عبد الرحمن قريشي
إذا كانت العلمانية عند الأمم المتحضرة عقيدة، تبعث صاحبها على العمل والتفاني والإخلاص في خدمة تلك الأمم، والتمكين لها في الأرض،وإثارة كنوزها وثرواتها واستغلالها، لنشر ثقافتها وقيمها وحضارتها، فإن العلمانية عندنا هي الخمر والدعارة والعبث وخدمة الاستبداد الذي يشجع على نشر الحانات والمقاهي كالفطر في كل أركان المدن، لإشاعة الجهل واللذة الرخيصة، وتغييب العقل والوعي الذي هو عدو السياسة المستبدة التي حرمت الشعوب رجالا ونساء أبسط حقوقهم كالعيش الكريم وحرية التعبير والمشاركة السياسية وتنصيب المسؤولين بطريقة شرعية ومحاسبتهم وعزلهم إذا اقتضى الأمر ذلك وما أشبه ذلك من مظاهر الحضارة والرقي في معارجها.
إني لأعجب لعلماني يزعم لنفسه التحضر وخدمة الأمة والاقتداء بأقرانه في الأمم المتحضرة، كيف يضرب صفحا عن هذه المخازي والمظالم، ولا يستميت في مقارعتها ومغالبتها؟ ولا يحلو له إلا محاربة الله تعالى في علياء سمائه، يظل الأحمق في المقهى، يفك شفرة الكلمات المتقاطعة في الجرائد، ثم يبيت في الحانة، يفكر في تطوير الدين لرفع ظلم النساء الناجم عن انحياز الله تعالى في الإرث للرجال، وكأنه سبحانه مستبد، يبحث عن أصوات الرجال في انتخابات تشريعية!.
قرأت كثيرا من زعيقهم ونعيقهم، فألفيته كلام مخمورين أو مخادعين، لأنهم يفرضون أن المجتمع كله يموج بالموظفين والموظفات، يرتعون في الخزينة العامة،فيقولون مثلا: "تجب إعادة قراءة نصوص القرآن الكريم من أجل تقسيم عادل للإرث، لأن الظروف لم تعد كما كانت يوم نزل القرآن".
تلتفت يمنة ويسرة تبحث عن الظروف التي لم تعد كما كانت، فتجد أن المسلمين كانوا آنذاك سادة وقادة في أرضهم وأرض أعدائهم، كان الجد بطلا مغوارا، يملك في داره رقيقا من أعدائه، وتغيرت الظروف فأصبحت أرضهم الآن كلأ مستباحا للأعداء، يتحكمون في غذائهم ودوائهم وسلاحهم، وأصبح الحفيد علمانيا مخمورا مغرورا، يبيح عرض أمه وزوجته وبنته، ويوطئ عدوه فرشهن!
هل تغير الظروف يتمثل في أن لدينا موظفة واحدة من بين مائة ألف عاطلة إن لم نقل أكثر؟وما الجديد في هذا التقسيم العادل للإرث الذي فرضته الظروف؟
لنفرض أن لدينا عائلتين محترمتين، إحداهما مكونة من زوج يدعى إبراهيم أنفا الموظف بالأكاديمية، يلتحق بمكتبه في الساعة العاشرة القديمة، ويغادره في الساعة الثانية عشرة الجديدة، وحليلته عائشة كريميــ معذرة عن هذا الجمود والتكلس إن لم أقل: عائشة أنفا على حد سوزان مبارك وليلى بن علي ــ موظفة هي أيضا، يسبقها زوجها في الالتحاق بالعمل، وتسبقه في المغادرة، والعائلة الثانية مؤلفة من زوج يسمى محمد كريمي المستغل سلطته في الوظيفة لابتزاز المواطنين، ورفيقة عمره يامنة أنفا العاملة في مجال حقوق النساء.
شاءت الأقدار أن يلتحق الحاج علي أنفا بربه، أو بتعبير علماني: رحل السيد علي أنفا عن دنيانا، ولم يترك غير الموظف الكسول وابنته المهتمة بالنساء المهضومة الحقوق، وثروة لها بال. ثم التحق به السيد كبور كريمي مخلفا لابنيه ثروة جمعها من مداخيل المقاهي والحانات وأوكار الدعارة.
