عادل اعياشي
لا يخفى على أحد ما تعانيه الرياضة المغربية اليوم من تدهور خطير وعثرات متكررة عصفت بجل الألعاب الرياضية الفردية منها والجماعية، إذ تأكد هذا الفشل بشكل لا يدع مجالا للشك خلال الألعاب الأولمبية الأخيرة في البرازيل، و لم تكن المشاركة المغربية مخيبة للآمال قط لان الأمل لم يعقد عليها في الأساس، بل كانت مخجلة بالنظر إلى ما حققه المغرب على الأقل من ميداليات متواضعة في الدورات السابقة، وتساءل المتتبعون عن أسباب هذا الإخفاق وتراجع مستوى الرياضة الوطنية وغياب التنافسية بشكل ملحوظ، الأمر الذي دفع الجمهور المغربي المحب للرياضة كعادته إلى هجر الملاعب وإدارة ظهره لكل ما هو رياضي، حيث فقد الثقة تماما في أية نتائج يمكن أن تتمخض عن رياضة بهذا المستوى بعد اشمئزازه من تكرار النكسات الواحدة تلو الأخرى.
إن فشل الرياضة الوطنية ناجم عن اهتراء منظومة بأكملها عجزت عن تقديم الأفضل ورسم البسمة على وجوه المغاربة، إضافة الى افتقارها للأهلية والتميز لجلب الألقاب التي باتت اليوم تتطلب لآليات تعتمد على قواعد مضبوطة، ودراسات علمية دقيقة، ومشاريع جادة لإعداد الابطال والتخطيط المحكم لهدف واضح وجلي ألا وهو اعتلاء منصات التتويج.
لقد سئمنا من الشعار الخالد للرياضة المغربية "المهم هي المشاركة"، ما يترسخ في الذهن ويعترف به التاريخ هي الألقاب، ولا شيء غيرها، وتأملوا في نهائيات أمم أوربا على سبيل المثال حين يتم إهمال مقابلة الترتيب لان المهم هو الفائز باللقب الأوروبي، فحتى الوصيف لا يلقى عندهم الثناء المطلوب. إن عدم معانقة الذهب أو ما دونه في المحافل الرياضية الدولية يعتبر فشلا ذريعا في حد ذاته مهما كانت الظروف وانتصارا كبيرا للمنافس الذي عرف كيف يقتنص الفوز كونه استعد بصورة أفضل، إنه تمثيل لبلد، لألوان علم، وليس مجرد مشاركة في لعبة مسلية، إنها صورة شعب بأكمله يهان حين يفشل ممثلوه في رفع رايته عاليا فوق كل رايات الأمم. ليس العيب في عدم المشاركة للتركيز أكثر في المنافسات القادمة، العيب حين تتحول المشاركة إلى مجرد نزهة تؤخذ فيها الصور وتصرف عليها الملايين لا لشيء سوى للاستمتاع والاستجمام، في حين يقبع الآلاف من الغيورين في بيوتهم وراء شاشات التلفاز إلى ساعات متأخرة من الليل ينتظرون على أحر من الجمر انجازا مفرحا.
من حق كل واحد منا أن يشعر بالنقص والإحباط حين يرى أعناق الأبطال الرياضيين من جنسيات مختلفة وهي تزين بالذهب والفضة والبرونز، ولا يرى من بين هؤلاء من يحمل علم بلاده ويردد كلمات النشيد الوطني بتأثر ممزوج بالدموع، ومن حقنا أيضا أن نحس بالخجل بعد خروجنا من المنافسات بميدالية يتيمة ونحن بلد يتعدى أبناؤه الثلاثين مليونا من بين دول أخرى لا يتعدى سكانها ألافا معدودة ومع ذلك كان لها نصيب وافر من الذهب الأولمبي، هذه الأحاسيس بدأت تُفقد الشارع الرياضي المغربي الثقة في أية أفاق واضحة آو حُلمٍ بفجرٍ جديد تطل معه الرياضة الوطنية وقد بلغت أعلى المراتب وانتشت بحلاوة طعم الفوز.
