السياسية المعقدة و المركبة، فإن المغرب قد وجد نفسه في مواجهة خيارات صعبة جدا، أقلها استمرار المواجهة السياسية و الدبلوماسية، داخليا و خارجيا، و أخطرها الدخول في صراع عسكري مباشر من أجل خلق توازنات جديدة في المنطقة، تؤدي إلى فرض حل من طرف القوة المنتصرة .
إن ما يبدو جليا، اليوم، هو أن صانع القرار السياسي المغربي قد فضل اختيار الحل الوسط، عبر الدخول في مواجهة أطروحة الانفصال في الصحراء المغربية، بأطروحة انفصالية مماثلة في منطقة القبائل التي تمثل عمق الدولة الجزائرية. لكن, يظل هذا الخيار محفوفا بالمخاطر من كل جانب، رغم أنه يمكن أن يؤدي إلى فرض أمر الواقع على صانع القرار الجزائري و يرغمه على الجلوس إلى طاولة المفاوضات من أجل تسوية القضايا العالقة بين الطرفين.
و في علاقة بالدعم الجزائري للانفصال في إقليم الصحراء المغربية فقد واجهناه، دوما، بموقف صريح لا يقبل الموارَبة، انطلاقا من قناعتنا الراسخة بالانتماء المغربي للصحراء على مرّ التاريخ، قديمه و حديثه، و هذا موقف علمي قد ينسجم مع التوجه الرسمي و لكنه يعتمد منطلقاته العلمية الخاصة. و ما يشهد لنا بذلك، مواقفنا المسجلة على صفحات جريدتي الزمان و العرب الدوليتين, مما عرَّضنا، حينها، لضربات متتالية من طرف الإعلام الجزائري المأجور.
أما فيما يخص الدعم الدبلوماسي المغربي للطرح الانفصالي العرقي في الجزائر، فهذا نعارضه كذلك، من منطلق علمي دائما، لأننا نؤمن بالوحدة الترابية و السياسية و الاجتماعية للجزائر الشقيقة، و هي وحدة كان المغرب حريصا عليها أكثر من حكام الجزائر أنفسهم، من منظور أن وحدة المغرب تستمد قوتها من وحدة الجار الجزائري، فقد عرَّض المغرب سيادته الوطنية للخطر من أجل الدفاع عن هذه الوحدة و ذلك، على الأقل، في مناسبتين تاريخيتين:
• أولا، من خلال دعم المغرب للمقاومة الجزائرية في مواجهة الهجوم الاستعماري الفرنسي سنة 1830 مما عرض السيادة الوطنية للخطر خلال سنة 1844 عبر انتقال المواجهة إلى داخل التراب المغربي في معركة إيسلي التي كانت تدشينا أوليا لدخول المغرب ضمن الحسابات الاستعمارية الفرنسية.
• ثانيا، من خلال ربط المغرب لاستقلاله عن المستعمر الفرنسي بشرط استقلال الجزائر، من منطلق أن استقلال المغرب جزء لا يتجزأ من استقلال الجزائر، و هذا الموقف دفع بالمستعمر الفرنسي إلى توسيع حدود الجزائر المستَعمرة لتلتهم جزءا من الصحراء الشرقية للمغرب، و رغم ذلك ظل المغرب ملتزما بدعم الجزائر، مقتنعا أن مسألة الحدود ستُحَل بينيا بعد استقلال الجزائر ( وهذا ما لم يتم طبعا نتيجة غدر النظام الجزائري الذي وُلد معاديا للمغرب) .
إن معارضتنا للموقف الدبلوماسي المغربي الجديد، نابعة من هذا الإرث الوطني العظيم الذي يحفظه الأرشيف الدبلوماسي المغربي بكل فخر، و هذا هو السلاح الحقيقي الذي يجب استعماله في مواجهة غطرسة جنرالات الجزائر، و ذلك لأن المغرب قد نجح، لعقود، في الفصل بين كتلتين في تعامله مع الجزائر، من جهة هناك الشعب الجزائري الذي نعتبره شعبا شقيقا و نكن له كل الاحترام و التقدير، و من جهة أخرى هناك النظام العسكري الذي يقوده الجنرالات، و هذا النظام يجب مواجهته بالوسائل السياسية والدبلوماسية الملائمة لفضح انتهازيته المقيتة، و هذا مدخل رئيسي لكسب دعم الرأي العام الجزائري و الرأي العام الدولي من أجل مصلحة وحدتنا الترابية.
و في نفس الآن، فإن رفضنا دعم الانفصال على أساس عرقي نابع من موقفنا المتجذر من الأطروحة الانفصالية في المغرب العربي، و هي أطروحة أسسها الاستعمار الفرنسي من أجل التمكن من السيطرة على الامتداد الجيوسياسي المغاربي، و قد تم تطوير هذه الأطروحة في المختبرات السوسيولوجية الفرنسية، بعد ذلك، من أجل توظيفها، بعد الانسحاب العسكري، لضمان المصالح الفرنسية، سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا. و هنا لابد من التذكير بسياسة الظهير البربري التي تجاوز توظيفها المجال السياسي المغربي إلى المجال السياسي الجزائري، و كان الغرض منها تحقيق الفصل،في سكان المغربي العربي، بين المكون العربي و المكون الأمازيغي، باعتبارهما مكونان متصارعان داخل الكيان السياسي و الاجتماعي و الثقافي الواحد، و هذا ما دفع منظر السوسيولوجيا الكولونيالية (روبير مونتاني) إلى الحديث عن الأوليغارشيات ( الجمهوريات) البربرية في المغرب.