لتقسيم هاتين الثروتين على الأبناء البررة نسلك طريقتين:
1 ـ طريقة ربانية، متكلسة جامدة موغلة في الماضي البعيد، لا يخطر ببالها أن الناس كلهم سيصبحون يوما موظفين!!
2 ـ طريقة علمانية متطورة، تراعي مقتضيات الدستور الجديد ومتغيرات الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمرأة، والقيم السائدة في المجتمع المغربي اليوم!!
أما الطريقة الجامدة فتعطي الموظف الثلثين، والموظفة الثلث، فإذا ضم الموظف ثلثيه إلى ثلث زوجته، يصبح نصيبهما ثلاثة أثلاث.
وأما الطريقة المتطورة المراعية للظروف الجديدة فتعطي الموظف النصف والموظفة النصف الباقي، فإذا ضمت الموظفة نصفها إلى نصف زوجها يكون لديهما ثلاثة أثلاث.
إبداع علماني أم تقليد أخرق؟!
ولنفرض أن الموظفة تريد أن تنفق نصيبها كما يحلو لها. هل في مكنتها ذلك؟
أما الطريقة الجامدة فتقول لها: لك ذلك، فأنت طاعمة،كاسية من نصيب زوجك طوعا أو كرها. على أن في هذه الطريقة المتكلسة لطيفة، وهي أن العاملة في مجال حقوق النساء تنازلت عن الثلث لصالح زوجة شقيقها، والأخرى فعلت مثلها، ثم ذهبت كلتاهما بالثلث الكامل تنفقه على ماكياجها أو ما شابه. وتزداد هذه اللطيفةلطفا إذا كانت إحداهما أو كلتاهما عاطلة.
وأما الطريقة المتطورة المراعية للظروف فلا أدري أتسمح بذلك، فتهرب من ظلم متخيل وتقع في ظلم فاحش، أم تجبر الموظفة على تطبيق المساواة ووضع درهمها على درهم زوجها وإحضار الدفتر والقلم لحساب كل ريال يخرج أو يدخل؟!وتلك اللعنة التي ستفكك الأسر وتشرد الأطفال، وتعرض النساء للارتزاق بأعراضهن.فيا فرحة العلماني الشاطر الذي سيصبح ذئبا يضم إلى المقهى والحانة وكر الدعارة!
من الذي راعى الظروف المتحولة: آلله العليم الخبير أم العلماني الجاهل المخمور؟
على أن الإنصاف يقتضي أن تطبق هذه المساواة الموهومة على الموظفات وحسب.
أما العاطلات والعاطلون الذين يمثلون التسعين في المائة أو أزيد،يموت أحدهم فلا يترك إلا ملابسه المرقعة وأحذيته الممزقة، فلا يحتاج ورثته البؤساء إلى حذلقة العلماني العتيد لاستخلاص أنصبتهم كاملة متساوية من أطمار الهالك،بل المطلوب منه ــ لو كان شريفا ــأن ينافح عنهم وينازل العفاريت والتماسيح التي أهلكت الحرث والنسل، وأفسدت البلاد والعباد، ويضحي براحته في سبيل توفير العيش الكريملهم والعدالة الاجتماعية إن كان صادقا، وتعليم الورثة الموظفين الإخلاص في العمل والالتحاق به والمغادرة في الأوقات المحددة، وعدم استغلال السلطة في ابتزاز البؤساء، وهدم الحانات وأوكار الدعارة، ونشر الوعي والعلم ومسابقة الأمم ومنافستها في التمكين من الأرض.
أما مناطحة السماء فعبث علماني مفضوح شرقا وغربا، وإلهاء للأمة عما خلقت له، وعما يحاك ضدها، وخدمة مجانية لأعدائها المتربصين للتمكين من رقابها وإخضاعها، وتلك رسالة استعمارية أنيط تنفيذها بطغمة لا خلاق لها، ولكن كما قال الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها *** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وكما قال آخر:
محمد باق ما بقيت دنيا الرحمن.
وسيعلو صوت الله في كل زمان ومكان.