إن الرياضة مثلها مثل الصناعة والتجارة عمود من أعمدة الدولة، تتطلب بدورها المادة الخام التي تتجسد في نواة البطل المستقبلي، وبرنامج متكامل ومتوازن من شانه أن يصقل ويطور مهارات البطل ويشمله بالرعاية التامة قصد تنميته وتكييفه جسمانيا ونفسيا ووجدانيا، وذلك تحت مراقبة وإشراف نخبة متمكنة قادرة في النهاية على خلق متنافس رياضي بكل مقوماته الفسيولوجية والسيكولوجية.
إنها حلقة معقدة وليست بالعملية البسيطة، فكما يتطلب تكرير البترول مثلا مهارات وتقنيات صناعية خاصة واعتمادات مالية ضخمة لإخراج منتوج قادر على غزو الأسواق الدولية، كذلك الشأن بالنسبة لرياضي القرن الواحد والعشرون، فلا بد من توفير كل الظروف الملائمة، والنبش في الطاقات الرياضية
الموءودة، ورفع سقف التطلعات رغم صعوبة التحديات، والعمل الجاد والمتواصل بعيدا عن أية مناوشات أو مزايدات حتى ننجح في إنشاء جيل من الأبطال بإمكانهم إن يقولوا كلمتهم في المحافل الرياضية الدولية.
أنا من الذين لا يؤمنون كثيرا بعلاقة الرياضة والتقدم العلمي والتقني وما إلى ذلك، إن الإيمان بالقدرات المتاحة والتركيز بنية سليمة على بلوغ الهدف هو الفاصل في تحقيقه في نهاية المطاف رغم بساطة الوسائل والإمكانيات، وخير دليل ما رأيناه جميعا في اولمبياد ريو حين فازت بعض الدول المغمورة رياضيا بالذهب ككوسوفو وفيجي لتتوج مشوارها الأولمبي بميدالية ستبقى خالدة في التاريخ والذاكرة.
هناك بعض المحاولات التي سعت إلى النهوض بالرياضة الوطنية لكنها باءت بالفشل الذريع، فالمشكل إذن نابع من منظومة برمتها تستدعي عاجلا إصلاحها وتأهيلها وفق معايير علمية مجربة ميدانيا.
الوعي الرياضي، البنية التحتية الجيدة، التنافسية، هي قواعد ثلاثة لا بد لنا ان نحن أردنا النهوض بالرياضة المغربية اعتمادها وجعلها على رؤوس أولوياتنا:
الوعي الرياضي مشكلة الرياضة الوطنية الأولى هي انعدام الوعي الرياضي لدى المقبلين على الممارسة، وبغيابه يستحيل القيام بالخطوة الأولى في مسار انشاء بطل يعول عليه في المستقبل، الوعي إجمالا هو رد فعل تجاه كل السلوكيات والممارسات والظواهر في الحياة الاجتماعية وكيفية التعايش والتفاعل معها بتوازن منضبط، فالوعي الرياضي بالنسبة للمتتبع يتجلى في طريقة تعامله مع المحيط الرياضي بحيث يغيب وعيه ويفقد قيمته حين يستحوذ عليه التعصب الرياضي بكل سلوكياته التي تناهض الانضباط الأخلاقي والاجتماعي والقيمي، أو يصاب بداء العنصرية البغيضة مما يخلق حالة من التشنج والاحتقان والكره سرعان ما تتحول إلى صدام دموي وفوضى تحيلنا إلى القرون الوسطى، فينقلب المتتبع الرياضي إلى قنبلة موقوتة تنفجر في وجه المجتمع وتسيء لسمعة الرياضة النبيلة.
