رضوان اعميمي
بعد استكمال المشهد السياسي لما بعد الانتخابات التشريعية المجراة يوم 7 أكتوبر الجاري، بدأ الحديث بشكل كبير عن السيناريوهات المحتملة في تشكيل الحكومة المقبلة التي ستتولى قيادة المرحلة المقبلة لمدة خمس سنوات، بين من يرجح استمرار التحالف الحكومي القائم سابقا بقيادة حزب العدالة والتنمية المتصدر لنتائج الانتخابات مع بعض التعديلات التي أفرزتها هذه التشريعيات، وبين من يذهب في اتجاه حتمية البحث عن تعاقدات حزبية جديدة لتكوين الأغلبية الحكومية خاصة وأن حزب الأصالة والمعاصرة الذي حل ثانيا قد أعلن عن نيته الاصطفاف في المعارضة.
وبغض النظر عن السيناريوهات المحتملة يبقى التأكيد على أن الممارسة الدستورية السليمة تظل حاسمة في رسم معالم المرحلة المقبلة، خاصة وأن المغرب قد أبان على تغليب الخيار الديمقراطي من خلال نجاحه في تنظيم الاستحقاقات التشريعية في محيط دولي وإقليمي مضطرب، اتفق الجميع على نزاهتها، الشيء الذي يجعل من المغرب نموذجا سياسيا يشق طريقه بثبات في درب الديمقراطية ودولة المؤسسات، رغم التحديات الجدية التي أبانت عنها هذه المحطة الانتخابية خاصة على مستوى نسبة المشاركة التي لم تتعدى 43 بالمائة، والتي تساءل الدولة والفاعل السياسي والمجتمع المدني على قدرتهم على رفع تحدي المشاركة السياسية باعتبارها مؤشرا على الانخراط الكامل للمواطن في تدبير الشأن العام وما لذلك من أثر على نجاح السياسات العمومية وقابليتها للتنزيل.
وهكذا، فإن أنظار الرأي العام ستتوجه نحو مخرجات العملية الديمقراطية أي تشكيل الحكومة، حيث أطر الدستور المغربي هذه المرحلة بمجموعة من الآليات التي تضمن احترام الخيار الديمقراطي وإرادة الناخبين، سواء تعلق الأمر بتعيين الحكومة أو بتنصيبها، وهما مرحلتين أساسيتين لاستكمال السلطة الحكومة للمراحل القانونية لوجودها وممارستها للصلاحيات الدستورية والقانونية المخولة لها.
أولا. تعيين الحكومة.
على عكس الدساتير السابقة للمملكة، فقد حسم المشرع الدستوري لسنة 2011، في الجدل السياسي والقانوني حول مسألة تعيين الحكومة سواء من قبل الجهة المختصة أو من حيث الهيئة السياسية المعنية.
الملك من يعين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات
طبقا لمقتضيات الفصل 47 من الدستور فإن الملك يختص بتعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها، حيث اتجه العرف الدستوري بالمغرب على تعيين الأمين العام للحزب المتصدر للانتخابات وفي ذلك احتراما لشرعية العمل السياسي، ولاستقلالية القرارات الحزبية خاصة في اختيار أمنائها العامين ممن يقود المرحلة الحزبية برمتها.
وعليه فإن الوثيقة الدستورية كانت صريحة من حيث تغليب إرادة الناخبين في تعيين رئيس الحكومة، إلا أنها ظلت غامضة من حيث مسألة تشكيل التحالفات خاصة وأن عبارة "وعلى أساس نتائجها" تفيد من المنطق الدستوري أن رئيس الحكومة ينتمي وجوبا إلى الحزب الأغلبي، في حين يظل تشكيل الحكومة نابعا من منطق نتائجها، خاصة وأن النظام الانتخابي المغربي لا يمنح فرصة للأحزاب السياسية للانفراد بأغلبية مقاعد مجلس النواب وبالتالي الظفر بحرية أكبر في اختيار التحالف أو الاكتفاء الذاتي في تشكيل الحكومة.
