إسحاق شارية
كل من يجالس أبائه وأجداده من أبناء الشعب البسطاء الذين عايشوا حقبة حكم الحسن الثاني طيب الله ثراه، تجدهم لايزالون يحكون عنه بكثير من التوقير والإجلال، ويستحضرون مواقفه وأقواله وحكمه، وكأنه مازال حيا بينهم.
وأظن أن صورة الحسن الثاني لم تتاثر في المتخيل الشعبي، رغم كل المحاولات التي قادها نخب العهد الجديد في جعلها صفحات سوداء لا يظهر فيها سوى الدم والرصاص والتعذيب، وقد تناسى المؤرخون الجدد بأن حكايات الشعوب وتاريخها الشعبي، لا تكتبه صفحات جرائد العملاء والحاقدين، ومن كانوا بالأمس يتآمرون ضد الملكية بالتعاون مع الإستخبارات الجزائرية والليبية وحزب البعث في العراق وسوريا، هؤلاء الذين يتعمدون في كل يوم أن يصفوا مرحلة تاريخية مشرقة من تاريخ الأمة المغربية برجالاتها ونخبها ومسيرتها ونضالاتها بسنوات الرصاص، محاولين دفن جيل بكامله في مقابر جماعية دون أسماء أو مناقب أو أمجاد، بل تكتبه بطولات رجالات تلك المرحلة ومواقفهم الصادقة، التي تسجلها الذاكرة الشعبية وكأنها محفورة في الصخر.
وعليه فقد قررت في هذه المقالة المغامرة بقول وجهة نظري المعاكسة تماما للتيار الجارف الذي أصبحت تقوده نخب الإنصاف والمصالحة وقيادات الأحزاب الجديدة، لأقارن بينها وبين أندادها في عهد الراحل الحسن الثاني، لعلي أتلمس أسباب ودوافع هذا الإنحطاط السياسي الذي بلغه المغرب، وهذه الخطابات التي تعطي صورة عن المستوى الفكري والثقافي الهزيل للنخب الحالية.
ففي أيامنا هذه لن تجد زعيما سياسيا يكتب كتابا تحليليا للوضع السياسي المغربي وآفاقه في ظل المتغيرات العالمية، كما لن تجد له افتتاحية في جريدة يناقش فيها إشكالية الفقر والأمية والتنمية، رغم أنه يملك ترسانة من الجرائد والمجلات تعمل فقط لملئ جيبه وتلميع صورته القاتمة.
وهكذا فإن أقصى ما طوره فكر زعيم سياسي يترأس أضخم حزب إداري في المملكة، هو تعبيره الصريح بأن مشروعه من أجل تنمية مناطق الشمال يمر عبر شرعنة وتقنين بيع وتناول الحشيش في المقاهي بكميات محدودة، دون أي مراعاة لوازع أخلاقي أو تفكير في بدائل حقيقية تحمي الشباب من مخالب مافيا المخدرات المستفيدة من مثل هذه المشاريع الهدامة.
وفي عصرنا هذا لا يخجل زعيم سياسي أو رئيس منظمة حقوقية في الدفاع عن الشذوذ الجنسي وحق المرأة في مناصفة الإرث وربما حقها في إمامة الصلاة ومن ثم إلى الإمامة الكبرى، في تحد للموروث الثقافي والديني والحضاري للمغاربة، وفي تغافل عن الإشكالات الحقيقية والمتجلية في الإقتصاد والصناعة والتعليم والصحة والإستثمار والديمقراطية.
وفي هذا الزمن أيضا سيطالعك رئيس الحكومة في قبة البرلمان وهو يعربد على معارضيه، ويستقي من ألفاظ السوق ما يعبر به عن مشاريعه السياسية، ونضالاته ضد العفاريت والتماسيح، وألفاظ أخرى يخجل المرء من إعادة نشرها احتراما للقارئ، في تجاهل تام لمنصب رئيس الحكومة وما يحمله من ثقل ومسؤوليات باعتباره أحد وجوه المملكة البارزين، الذين تسلط عليهم دول العالم العيون لمراقبة حركاته وسكناته وكل ما يتفوهون به، لتبني مشاريعها الإقتصادية وتحالفاتها الإستراتيجية، فتجدها وهي تترجم تصريحات رئيس حكومتنا حائرة لا تدري هل تتعامل مع دولة فوق كوكب الأرض أم مع حكومة في دولة العجائب والغرائب، حيث التماسيح والقردة والأشباح والعفاريت تتقاسم الأدوار لتعطيل عجلة التنمية والديموقراطية.