أما بالنسبة للممارس فيجب عليه قبل كل شيء أن يكون مؤمنا بقدراته أشد الإيمان، أن يلم بكل قواعد اللياقة البدنية والصحة النفسية ليحافظ على رشاقته ونشاطه الرياضي، خبيرا بآليات التدريب والمتغيرات التي تطرأ عليها مع مرور الزمن، يجب عليه أن يتعلم أن الفوز والنجاح لا يتحققان إلا بالجهد والمثابرة المتواصلين دون كلل أو ملل، وأن البطل المثالي هو من يتجاوز كل الصعاب بسلاح الأخلاق والعزيمة، وهو من يضع أمامه الهدف بدقة فائقة ويكافح لتحقيقه وإخراجه إلى أرض الواقع، ولو تطلب الأمر تقديم التضحيات كالابتعاد عن الملاهي والسهر وخوض المعسكرات التدريبية بعيدا عن الأهل والأصدقاء، فالبطل الحقيقي ليس بالشخص العادي ولا يعيش حياته كالآخرين، إنه يحمل مشروعا ثقيلا على عاتقه، مشروع بلد بأسره وليس مجرد لاعب يُشغل وقت فراغه، وهنا يأتي دور التأطير الجيد والحكيم النابغ من شعور الغيرة على الوطن ونكران الذات، فالبطل لا يُصنع من فراغ بل تؤهله سواعد خفية تعمل وراء الأضواء تحمل هما يفوق ما يحمله البطل نفسه، وما فشل البرامج الرياضية إلا بفعل فشل القيادة الفاقدة للخبرة والدراية المهنية، فلا بد لنا إن أردنا الخروج من هذا المأزق الاستعانة بخبراء لهم من المؤهلات والإمكانيات ما يستطيعون بهما انتقاء المواهب الصاعدة، واكتشاف الطاقات الخارقة، وإزاحة الغبار عن مكامن الضعف والخلل، ورسم طريق معبدة نحو التتويج بالألقاب.
البنية التحتية لا يمكن للرياضة أن تشق طريق النجاح إذا لم توجد قاعدة صلبة ومتينة من التجهيزات الرياضية والملاعب والقاعات وصالات التداريب بنسب تتوافق مع عدد وتوزيع السكان، فهي بمثابة الرئة التي تتنفس عبرها الرياضة، إذ لا يمكن تصور تفوق رياضي في تخصص ما دون أرضية حاضنة لهذا التفوق، ولا يمكن الحديث عن مواهب رياضية في غياب فضاء يتبناها ويصقلها وبالتالي يحميها من الاندثار، ولن تتقدم رياضتنا خطوة واحدة إن لم تُفتح الملاعب الرياضية بالمجان أو بثمن رمزي في
وجه العموم، وإن لم تتراجع الدولة عن وضعها تحت وصاية جمعيات انتهازية تتخذها مشاريعا للربح، تتحكم فيها كيف تشاء فتخصص أثمنة خيالية لأبناء الحي مقابل إجراء مقابلة في كرة القدم، ولا يستفيد من هذه الملاعب سوى القادرون على أداء ثمنها، أما الشريحة الأكبر من الأطفال واليافعين من المتعطشين لإبراز مواهبهم فغالبا ما يتلقون الرفض والإقصاء.
في ظل ما يعيشه التعليم اليوم من وضعية حرجة تستلزم نقله على وجه السرعة لغرفة العناية المركزة، بات من المستحيل ان تنبثق رياضة بالمعنى الحقيقي من بين اسوار المدارس والجامعات، فإصلاح منظومة التعليم هو التحدي الأكبر لمواكبة رهانات المستقبل، والسبيل الوحيد لانتشال الرياضة الوطنية من براتين التخبط والتيه.
لا جرم أن الوسط التعليمي يساعد على تتبع سلوكيات الطفل لوقت أطول، كون هذا الأخير يقضي من الوقت في المدرسة مالا يقضيه في أي مكان اخر، وبالتالي يسهل مراقبته والانتباه الى ما قد يفجره من طاقات ومواهب، وان غض الطرف عن مثل هذه الثروات الثمينة يجعل مآلها الدفن، وقد تتحول الى طاقات سلبية تنحرف بسلوك الطفل الى مالا يحمد عقباه، فمن الضروري جدا وجود لجان متخصصة همها الوحيد التنقيب عن المواهب الرياضية في المدارس والجامعات وفق معايير محددة ومطلوبة، كما أن تشجيع الرياضات التي لا تتطلب نفقات كبيرة خطوة مهمة نحو خلق متنفس جديد والتنويع من الممارسة الرياضية وعدم اقتصارها على أصناف معينة.