وانطلاقا من هذه القراءة المجردة، فإن المنطق الدستوري يقتضي تشكيل الحكومة من الأحزاب الأولى في الانتخابات التشريعية لما لذلك من احترام لإرادة الناخبين، خاصة وأن التقارب بين الحزبين الأولين يفرض هذه المعادلة، إلا أن الواقع السياسي الحالي يجعل من التحالف بين حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة صعب المنال خاصة وأن الغريمين لطالما عبرا عن عدم التقاء مرجعيتهما الإيديولوجية والفكرية بل إن التناقض بين هاتين المرجعيتين هو سيد الموقف.
وهكذا، فإن تغليب المنطق الدستوري يقتضي من رئيس الحكومة المعين دعوة الأحزاب السياسية، الحائزة على المراتب المتقدمة، بشكل رسمي من أجل مناقشة إمكانية التحالف لتشكيل الحكومة، للحصول على موقف رسمي منها ولتفادي كل أزمة سياسية قد تنتج على رفض باقي الأحزاب السياسية ذات المقاعد المهمة للتحالف الحكومي، أو على الأقل التقليل من حدتها حال الرجوع إلى الملك.
وهنا لا بد من تسجيل ملاحظتين أساسيتين، ترتبط الأولى بكون المشرع الدستوري لم يحدد لرئيس الحكومة أجلا دستوريا معينا لتشكيل الحكومة الجديدة، وهو فراغ دستوري تفادته معظم الدساتير الديمقراطية، لما له من أهمية خاصة في تدبير مرحلة التحالفات وضمان تشكيل الحكومة في أحسن الظروف، لذلك فإن تفسير هذا الفراغ يسير في الاتجاه الذي يخول لرئيس الحكومة الوقت الكافي من أجل تدبير المرحلة لما لها من آثار على الاستقرار السياسي والدستوري للمملكة، خاصة وأن مرحلة تصريف الأعمال لا تزال قائمة إلى حين تعيين الحكومة الجديدة.
أما الملاحظة الثانية، فإن الدستور المغربي لم يعالج الحالة الدستورية التي يعجز فيها رئيس الحكومة على تشكيل الأغلبية الحكومية، ففي هذه الحالة وفي جميع الأحوال فإن الرجوع إلى الملك يبقى ضروريا باعتباره رئيسا للدولة والساهر على حسن سير المؤسسات، لذلك ينبغي التنبيه على أن الأمر لا يتعلق بفراغ دستوري، وإنما بتمكين الملك من ممارسة الصلاحية والدور التحكيمي الذي يلعبه في النظام الدستوري المغربي طبقا لمقتضيات الفصل 42 من الدستور الذي ينص على أن:" الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة".
وعليه، فإن من حسنات النظام الدستوري المغربي هو الحرص الكبير على استمرار مؤسسات الدولة، التي تضمنها المؤسسة الملكية، ما جعل من المغرب بعيدا عن الفوضى السياسية التي عاشتها وتعيشها بلدان الجوار وبعض الدول الإفريقية والناتجة عن صعوبات بنوية في ضمان الانتقال السلمي والسلس للسلطة.
ثانيا. صلاحيات الحكومة المعينة
بعد تعيين الملك لرئيس الحكومة، فإن هذا الأخير يتولى اقتراح أعضائها على الملك الذي يقوم بدوره بتعيينها، ورغم أن الفصل 47 من الدستور ينص على اقتراح أعضاء الحكومة فإن ممارسة هذا الفعل الدستوري لطالما تطلبت التنسيق والتشاور الداخلي بين
مؤسستي رئيس الدولة ورئيس الحكومة للوصول إلى صيغة حكومية مقبولة وهو ما يفسر استمرار ظاهرة الوزراء المستقلون أو التكنوقراط في المشهد السياسي المغربي، لكن ذلك لا يلغي مسؤولية رئيس الحكومة على التدبير الحكومي برمته، ذلك أن الفصل 89 من الدستور مكن الحكومة من ممارسة السلطة التنفيذية والعمل تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين، كما وضع الإدارة تحت تصرفها، حيث تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية، كما أن الدستور قد رتب وجوبا عن استقالة رئيس الحكومة إعفاء الحكومة بكاملها من لدن الملك (الفقرة 6 من الفصل 47 من الدستور).