وفي مقابل زمن الإنحطاط والرداءة الذي نعيشه، نجد في عهد سنوات الرصاص كما يحلو لبعض الجلادين الجدد أن يسموا حقبة الملك الراحل، مقالا للمرحوم محمد بن الحسن الوزاني زعيم حزب الشورى والإستقلال أثناء مرحلة إعداد أول دستور في المملكة ، تحت عنوان "دستور ملكي لا ملكية دستورية" ينتقد فيه مشروع الدستور بدقة متناهية ونقد بناء سواء من ناحية اعتماده على برلمان بغرفتين مما يضعف مؤسسة ممثلي الأمة، أو من ناحية قوة اختصاصات السلطة التنفيذية، ويتحدث بكل جرأة ومصداقية عن انتقاده للإختصاصات الواسعة للملك الأمر الذي يرى فيه معرقلا للتطور الديمقراطي، حيث يقول في إحدى فقرات المقال "...وإذا أضفنا إلى هذا ما يحتوي عليه مشروع الدستور من نصوص غير دستورية أي ليست من اختصاص الدساتير المحترمة في البلاد المتمتعة بنعمة الحكم الديمقراطي الصحيح، مما يفتح الأبواب للتحكم والإستبداد باسم القانون..."، كما استمر هذا الزعيم يناضل من أجل الديمقراطية والكرامة في مواجهة شجاعة لمواقف المحافظين ولا يجد ضيرا في قول كلمة لا للملك إذا رأى أن ما يملي عليه ضميره ومبادئه يقتضي ذلك، كخروجه من الحكومة المغربية الأولى بعد الإستقلال وتقديمه للإستقالة من وزارة الدولة ورفضه تسلم تعويضات وراتب الإستوزار.
وفي عهد الرصاص كذلك وفي عز خطاب الحسن الثاني الذي صرح فيه أن المغرب مهدد بالسكتة القلبية سيرفض زعيم حزب الإستقلال الأستاذ أمحمد بوستة طلب ملك البلاد بتشكيل حكومة بسبب رفضه القاطع أن يبقى إدريس البصري وزيرا على الداخلية مطالبا باختصاصات حقيقية ومنتقدا إفساد البصري للحياة السياسية وتزوير الإنتخابات، ولم يهتم لا إلى منصب ولا إلى كرسي ولا إلى غضب السلطان.
وفي هذا العهد كذلك ونحن نستحضر مناقب رجال الدولة الحقيقيين لا يجب أن نتناسى أن رجلا من طينة هؤلاء لازال يناضل بيننا وهو الأستاذ محمد زيان الذي كتب له التاريخ صفحة مجيدة عندما تقدم بكل شجاعة ليقدم استقالته للحسن الثاني من منصب وزير حقوق الإنسان احتجاجا منه على الوضع الحقوقي للمغرب والخروقات التي شابت الحملة التطهيرية التي كان يقودها أقوى رجل في المملكة إدريس البصري، وأظن بهذه المناسبة بأن هذا الرجل الذي عايشته مدة طويلة وتعلمت على يديه أصول النضال السياسي النزيه، هو آخر رجل يمكن أن يقول كلمة لا للملك حماية للملكية من المكائد والمخططات التي تحوم حولها، في عهد كثر فيه كراكيز المعارضة المدفوعة الثمن من المنظمات المتاجرة بحقوق الإنسان خدمة لمصالح القوى العظمى.
ولكن للأسف في الوقت الذي توشح صدور نخب العهد الجديد بالنياشين والأوسمة، وتسلط عليهم أضواء الإعلام وكراسي السلطة والمناصب، رغم كل مشاريعهم الخبيثة وتسببهم في إفساد المشهد السياسي، يبقى رجال الدولة الحقيقيون بتجاربهم وخبراتهم ووطنيتهم ومواقفهم الخالدة، إما في قبور مهجورة ومنسية أو في منفاهم الإجباري ينتظرون ساعة الرحيل، لتبقى الساحة السياسية خالية تماما إلا من أصوات النفاق وأبواق الفساد ومخططات العملاء، وينعم الوزير بمنصبه في هدوئ دون حسيب أو رقيب، ويبقى الشعب وحيدا يعاني في صمت، مصداقا لقول الشاعر "السلطان طبيب والراعي مضرور ولا وزير يبلغ الخبار".