التنافسية ان لتعزيز التنافس الرياضي الشريف فوائد كثيرة، منها المساهمة في بناء الشخصية عن طريق تشجيع الاعتماد على النفس وتقليل التوتر والقلق واحترام الآخرين، خصوصا إذا مر في جو من المتعة والإثارة توفر للطفل نمط حياة صحي وسليم، فضلا عن تعليم النشء كيفية حل المشكلات التي يواجهونها وتقدير المسؤوليات والاحساس بالفخر والاعتزاز ومشاركة فرحة الفوز مع الجميع، ويعتبر التنافس الرياضي حقا مشروعا لإثبات الذات والاندماج في المجتمع وتحقيق حلم النجومية، غير أن مراقبة وإشراف الآباء والمدربين أمر بالغ الأهمية لتفادي الانجراف نحو الشغب والعنف.
من الملاحظ ان الرياضة الوطنية تعاني من قلة التنافسية الى حدٍ يُعتبر فيه الفوز والخسارة بالنسبة للمنافس سِيَّان، فلا روحا قتالية في الميدان، ولا إصرارا واضحا يدل على الإرادة الجادة للفوز، بل يدخل الرياضي المغربي غمار المنافسة وقد استقرت الهزيمة في ذهنه مسبقا، فتكون النتيجة طبعا كما توقعها بالفعل هزيمةٌ واقصاء مبكر وخروج من الباب الضيق كما جرت العادة، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التلاسن وتبادل الاتهامات على وسائل الاعلام، فالرياضي يتذرع بنقص الإمكانيات وضعف الاستعدادات، اما المسؤولون فيعزون الفشل لنقص الخبرة ويعدون بنتائج افضل في المنافسات القادمة، وهكذا مازالت الأمور تدور في حلقة مفرغة منذ أول عهد لنا بالرياضة كمتتبعين على شاشات التلفاز وفي المقاهي، ودائما ما كنا نتشبث بالأمل ليس انتظارا لمعجزات من أحد وانما عشقا للوطن والانتماء.
ان الحديث عن الرياضة الوطنية وإشكالية تقهقرها حديث يطول سرده، فالجرح غائر والتحديات كبيرة جدا تزيد صعوبتها يوما بعد يوم، والاكتفاء بالكلام في مثل هده الأحوال والامتناع عن الأفعال الارادية الجادة تزيد من صعوبة الأمر وتجعل الوضعية على ماهي عليها حتى اشعار اخر.
طال لعلو الدم
ضحايا لمنظور تقليدي متخلف
فعلا هي الرياضة تربية وتنشئة منذ الصغر ولا تأتي بمحض الصدفة. فالهدف منها تملك القدرات الحسحركية والدقة والإتقان والتمكن من التخطيط والاستراتيجية في تجاوز المشكلات بالإضافة إلى تربية بدنية سليمة واكتساب وتطوير طاقات الإبتكار والإبداع. المشكل هو المنظور التقليدي المتخلف للتعليم والتعلم المنحصر في الحشو والتلقين الأعمى باللغو والخطاب. المنظور هو التصور الذي يقصي ويهمش ويبخص مجالات الابتكار والإبداع ويقتصر على التبليغ والتنقيل الشفوي للمضامين الجافة والمعارف المتجاوزة والمكررة ولا يشجع المبادرة والتشاركية في بنائها وإدراك مغزى ومفهوم التعلم. تصور ينظر للمتعلم كإناء يجب ملؤه وضغطه بالكم ولا يعير للكيف وبأية وسيلة أدنى اهتمام. تصور يرى في مجالات التفتح دروسا لغوية عوض أن تكون وضعيات تعبيرية ومواقف تستحضر ذاتية وهوية وشخصية المتعلم. لازالت رؤيا الإصلاح حبيسة عقلية تقليدية منمطة ومحدودة تكرر نفسها في نفس المنظور التقليدي المتخلف ولن تتجاوز الفشل ما دامت كذلك.