إدريس جنداري
في افتتاحه للجمع العام للمجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي، سعى السيد عمر عزيمان إلى توظيف منطق الخطابات الملكية من أجل دعم مخطط فرنسة التعليم الذي يقوده الوزير التكنوقراطي في قطاع التربية الوطنية و التكوين المهني، و في الآن ذاته من أجل مواجهة قرار رئيس الحكومة المعارض لهذا المخطط اللادستوري، حيث عبر عن ذلك علانية أمام الرأي العام في الجلسة الدستورية لمجلس المستشارين.
إن رئيس المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي، و هو يوظف الخطابات الملكية لمواجهة قرار رئيس الحكومة المدعوم دستوريا، يخلط بين التوجه الملكي في بعده الوطني الداعي إلى الانفتاح اللغوي المتعدد (لغات) في ظل المحافظة على الثوابت اللغوية الوطنية المقررة دستوريا. و بين توجه اللوبي الفرنكفوني اللاوطني الذي يسعى إلى اختزال الانفتاح اللغوي في الأحادية اللغوية الفرنسية (لغة) في تهديد واضح لمنطق الدستور الذي يقر الطابع الرسمي للغة العربية، في مقابل اللغات الأجنبية كلغات انفتاح.
و لعل التوجه الوطني للخطابات الملكية لواضح بجلاء و لا يقبل أي تأويل سياسوي مغرض، و يبدو ذلك واضحا من خلال الدعوة إلى تمكين المتعلممن اكتساب المعارف والمهارات وإتقان اللغات الوطنية والأجنبية.و في علاقة بالانفتاح اللغوي الوارد في الخطابات الملكية، فهو تعددي في توجهه (لغات) و ليس أحاديا (لغة) فمنطق الخطابات الملكية واضح في توجهه الذي يجمع بين اللغات الوطنية و اللغات الأجنبية، و هذا ما يتناقض مع أطروحة اللوبي الفرنكفوني الداعية إلى احتكار المجال اللغوي الأجنبي في التعليم المغربي من طرف اللغة الفرنسية.
و من خلال العودة إلى الميثاق الوطني للتربية و التكوين، الذي يعبر عن التوجه الاستراتيجي للدولة في مسألة إصلاح التعليم، نجد هذا التوجه الوطني الذي يؤكده منطق الدستور كما يؤكده منطق الخطابات الملكية. و هو توجه واضح في دمجه بين الانفتاح اللغوي و بين المحافظة على المقومات اللغوية للشخصية الوطنية، و واضح كذلك في حديثه عن الانفتاح اللغوي بالجمع (لغات) و ليس بالمفرد (لغة).
- الإقرار الرسمي الصريح بالطابع الدستوري للغة العربية كلغة تدريس
في الدعامة التاسعة من الميثاق الوطني للتربية و التكوين، نجد الإقرار صريحا بأن اللغة العربية، بمقتضى دستور المملكة المغربية، هي اللغة الرسمية للبلاد، كما نجد الإقرار بتعزيزها و استعمالها فيمختلف مجالات العلم و الحياة. و أكثر من ذلك نجد الدعوة، ضمن نفس الدعامة، إلى فتح شعب اختيارية للتعليم العلمي و التقني و البيداغوجي على مستوى الجامعات باللغة العربية. و في توجهه الداعم للطابع الرسمي للغة العربية، نجد الميثاق الوطني للتربية و التكوين يؤكد على الأبعاد الثقافية و العلمية المعاصرة الداعمة للطابع الرسمي للغة العربية، و التي تقوم على عدة مرتكزات :
• التنمية المتواصلة للنسق اللساني العربي على مستويات التركيب و التوليد و المعجم .
• تشجيع حركة رفيعة المستوى للإنتاج و الترجمة بهدف استيعاب مكتسبات التطور العلمي و التكنولوجي و الثقافي بلغة عربية واضحة مع تشجيع التأليف و النشر و تصدير الإنتاج الوطني الجيد .
• تكوين صفوة من المتخصصين يتقنون مختلف مجالات المعرفة باللغة العربية و بعدة لغات أخرى..
و لتحقيق هذا المشروع الوطني المتكامل الداعم للطابع الرسمي للغة العربية يدعو الميثاق الوطني، ضمن نفس الدعامة التاسعة منه، إلى تجديد تعليم اللغة العربية و تقويته، مع جعله إلزاميا لكل الأطفال المغاربة, و يتجاوز الميثاق سقف التعليم العمومي لِيُقِرَّ بأن الأمر يتعلق كذلك بكل المؤسسات التربوية العاملة بالمغرب.و تتويجا لهذا التصور الاستراتيجي لتطوير اللغة العربية، يوصي الميثاق الوطني صراحة بإحداث أكاديمية اللغة العربية ابتداء من السنة الأكاديمية 2000-2001 ( تم إجهاض هذا المشروع إلى حدود اليوم) و ذلك باعتبارها مؤسسة وطنية ذات مستوى عال مكلفة بتخطيط المشروع المشار إليه أعلاه ( مشروع تطوير اللغة العربية) و تطبيقه و تقويمه بشكل مستمر .
- الإقرار الرسمي الصريح بتوظيف اللغات الأجنبية كلغات انفتاح
أما بخصوص الانفتاح على اللغات الأجنبية فالميثاق يتحدث عنه بالجمع (لغات) و ليس بالفرد (لغة) و هذا يشرع الباب أمام تنويع العرض اللغوي الأجنبي و إخراجه من الاحتكار الفرنكفوني. و هذا واضح من خلال منطق الميثاق الذي يؤكد على إدراج تعليم اللغة الأجنبية الأولى (الفرنسية) في السنة الثانية من السلك الأول للمدرسة الابتدائية، و إدراج تعليم اللغة الأجنبية الثانية ابتداء من السنة الخامسة من المدرسة الابتدائية.