ضمن هذا السياق في التحليل السوسيولوجي و التاريخي، يمكن أن نستوعب، بشكل أوضح، الأطروحة العرقية في الجزائر، فهي لا تستند إلى أي شرعية تاريخية أو سياسية تسمح لها بترويج مشروع الانفصال عن الدولة الأم، أما الحديث عن (شعب) القبائل كشعب (أصلي) فإنه لا يرتكز على أي معطيات تاريخية أو سياسية تؤكد ذلك، لأن الكثير من الدراسات الأركيولوجية تؤكد أن منطقة شمال إفريقيا، قبل الدخول العربي، كانت منطقة عبور للكثير من الأجناس البشرية، و من بينها الأمازيغ، و الرومان و العرب ... أما الجنس الوحيد الذي يمكن إثبات ( أصليته) فهو الجنس الإفريقي ذو البشرة السوداء لأن المنطقة ذات امتداد جغرافي إفريقي خالص.
إن هذا المنحى العلمي الثابت، في التحليل، هو الذي يجب أن يستند إليه صانع القرار الدبلوماسي المغربي، و ذلك بدل توظيف معجم سياسي متحول في الدفاع عن أطروحة عرقية لا وجود لها خارج مختبرات الاستعمار الفرنسي، فمنطقة القبائل تمثل امتدادا سياسيا و اجتماعيا للدولة الجزائرية، قبل المرحلة الاستعمارية، و نفس الوضع استمر مع الجزائر الحديثة. الاستثناء الوحيد الذي ميز منطقة القبائل، هو كونها المختبر الرئيسي للأطروحة العرقية التي صنعها الاستعمار الفرنسي و عممها، بعد ذلك، على المنطقة المغاربية. و لذلك، لا نستغرب من الدعم الفرنسي اللامشروط لهذه الأطروحة العرقية، لأنها تمثل ورقة رابحة يلعبها صانع القرار السياسي الفرنسي من أجل المحافظة على مصالحه الاقتصادية و السياسية و الثقافية داخل الجزائر.
لماذا ندعو إلى تغليب المرجعية العلمية في التعامل مع القضايا السياسية و الاجتماعية الحساسة ؟
لأن المغرب، كان المتضرر الأكبر من توظيف الأطروحة العرقية من طرف الاستعمار الفرنسي، و لولا يقظة الرأي العام الوطني، الذي ساهمت النخبة السياسية و الثقافية الوطنية في صناعته، لكان لهذه الأطروحة آثارا سياسية و اجتماعية خطيرة على مستقبل المغرب. و إذا كان المغرب قد نجا من الآثار الكارثية للأطروحة العرقية، في تاريخه الحديث، فإن ذلك يجب أن يستمر، خلال المرحلة المعاصرة، من خلال نشر الوعي التاريخي بين أفراد الشعب، و ذلك من أجل تجفيف منابع الأطروحة العرقية الاستعمارية، و ذلك لن يتم، طبعا، من خلال الاكتفاء بالمقاربة الإعلامية و التربوية، و لكن يجب أن يتم كذلك من خلال المشروع السياسي الذي تقوده الدولة، داخليا و خارجيا، فلا يمكن أن نقنع المواطن المغربي بفساد الأطروحة العرقية في منطقة الريف، أو تهافت الخطاب الثقافوي العرقي، مع اطلاعه المسبق على موقف الدبلوماسية المغربية الداعم للأطروحة العرقية في الجزائر .
يبقى، في الأخير، أن نذكر بأن موقفنا ثابت، مثل جميع المغاربة، من وحدتنا الترابية التي لا يمكن المساومة عليها، لأننا على تمام الاقتناع بالانتماء المغربي للصحراء، لكن نختلف مع الموقف الديبلوماسي الرسمي في مقاربة هذه القضية داخل أروقة الأمم المتحدة، فلا داعي لدعم الانفصال العرقي في الجزائر للدفاع عن وحدتنا الترابية، و خصوصا إذا كانت هذه الدعوة العرقية ذات آثار سلبية على استقرار المغرب قبل الجزائر. نحن في غنى عن هذا التوظيف العرقي، لأن كل أفراد الشعب المغربي مقتنعون بشرعية قضيتهم و مستعدون للدفاع عنها بكل الوسائل، سواء ساير ذلك الموقف الأممي أم عارضه، فقضية الصحراء قضية الشعب المغربي قاطبة، و لا يمكن لأي نظام إقليمي أو عالمي أن يعبث بخارطة المغرب التي ضحى من أجلها الأجداد، لعشرات القرون، في مواجهة القوى الاستعمارية و التوسعية.