هذا، وتنحصر سلطة الحكومة المعينة من قبل الملك خلال المرحلة السابقة على تنصيبها، في نقطتين أساسيتين، تتعلق الأولى بالإنهاء الفعلي لمهام الحكومة السابقة، والحلول محلها في تصريف الأمور الجارية، وذلك من خلال أهليتها في اتخاذ المراسيم والقرارات والمقررات الإدارية الضرورية وكذا التدابير المستعجلة لضمان استمرارية عمل مصالح الدولة ومؤسساتها، وضمان انتظام سير المرافق العمومية، مع تفادي كل التدابير التي من شأنها أن تلزم الحكومية المقبلة، أي التي سيتم تنصيبها برلمانيا في هذه الحالة، وخاصة ما يتعلق بالمصادقة على القوانين والمراسيم التنظيمية وكذا التعيين في المناصب العليا، لذلك فإن كل تدبير من هذا القبيل يعتبر باطلا لارتباطه بقواعد النظام العام الآمرة المحال عليها بموجب الدستور والمنصوص عليها بمقتضى قانون تنظيمي.
أما النقطة الثانية المرتبطة بصلاحيات الحكومة المعينة، فتتمثل أساسا في إعداد البرنامج الحكومي الذي يعرضه رئيس الحكومة أمام البرلمان لنيل ثقة مجلس النواب، وكذا إصدار قرارات تفويض الاختصاص أو الإمضاء اللازمة لاستمرارية المرافق العمومية أي في حدود سلطة تصريف الأمور الجارية.
وهكذا، يمكن القول أن مرحلة تعيين الحكومة تظل أساسية خاصة على مستوى استمرار مؤسسات الدولة والخدمات المرفقية العامة، في انتظار التنصيب الحكومي أمام البرلمان، وبالتالي ممارسة الحكومة صلاحياتها الكاملة.
ثالثا. تنصيب الحكومة
يعتبر التنصيب الحكومي بمثابة الثقة الممنوحة من ممثلي الأمة للسلطة التنفيذية من أجل ممارسة مهامها، ويتم ذلك من خلال تقديم رئيس الحكومة أمام مجلسي البرلمان مجتمعين، عرض البرنامج الحكومي الذي يعتزم تطبيقه، في مختلف مجالات النشاط الوطني، وبالأخص في ميادين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية والخارجية، حيث يحظى هذا البرنامج بمناقشة أعضاء المجلسين ثم التصويت عليه في مجلس النواب داخل أجل لا يتعدى خمسة أيام، لتعتبر بذلك الحكومة منصبة بعد التصويت لصالح البرنامج الحكومي بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم ذات المجلس.
أما في حالة عدم حصول الحكومة على هذه الثقة، وهي حالة تكاد تكون منعدمة في النظام الدستوري المغربي ذي الطبيعة البرلمانية حيث الحكومة مدعومة بأغلبية نيابية، فإنه يتعين تشكيل حكومة جديدة مع ما يترتب عن ذلك من إعادة صياغة البرنامج الحكومي للحصول على ثقة مجلس النواب من جديد.
وعموما، فإن مخرجات الانتخابات التشريعية لسابع أكتوبر لا تعد سوى محطة من محطات الممارسة الديمقراطية ببلادنا والتي يتعين الخضوع لقواعدها، وتمرينا للممارسة السياسية ببلادنا لما بعد دستور 2011، والذي ارتقى بهذه الممارسة من حيث الآليات والقواعد الأساسية، ليبقى على عاتق الفاعل السياسي الاخراط الفعلي في تطبيق روح الدستور ومقاصده بالطريقة التي تحفظ إرادة المواطن وتضمن التداول السلمي للسلطة بأبعاده وتعيد الثقة في العمل السياسي لتحقيق رهان المشاركة السياسية والاخراط الفعلي والواعي لمواطن في تدبير الشأن العام ومراقبة العمل الحكومي وبالتالي تغليب مصلحة الوطن ورفع تحدياته المستقبلية.