لكن الميثاق الوطني واضح في تعامله مع اللغات الأجنبية، فهي لغات انفتاح و ليست لغات تدريس، باستثناء واحد ورد في الميثاق، يتعلقبدعم تعليم كل لغة أجنبية باستعمالها في تلقين وحدات أو مجزوءات ثقافية، تكنولوجية، أو علمية تسمح بالاستعمال الوظيفي للغة.
و هذا التوجه، الذي أقره الميثاق الوطني، يتناقض مع توجه وزيرالتربية الوطنية و التكوين المهني في مذكرته الوزارية (عدد 385.15 بتاريخ 19 أكتوبر 2015 ) المثيرة للجدل، و التي تدعو الأكاديميات الجهوية للتربية و التكوين إلى اعتماد الفرنسية في تدريس مادة الرياضيات بالسنة الأولى بكالوريا شعبة علوم الاقتصاد و التدبير، و بالسنة الثانية بكالوريا بمسلكي العلوم الاقتصادية و علوم التدبير المحاسباتي، و ذلك ابتداء من الموسم الدراسي 2015-2016.
- المذكرة الوزارية في مواجهة منطق الدستور و منطق الميثاق الوطني للتربية و التكوين
تنطلق المذكرة الوزارية، في البداية، من مقدمة منطقية تؤسس عليها مسلمات مسبقة لا تقوم على أي أساس علمي، و ذلك حينما تربط الاختلالات، الحاصلة في منظومة التعليم، بلغة التدريس (اللغة العربية)، و هذا اختزال خطير للمشاكل السوسيو-تربوية المتراكمة التي تعاني منها منظومة التعليم، و التي تحتاج إلى رؤية استراتيجية، بعيدة المدى، لاستعادة التوازن المفقود إلى المنظومة التربوية عامة. و لذلك، فإن أصحاب القرار الإداري يتوجهون رأسا إلى استخلاص (الحل السحري) للخروج من هذه الاختلالات، و هو تغيير لغة التدريس من العربية إلى الفرنسية، و هذه مغالطة خطيرة جدا لاعتبارين:
• الاعتبار الأول يتعلق بإصدار مذكرة إدارية للبث في قضية سياسية تتعلق بالتوجه الحكومي عامة، و الذي يقوده رئيس الحكومة المنتخب شعبيا، و يتحكم فيه التوجه الاستراتيجي للدولة حول إصلاح التعليم، و الذي يجسده الميثاق الوطني للتربية و التكوين .
• الاعتبار الثاني يتعلق باختزال مشاكل منظومة التعليم في لغة التدريس، و لذلك يتم الاقتصار على الحل اللغوي بدل تحمل مسؤولية حل الإشكاليات السوسيو-تربوية المتراكمة.
و هنا لابد من التأكيد على أن هذا التوجه معارض للإصلاح الاستراتيجي الذي أقره الميثاق الوطني للتربية و التكوين، بخصوص دعم تعليم اللغات الأجنبية عبر تلقين وحدات أو مجزوءات ثقافية، تكنولوجية، أو علمية تسمح بالاستعمال الوظيفي للغة. فالأمر هنا يتعلق بوحدات أو مجزوءات من المادة الدراسية و ليس كل المادة.
و هذا المنطق، الذي أقره الميثاق في رؤيته الإصلاحية للتعليم، هو الذي اعتمده بعض أعضاء المجلس الأعلى للتعليم، في رفضهم للمذكرة الوزارية باعتبارها خطوة معاكسة تماما لما جاء في الرؤية الاستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي، و التي تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للتدريس، و يمكن استعمال الفرنسية و الإنجليزية لتدريس مجزوءات داخل المادة و ليس المادة كلها.
كخلاصة لما سبق يمكن الخروج باستنتاجين أساسيين:
• من جهة،يجب الإقرار بأن وزير التربية الوطنية و التكوين المهني، في إقدامه على إصدار مذكرة تنص على تدريس مواد دراسية كاملة باللغة الفرنسية، كان ينتهك بشكل صريح منطق الدستور الذي يؤكد على الطابع الرسمي للغة العربية، و في نفس الآن يعبر عن تحديه للإجماع الوطني الذي عبر عنه الإصلاح الاستراتيجي المجسد في الميثاق الوطني للتربية و التكوين.
• و من جهة أخرى، يجب الإقرار بأن رئيس المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي، من خلال موقفه الداعي إلى الخروج عن منطق الدستور و منطق الإصلاح الاستراتيجي، و من خلال تحديه لمؤسسة رئيس الحكومة المؤتمنة على تنفيذ المقتضيات الدستورية، و من خلال مناهضته لآراء أعضاء المجلس الذي يترأسه. من خلال كل هذا، كان السيد عزيمان يؤسس لمرحلة جديدة في مسار صناعة القرار السياسي في المغرب، عبر اللجوء إلى توظيف المؤسسة الملكية لحسم النقاش الدائر حول قضايا خلافية داخل المجتمع و مكونات الدولة، و هذا ليس في صالح الحياة السياسية عامة، و ليس في صالح المؤسسة الملكية التي يجب أن نرتقي بها عن الخلافات بين الفرقاء السياسيين باعتبارها تجسد الدور التحكيمي داخل الدولة و المجتمع.