عبد اللطيف الركيك
سار أحمد في طريق طويلة بين المسالك الوعرة في طريق الحلم. تتراءى له في الآفاق بالكاد بناية مهترئة في دوار بعيد، حاملا على ظهره حقيبة رثة تحوي كل شيء: الأقلام والدفاتر والكتب، وقنينة شاي وكسرة خبز، وبيده قفة المعلم كعادة لا محيد عنها بعد السوق الأسبوعي. وهو في مسيره، كان الرعب يملأ قلبه خوفا من كلاب شرسة يخترق نباحها صمت الطريق. وقد كانت تأبى إلا أن تعترضه كل مساء، في طقس لا بد منه، فيضطر الصغير في كل مرة إلى مقاومة خوفه قبل الكلاب، واقتحام المعركة مع حراس الطريق. تارة ينجح، وتارة يفشل، فيعود أدراجه، لا يلوي على شيء، متحججا بأي عذر، وكيفما اتفق: "لم يحضر المعلم".
كانت مدرسة أحمد، عفوا الخربة، عبارة عن جدران صدئة متهالكة بأصباغ داكنة، طاولات منخورة بثقوب عميقة تحمل ذكرى الذين مروا من هنا، وسبورة أسود لونها وقد اعترتها خربشات من نذوب الزمن، وقطع طباشير صلبة أشد من الحجارة، مشتتة، وقد رمى بها المعلم في أرجاء الحجرة نكاية في الزمن الذي جاء به إلى هنا.
يتحلق الصغار حول الخربة، لا يدرون ما الذي جاء بهم إلى هنا...في انتظار الذي يأتي...فجأة يقتحم سكون المشهد صوت، غريب على أسماع القرويين، صوت محرك الدراجة النارية التي يتنقل بها المعلم... ها قد جاء المعلم وفي المقعد الخلفي تتأبطه فتاة. ينفض جمع الصغار، يقوم الجميع من مكانه، يصطفون فرادى بانتظار ولوج حجرة الدرس.
بعد أن أخذ الجميع مكانه، يدخل المعلم ماسكا بذراع الفتاة، وهي تترنح بلباس رياضي، ثم يأتي المعلم بجهاز تلفاز، يضعه على الطاولة...يشغل الجهاز...يخيم الصمت، ويستغرق الصغار في متابعة الأشياء التي تتحرك داخل الصندوق الأسود، وقد استبد بهم العجب والاندهاش، واستسلموا للصمت....نسي الجميع الدفاتر والكتب والسبورة السوداء، داسوا بأرجلهم الطباشير المتناثر هنا وهناك، وقذفوا بحقائبهم يمينا وشمالا، وهم في سكرة يحملقون في الجهاز العجيب...وبينما هم على ذلك الحال، كان المعلم منزو في ركن من المكان يأتي حركات غريبة مع الفتاة، يغادران المكان، ثن يعودان، جيئة وذهابا، والصغار يسترقون النظرات، نظرات الاستغراب في محاولة لفهم حركات المعلم وأمر الجهاز.
أرخى الليل سدوله في المساء ذات شتاء، قفل أحمد عائدا لوحده يطوي الطريق، في ظلام دامس، وسكون مطبق، لا يعكر صفوه غير نباح الكلاب التي تترصد الحركات، وحفيف الرياح، نقيق الضفادع...تتداخل الأصوات، كل صوت كل حركة كان لها وقع في قلب الصغير، في انتظار حدوث الأسوأ.
يقترب أحمد من خيمة أهله المنتصبة بعيدا عن الدوار. لا أحد في انتظار أحمد وإن عاد متأخرا، الكل منهمك في أشغال نهاية اليوم. فقط كلاب الخيمة التي آنسته هي من تحفه إلى أن يلج الخيمة، فقط حينئذ يهدأ روعه، ويوقن أنه عاد سالما.
بعد أن تنتهي الأشغال، يتحلق الجميع في قلب الخيمة حول الجد. في هذه اللحظة عادة ما يتذكروا أحمد. يجلس الصغير وسط الجميع وقد اجتمع فيه كل شيء في أعينهم: الفقيه، الطالب، القارئ، يطلب منه الجد أن يقرأ القرآن، فلا يردد الصغير كعادته سوى سورة الفاتحة التي يحفظها عن ظهر قلب. إلا أنهم هذه الليلة قد طمعوا في المزيد. وضعوا أمامه المصحف، استغرق الصغير في نظرات تيه وشرود كأنه يمتنع، التفت يمعن النظر في عيونهم ملتمسا العذر، فأيقن أن لا فكاك له. أمسك الصغير بالمصحف، فتحه بيدين مرتعشتين، حملق في خطوط بدت له عجيبة، تتراقص أمام عينية كما يتراقص ضوء الشمعة. طأطأ رأسه في حركة توحي بأنه لم يعرف الخطوط والقراءة. نهره الجد: "إقرأ". فجأة غالبته الدموع، واستغرق في نوبة بكاء، وقد تذكر الطريق والكلاب، تذكر دفاتره الممزقة، الكائنات التي كانت تتحرك على التلفاز. تذكر كل شيء، فلم تعلق بذهنه غير صورة المعلم والفتاة تهتز في مخيلته كما تهتز الخطوط الغريبة على صفحات الكتاب....تفرق كل شيء، فلم يجتمع في عقله الصغير غير فكرة سيبوح بها غدا.(يتبع)